في الذكرى الـ 49 لثورة 14 تموز العراقية
بعد سلسلة الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب العراقي والكوارث التي نزلت عليه، بسبب تسلط التيار القومي العروبي وبالأخص البعثي الفاشي على الحكم نحو أربعة عقود، راح كثيرون من الناس يحمِّلون ثورة 14 تموز الوطنية مسؤولية هذه الجرائم بدلاً من إلقائها على المجرمين الحقيقيين، ناكرين أن هذه الثورة الوطنية هي نفسها كانت ضحية لتلك الجرائم. إذ نسى هؤلاء أن انقلاب 8 شباط 1963 كان بحد ذاته انتقاماً من ثورة تموز وعقاباً للشعب العراقي من أعدائه الذين استفادوا من تعقيدات الوضع العراقي والظروف الدولية، خاصة الحرب الباردة، لكي لا يتجرأ هذا الشعب ثانية فيتمرد على القوى الاستعمارية التي كانت تنهب خيراته، ويحكم نفسه بنفسه لأول مرة في التاريخ.ثورة أم إنقلاب؟
يميل البعض إلى تسمية ما حصل يوم 14 تموز 1958 بانقلاب عسكري وذلك كمحاولة لتجريد العملية من جميع مبرراتها ومنجزاتها. إن هذين المصطلحين، الإنقلاب والثورة، لهما مدلولاتهما العلمية والتاريخية ويجب عدم ترك إستخداماتهما للعواطف، لأن الفرق بينهما كبير. فالانقلاب يعني تبديل رجال الحكم بالعنف المسلح وغالباً بعملية عسكرية دون أن يكون مصحوباً بأي تغيير للنظام السياسي والإٌقتصادي والإجتماعي. أما الثورة فهي عملية تبديل الحكام، وقد يتم بالعنف المسلح أو بدونه، ولكن بالضرورة تكون مصحوبة بتغيير النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فالمهم هنا تغيير القاعدة الإقتصادية والإجتماعية وتطورهما من مجتمع قبلي متشضي ذو سمات شبه إقطاعية في الريف وعلائق كومبرادورية في المدينة، إلى مجتمع قائم على تعددية الأنماط الإقتصادية نحو العصرنة والتحديث وبالتالي تغيير الفئات الحاكمة من حيث جذر الإنتماء الطبقي.
وبناءً على ما تقدم، ماذا حصل يوم 14 تموز وما تلاه؟
إن "الحدث" الذي حصل في ذلك وما تلاه من تغييرات هائلة مثل: اسقاط النظام الملكي وإقامة النظام الجمهوري وتبنى سياسة عدم الانحياز وإلغاء جميع المعاهدات الاستعمارية الجائرة المخلة بالاستقلال الوطني والخروج من الأحلاف العسكرية (حلف بغداد) وتحقيق الإستقلال السياسي التام والسيادة الوطنية الكاملة وتحرير الإقتصاد والعملة العراقية من الكتلة الإسترلينية وإلغاء حكم العشائر والنظام الإقطاعي وتحرير الملايين من الفلاحين الفقراء من سيطرة الإقطاعيين بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وتحرير 99.5% من الأراضي العراقية من سيطرة الشركات النفطية الإحتكارية بإصدار قانون رقم 80، وازدهار الصناعة، وبناء عشرات الأحياء السكنية للفقراء (مدينة الثورة مثالاً)، والتفاف الجماهير حول قيادة الثورة وحماية منجزاتها…وغيرها والقائمة تطول… وبعد كل هذه التغييرات التي حصلت في المجتمع العراقي بعمق، فلا يمكن لأي باحث منصف إلا وأن يعترف بأن ما حصل يوم 14 تموز كان ثورة بكل معنى الكلمة.
ولعل أدق شهادة بهذا الخصوص جاء على لسان المستشرق الفرنسي المعاصر، مكسيم رودنسون الذي قال: "إن ثورة 14 تموز العراقية هي الثورة الوحيدة في العالم العربي" وأيد ذلك بقوة الموضوعية الباحث حنا بطاطو عندما سأل: "هل ترقى أحداث 14 تموز (يوليو) إلى مستوى الثورة أم أنها مجرد إنقلاب؟ ويجيب قائلاَ: "والواقع إن إلقاء نظرة سريعة على الآثار اللاحقة، يكفي لجعلنا نعرف أننا أمام ثورة أصيلة. ولم يكن لظاهرة سياسية سطحية أن تطلق كل تلك المشاعر بهذا العنف... والواقع إن 14 تموز أتى معه بأكثر من مجرد تغيًر في الحكم. فهو لم يدمرً الملَكية أو يضعف كل الموقع الغربي في المشرق العربي بطريقة جذرية فحسب، بل أن مستقبل طبقات بأسرها ومصيرها تأثر بعمق. ولقد دمرت إلى حد كبير السلطة الإجتماعية لأكبر المشايخ ملاكي الأراضي ولكبار ملاكي المدن، وتعزز نوعياً موقع العمال المدينيين والشرائح الوسطى والوسطى الدنيا في المجتمع. وتغير كذلك نمط حياة الفلاحين نتيجة لإنتقال الملكية من ناحية، ولإلغاء أنظمة النزاعات القبلية وإدخال الريف في صلب القانون الوطني من ناحية أخرى" . لذا فإننا ننظر إلى إنجازات الثورة بالإرتباط إلى ما حققته من تحولات كبيرة في المجتمع العراقي وبقيت تأثيراتها حتى اليوم رغم الثورات المضادة. إذنْ، فنحن هنا نتحدث عن ثورة بكل معنى الكلمة.
ضرورات التغيير
هناك مقولة في علم الاجتماع تفيد أن كل مرحلة تاريخية هي وليدة المرحلة السابقة، لذلك فإن بذور ثورة 14 تموز قد نمت في رحم العهد الملكي نفسه. والثورات لا يمكن تفجيرها "حسب الطلب" أو بفرمان من أحد وإنما هي نتيجة لانفجار تراكمات ومظالم ومتطلبات سياسية واجتماعية واقتصادية، وعندما تنتفي الوسائل السلمية الديمقراطية لتحقيق هذه التحولات المطلوبة، وتتوفر لها الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، عندئذِ يحصل التغيير بالعنف الدموي وما يصاحب ذلك من هزات عنيفة واضطرابات خطيرة في المجتمع.
كذلك يجب التوكيد أن ثورة 14 تموز كانت الإبنة الشرعية لثورة العشرين (30 حزيران 1920) ووريثتها، مضموناً وفكراً والتي أرغمت المستعمرين الإنكليز في الإستجابة لمطالب الشعب العراقي في تأسيس الدولة العراقية فيما بعد، كما مر آنفاً. إلا إن الإستقلال السياسي بقي ناقصاً دون طموحات الشعب وقواه السياسية، وكانت الدولة مرتبطة بمعاهدات جائرة، لذلك استمرت الإنتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية والإنقلابات العسكرية، تتفجر بين حين وآخر، وكانت ثورة 14 تموز نقلة نوعية لجيل جديد من أبناء الشعب العراقي، وتتويجاً لتلك الإتفتضات والحركات السياسية، ومكملةَ لثورة العشرين، فحققت طموحات الشعب العراقي في إنجاز إستقلاله السياسي الكامل وسيادته الوطنية ومهدت السبيل للسيطرة على ثرواته الطبيعية مستقبلاً.
تدشين مرحلة الإنقلابات وتسيس العسكر
كما ذكرت أعلاه، يحاول البعض، سواء عن جهل أو عمد، تحميل ثورة 14 تموز 1958، تبعات سياسات النظام البعثي الساقط وما حل بهذا البلد من خراب ودمار مدعين أنه لولا ثورة 14 تموز لما ابتلى العراق بهذا النظام ولما نزلت عليه هذه الكوارث. فهؤلاء فقط يذكرون ما حصل بعد الثورة ويتجنبون ذكر ما كان يجري قبل الثورة أي الأسباب التي أدت إلى تفجيرها. ويقول هؤلاء أن ثورة تموز دشنّت عهداُ للانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار وأن العهد الملكي كان عهداً ديمقراطياً زاهراً مستقراً، فيه دستور وانتخابات وبرلمان وأحزاب معارضة ديمقراطية كانت تمارس نشاطاتها بحرية تحت قبة البرلمان، وحقق تقدماً واسعاً في التطور الاجتماعي والاقتصادي، وكان نبتة طرية لبناء المجتمع المدني ومؤسساته الديمقراطية "لولا اقتلعها عبد الكريم قاسم" على حد تعبير بعضهم. وبذلك فهم يدَّعون أنه لم تكن هناك أسباب كافية لقيام "الإنقلاب" وإن ما حصل في 14 تموز 1958 كان نتيجة طيش بعض الضباط المغامرين في الجيش لتحقيق طموحاتهم في السلطة والدخول في السياسة.
في الحقيقة، إن المسئول الأول والأخير عن اندلاع ثورة 14 تموز 1958 هو النظام الملكي نفسه ونوري السعيد تحديداً، الذي وقف ضد الديمقراطية والتحولات الاجتماعية وأمعن في انتهاك حقوق الجماهير الديمقراطية وأعاق تطور مؤسسات المجتمع المدني و توقف عن التطور السلمي التدريجي ووقف عقبة كأداء أمام التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها قوانين التطور إلى أن استنفد دوره. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قام نوري السعيد عام 1954 بانقلاب القصر على الإصلاحي الليبرالي فاضل الجمالي رئيس الوزراء آنذاك والذي قام ببعض الإصلاحات السياسية فأجرى انتخابات برلمانية تمتعت بهامش من الحرية، استطاعت خلالها الأحزاب الوطنية المعارضة بفوز 11 مقعد من مجموع 131 مقعد في البرلمان. إلا إن نوري السعيد لم يتحمل هذا العدد القليل من نواب المعارضة فرتب إنقلاب القصر على الجمالي وحل البرلمان بعد يوم واحد فقط من مراسيم افتتاحه بخطبة العرش. وقد فشلت حتى الانتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية في تغيير سياسة السلطة نحو الأفضل، لذا يئس قادة المعارضة من أي أمل في الإصلاح السياسي بالوسائل السلمية. ولذلك صرح قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم مرة: "لو اعتقدنا أنه كان باستطاعة الشعب أن يزيل كابوس الظلم الجاثم على صدره، لما تدخلنا بالقوة المسلحة، ولكننا كنا نعرف أن الناس كانوا يائسين ولا من يدافع عنهم ."
إن إلقاء تهمة تسييس العسكر وتدشين مرحلة الانقلابات على ثورة 14 تموز لم يصمد أمام أية مناقشة منصفة. إذ لم يكن العسكر غرباء عن الدولة العراقية في عهدها الملكي، فأغلب المساهمين في تأسيس الدولة العراقية كانوا من العسكر، سواءً الذين عرِفوا بالضباط الشريفيين من خريجي المدرسة العسكرية التركية ومنهم نوري السعيد نفسه الذي كان برتبة جنرال والذي تولى رئاسة الحكومة 14 مرة. كذلك الفريق جعفر العسكري والفريق نورالدين محمود، كانوا عسكريين وتسنموا رئاسة الحكومة في العهد الملكي، أم غيرهم من الضباط العراقيين في الجيش العثماني. لا بل أن العسكر قد وجدوا حتى قبل تأسيس الدولة العراقية، بمعنى أنهم كانوا مسيّسين قبل تأسيس الدولة ولهم دور كبير في تأسيسها. وكون العراق يعيش وضعاً متخلفاً كأي بلد في العالم الثالث، وهو أن الدولة كانت تابعة للجيش وليس الجيش تابعاً للدولة.
فمرحلة الإنقلابات العسكرية لم تبدأ بيوم 14 تموز 1958 كما يدعي البعض، وإنما دشنت في العهد الملكي نفسه بإنقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936، (ويعتقد البعض أن الملك غازي كان مشاركاً به) وما تلاه من خمسة إنقلابات عسكرية أخرى وأحداث مايس 1941 بقيادة العقداء الأربعة والتي عرفت بحركة رشيد عالي الكيلاني. وكانت هناك محاولات انقلابية عسكرية لم يكتب لبعضها النجاح، كلها حصلت في العهد الملكي أي قبل 14 تموز 1958. وبذلك فإن تسييس العسكر وتدشين الانقلابات العسكرية قد حصلا في العهد الملكي وإن ثورة 14 تموز هي نتيجة وليست سبباً لتسييس العسكر.
الخلاصة والاستنتاج
ومن كل ما تقدم، نستنتج ما يلي: إن ما حصل يوم 14 تموز كان ثورة وطنية أصيلة وحتمية فرضتها ظروف تاريخية ملحة. وكان مطلباً جماهيرياً شاركت به الأحزاب والقوى السياسية المنضوية في جبهة الاتحاد الوطني، وكانت تنظيمات العسكر بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم هي الأداة الضاربة للجناح المدني السياسي لتحقيق التغيير. والدليل على ذلك هو التأييد العارم الذي نالته الثورة من الشعب العراقي منذ لحظاتها الأولى، من أقصى العراق إلى أقصاه.
وكانت ثورة تموز حصيلة تراكم نضالات جماهير شعبنا منذ ثورة العشرين، مروراً بالإنتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية لتحقيق الإستقلال السياسي الناجز والسيادة الوطنية والديمقراطية. وكانت السلطة الملكية ديمقراطية في المظهر وديكتاتورية في الجوهر وبواجهة برلمانية مزيفة ومكروهة، تعيش عزلة خانقة بسبب اضطهادها للجماهير الشعبية والأحزاب الوطنية، والدليل على ذلك عدم خروج أية قوة في المجتمع العراقي للدفاع عنها. لذا فقد استنفد النظام الملكي مبررات وجوده وصار عقبة كأداء أمام التطور الحتمي بحكم التاريخ، وقضى على أي أمل في إجراء التغيير المطلوب بالطرق السلمية. لذلك لم يبق أمام قيادات القوى الوطنية والأحزاب السياسية وتنظيمات الضباط الأحرار سوى اللجوء إلى القوة، خاصة وقد توفرت لها الشروط الموضوعية والذاتية لتحقيق التغيير التاريخي المطلوب بالثورة المسلحة وهذا ما كان.
وختاماً، يجب أن لا نحكم على مبررات ثورة 14 تموز بعقلية اليوم وعلى ضوء ما حصل من كوارث على يد نظام البعث الفاشي الساقط وتبعات ومضاعفات سقوطه، بل يجب أن نحكم عليها وفق عقلية جيل الخمسينات وطموحاته المشروعة في الحياة الحرة الكريمة، فلكل جيل عقليته السياسية وظروفه الموضوعية وطموحاته ومبرراته وحقه في تقرير مصيره، ومن حقه أن يتصرف بالشكل الذي يناسب المرحلة وطموحات الشعب آنذاك، لأن الأمور مقرونة بأوقاتها. فلو لم يتم ذبح الثورة الوطنية ولو فسح لها المجال لتنفيذ برنامجها الإصلاحي، وبما يملكه البلد من خيرات وثروات طبيعية وبشرية هائلة، لكان العراق يعيش الآن في مصاف دول العالم الأول.