Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

في الذكرى 51 لثورة تموز/يوليو 1958.. الدروس والمهمات الراهنة

-1-
يستقبل الشعب العراقي في هذا اليوم الذكرى 51 لانتفاضة وحدات من الجيش العراقي بقيادة حركة الضباط الأحرار وقائدها عبد الكريم قاسم لإنهاء نظام الحكم السياسي القائم وسعي الشعب لتحويلها إلى ثورة اجتماعية تنقل العراق من علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية إلى علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة وبناء المجتمع المدني الدستوري حيث تسود فيه مبادئ الحرية الفردية والحياة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتأمين حياة آمنة ومستقرة وسعيدة للشعب بأسره.

ومنذ سنوات, وكلما اقتربنا من الذكرى السنوية, تظهر كتابات غير قليلة تقدم تحليلات متباينة عن طبيعة ثورة تموز 1914 وعن العوامل الكامنة وراء تلك الثورة وعن دورها في الحياة السياسية العراقية منذ وقوعها حتى الآن. ويبدو أن هناك وجهتي نظر تتصارعان, إحداهما تشير إلى أن الثورة لم تكن ضرورية وأنها المسؤولة عما جرى ويجري في العراق, والثانية تؤكد بان لم يكن ممكناً إيقاف الثورة, وإنها كانت نتاجاً لعملية موضوعية لا مرد لها في ظل الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية التي سادت حينذاك. فما هي حقيقة هذه الثورة وما هي العوامل الكامنة وراء التحرك العسكري والشعبي وما النتائج أو العواقب التي نشأت بسببها؟

-2-

لم تكن انتفاضة وحدات من الجيش العراقي عملية عفوية أو عبثية أو نتيجة غير متوقعة لما كان يجري في العراق حينذاك, بل كانت عملية موضوعية ونتيجة منطقية لما كان يعاني منه الشعب العراقي طوال عدة عقود. وهي تجسيد لتفاعل وتشابك عوامل موضوعية وذاتية نضجت وتبلورت خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وأحداث فلسطين, ثم تفاقم التناقض والصراع في ما بين الشعب العراقي والمصالح البريطانية في العراق وموقف الحكم من مصالح الشعب ومصالح الاحتكارات النفطية وفئات الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية والعقاريين. ولم تكن الوحدات العسكرية بقيادة حركة الضباط الأحرار واللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني سوى الأداة التاريخية لقطف ثمار ما كان قد نضج فعلاً وما كان الشعب يسعى إليه. وقد تجلى ذلك في أعقاب وقوع الانتفاضة حين برز بوضوح عجز النظام عن الدفاع عن نفسه من جهة, واستعداد القوى السياسية المعارضة والشعب بكل فئاته الاجتماعية لا في قبول عملية التغيير التي أطلق شرارتها تنظيم الضباط الأحرار حسب, بل والمشاركة الفاعلة فيها وضمان انتصارها وحمايتها. من عاش هذه الفترة أو من قرأ تاريخ هذه الفترة والفترة التي سبقتها بإمعان, سيدرك الشروط الموضوعية والذاتية التي كانت قد نضجت فعلاً وقادت إلى انطلاق الانتفاضة العسكرية, ومن ثم السعي لتحويلها إلى ثورة اجتماعية. فقد سبقت ذلك أحداثاً كثيرة, ومنها:

* الحركات القومية السياسية والعشائرية في فترة 1932-1935 مثلاً؛

* انقلاب بكر صدقي العسكري في العام 1936 وانقلاب مايس/ايار 1941.

* النضالات السلمية للفترة الواقعة بين 1942-1947 التي استهدفت تكريس الحياة الدستورية والبرلمانية النزيهة, ولكن دون جدوى, حيث مارست قوى الحكم سياسات قهرية ضد قوى المعارضة ومطالب الشعب.

* وثبة كانون الثاني 1948 بالارتباط مع الرغبة في إلغاء معاهدة 1930 والسعي لفرض معاهدة بورتسموث المماثلة على العراق والسياسات غير الديمقراطية للحكم.

* الصدمة التي تلقاها الجيش والشعب في أحداث فلسطين في العام 1948 والشعور بوجود تأمر حكومي على مستوى الدول العربية ضد الشعب الفلسطيني ومجاراة السياسة البريطانية في المنطقة.

* عمليات الإعدام التي لم يشهدها العراق الحديث إلا عند تنفيذها في قادة حركة مايس 1941 العسكريين الأربعة, والضباط الكُرد الأربعة بعد أحداث 1946 رغم الوعود التي قطعت لهم بعدم تقديمهم للمحاكمة, وكذلك إعدام خمسة من قادة الحزب الشيوعي العراقي في العام 1949.

* قانون إسقاط الجنسية عن اليهود وترحيل قسري عملياً لأكثر من 130 ألف يهودية ويهودي عراقي من البلاد ودفعهم إلى إسرائيل وفق مؤامرة اشتركت فيها ثلاثة أطراف هي بريطانيا وإسرائيل والحكومة العراقية.

* انتفاضة تشرين الثاني 1952.

* مجازر نظمتها الحكومة ضد سجناء سياسيين في سجني بغداد والكوت وراح ضحيتها الكثير من السجناء العزل, وكلهم أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي أو من مناصريه.

* المراسيم الجائرة التي صدرت في العام 1955 في فترة حكومة نوري السعيد, ومنها إسقاط الجنسية العراقية عن عدد من المناضلين العراقيين, ثم العدوان الثلاثي على مصر وموقف الحكومة العراقية السلبي من الدفاع عن مصر ومن انتفاضة 1956 الشعبية وقتل وإعدام العديد من المناضلين.

* إقامة الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن دون العودة إلى الشعبين لاستشارتهما وإجراء الاستفتاء الشعبي حول الاتحاد.

* ابتعاد الحكم عن التفكير بأوضاع الناس الاقتصادية والمعيشية واستمرار حالة الفقر والبطالة وضعف التوجه صوب التنمية وتشغيل العاطلين وتحسين مستوى حياة ومعيشة الناس الفقراء وتفاقم استغلال كبار الملاكين للفلاحين الفقراء في ريف العراق.

-3-

لقد جوبهت جميع تلك النضالات الشعبية بسياسات استبدادية جائرة والتصدي للمشاركين فيها بقسوة بالغة وزج الناس بالسجون والمعتقلات أو القتل العمد وأحكام قاسية, سواء أكان بالسجن والنفي أم بالتعذيب والإعدام بدلاً عن الالتزام بإرادة الشعب وتحقيق التغييرات المنشودة والتخلص من الحكومات الفاسدة, مما قاد إلى تشديد الصراع بين النخبة الحاكمة والمجتمع بأغلبه. لقد أخل نظام الحكم بالقانون الأساسي (الدستور) العراقي في بنوده الديمقراطية من جوانب عدة نشير إلى أبرزها:

1. عدم الفصل بين السلطات الثلاث عملياً رغم وجودها شكلياً, وعدم استقلال القضاء وفق ما أقره القانون الأساسي (الدستور).

2. التجاوز الفظ على القانون الأساسي من خلال تشويه مؤسسات الدولة الدستورية وتزييف الانتخابات النيابية وتخريب الحياة السياسية في البلاد وباعتراف الحاكمين أنفسهم, ومنهم نوري السعيد.

3. التجاوز على مضمون الدستور بإصدار تشريعات (قوانين ومراسيم) ذات مضمون قمعي استبدادي ورجعي في آن واحد.

4. عدم الالتزام بقرارات الحكومة وتعهداتها أمام عصبة الأمم بشأن حقوق الشعب الكردي والقوميات الأخرى والتي تبلورت في تهميش حقيقي للشعب الكردي وقواه السياسية, إضافة إلى الابتعاد عن احترام إرادة الناس.

5. الاستبداد والعنف والقسوة في التعامل مع مطالب الشعب والحياة السياسية الديمقراطية من خلال إصدار أحكام ظالمة بالسجن والنفي والقتل والإعدام للمواطنين والمواطنات دون توفير فرصة الدفاع المشروع والنزيه عن النفس.

6. ضعف استخدام موارد العراق النفطية والمالية والموارد الخاصة في عملية التنمية, سواء أكان من جانب الدولة أم القطاع الخاص, والذي أدى إلى نمو البطالة والبطالة المقنعة في دوائر الدولة ووجود فئات واسعة من الفقراء والمعوزين بجوار تنامي ثروة الأغنياء.

7. مساهمة البلاط بشخص الوصي على العرش عبد الإله بن علي بن حسين في رسم وإقرار وممارسة تلك السياسات المناهضة لمصالح الشعب العراقي والتي حصدت كراهية الشعب ورفضه لها وللبلاط, رغم افتراض أن الملك مصون غير مسؤول وفقاً للقانون الأساسي.

8. البدء بدخول العراق في نهج ومخطط السياسات العسكرية للدول الرأسمالية في فترة الحرب الباردة حينذاك والتي تبلورت في مشروع الشرق الأوسط وحلف بغداد, الذي أصبح العراق عضواً أساسياً فيه إلى جانب تركيا وإيران وباكستان وبريطانيا والولايات المتحدة كمراقب ومن ثم مشارك فعلي.

-4-

قاد هذا الواقع إلى نشوء فجوة عميقة وواسعة يصعب ردمها بين الشعب وقوى المعارضة السياسية من جهة, ونظام الحكم والقوى الحاكمة وكبار ملاكي الأراضي الزراعية والعقاريين والبلاط الملكي من جهة أخرى, وإلى حصول تحرك جديد في صفوف الجيش, إضافة إلى التحرك الجديد في صفوف الشعب والمعارضة. فنشأت حاجة موضوعية لعملية التغيير ولم يعد هناك من يستطيع إيقاف سير العملية الموضوعية إرادياً, وإلا لما نجحت الانتفاضة ولما وجدت التأييد العارم من أوساط الشعب الواسعة.

-5-

لا شك في أن الوضع في منطقة الشرق الأوسط وعلى صعيد الدول النامية كان في حراك دائم, غذ تصاعد المد الثوري على صعيد حركة التحرر الوطني وأحرزت أفريقيا واسيا الكثير من النجاحات في نضالها لإقامة دولها الوطنية المستقلة أو تعزيز استقلالها وسيادتها الوطنية, إضافة إلى دور بلدان المعسكر الاشتراكي في دعم حركات التحرر الوطني على الصعيدين الشعبي وفي الأمم المتحدة وأخبار النجاحات والعدالة في توزيع الثروة الوطنية التي كانت تصل إلى مسامع شعوب الدول النامية عن أوضاع الدول الاشتراكية في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وتطلع شعوبها للحرية والعدالة الاجتماعية. لقد كان العالم في حراك والرأسمالية تكشف عن المزيد من مصاعب الحياة فيها, وخاصة أزماتها الاقتصادية, في حين لم يكن العالم يسمع عن أزمات ومصاعب اقتصادية في الدول الاشتراكية رغم وجودها والتي تسببت فيما بعد, بسبب عدم الاعتراف بها ومعالجتها وأسباب أخرى إلى انهيارها.

-6-

كل هذه العوامل الداخلية والإقليمية والدولية وغيرها لعبت دورها في جعل قيام الثورة أمراً مطلوباً وليست حالة طارئة أو قسرية, مما أدى إلى نجاحها في إسقاط الملكية وقيام الجمهورية العراقية.

لا شك في أن الزعيم الركن عبد الكريم قاسم لعب دوراً أساسياً ورئيسياً في إنجاح الانتفاضة العسكرية من خلال عدد من الإجراءات المهمة, ومنها:

* تشكيل تنظيم الضباط الأحرار وتوحيد المجاميع التي وجدت حينذاك أو التعاون والتنسيق مع بعضها الآخر.

* تشخيص مجموعة من المهمات الوطنية والاجتماعية والديمقراطية والخارجية التي كان الشعب يدعو لها ويؤيدها والتي ساهمت بتوفير أرضية مناسبة للاتفاق مع برنامج اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت في العام من أربعة أحزاب سياسية (الحزب الوطني الديمقراطي, حزب الاستقلال, الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي ومشاركة غير مباشرة لحزب خامس هو الحزب الديمقراطي الكردستاني في العام 1957.

* الاتصال بالقوى والأحزاب السياسية المدنية للتعاون والتنسيق معها في تنفيذ الانتفاضة العسكرية, إذ أن صلة هذه الأحزاب كانت قوية وهي الضمانة لتعبئة فئات المجتمع إلى جانب الانتفاضة والتي تمثلت بقوى الجبهة.

* الاحتفاظ بسرية عالية في التحضير للانتفاضة واختيار اللحظة المناسبة لتنفيذ العملية وإنجاحها. وكان نجاح الانتفاضة وتحولها إلى مسيرة ثورية وثورة شعبية قد ارتبط بما اتخذته القيادة العسكرية والحكومة من سياسات وإجراءات في الأسابيع والأشهر الأولى. ولكنها لم تكن كافية لمواصلة المسيرة.

لقد كانت هذه المواقف والإجراءات ضمانة لنجاح الانتفاضة وسر انتصارها.

-7-

لقد أخل عبد الكريم قاسم بعدد من المسائل التي ألحقت الضرر الكبير بالثورة ومسيرتها واتجاهات تطورها, ومنها بشكل خاص:

1. انفراده مع عبد السلام محمد عارف في اختيار ساعة الصفر وإبلاغ وحداتهما بموعد العملية دون إبلاغ بقية قيادة حركة الضباط الأحرار بالموعد للمساهمة بها. خلق هذا الموقف مشكلات وحساسيات كثيرة رافقت مسيرة الثورة ولعبت دورها السلبي لاحقاً في صفوف الضباط الأحرار وفي زعزعة الثقة والتضامن بين حركة الضباط وبدء المنافسة في ما بينهم والتآمر على بعضهم. ويفترض أن نشير هنا إلى التمايز الذي حصل في أعقاب نجاح الانتفاضة العسكرية في توزيع المناصب الوزارية والمواقع الأساسية في الدولة والقوات المسلحة بين جماعة معينة من الضباط وإبعاد جماعة أخرى من أعضاء حركة الضباط الأحرار عن مواقع المسؤولية السياسية المهمة. وكان الأفضل والأصوب هو انسحاب كل العسكريين إلى ثكناتهم.

2. تراجع قاسم عن الوعد الذي قطعه على نفسه ومع اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني في تسليم السلطة بعد فترة انتقالية وجيزة إلى المدنيين وعودة القوات المسلحة إلى معسكراتها استفادة من تجربة 1936.

3. عدم تنفيذ الالتزام بوضع وإقرار دستور البلاد الجديد والبدء بإقامة المؤسسات الدستورية والحياة الحزبية الشرعية.

4. الاعتماد على قرارات وسياسات فردية دون أن يسمح لمؤسسات الدولة القائمة والحكومة وأجهزتها في أن تلعب دورها الطبيعي في دراستها وإقرارها أو رفضها, مما ساعد على نشوء الفوضى والعفوية والصراعات وما نشأ عنها من نزاعات دموية.

5. تخلى قاسم فعلياً عن مهمة إجراء تغيير مدروس ومنظم وديمقراطي في أجهزة الدولة لتتماشى هذه الأجهزة مع التغيرات التي حصلت في المهمات والأهداف واتجاه تطور البلاد, وبالتالي أبقى على نقطة الاحتكاك بين مصالح المجتمع ومصالح أجهزة الدولة التي برزت عملياً في رفض أو عرقلة وتعطيل تنفيذ قرارات رئيس الحكومة والقوانين الصادرة عن مجلس الوزراء ومجلس السيادة.

-8-

عبَّر نجاح حركة الضباط الأحرار في الاستيلاء على السلطة في بغداد في الرابع عشر من تموز من عام 1958 عن دور وأهمية التكامل والتفاعل الإيجابي المثمر بين نضوج الظروف الموضوعية لعملية التغيير السياسي والاجتماعي, وبين الاستعداد الواعي للقوى المنتفضة وتنسيقها وتناغمها النسبي مع حركة الجماهير الشعبية الواسعة المعارضة للسلطة الملكية - الإقطاعية وللهيمنة الأجنبية غير المباشرة حينذاك. كما عبَّر في الوقت نفسه عن أهمية التحالفات السياسية- الاجتماعية التي كانت قد نشأت قبل ذاك في إطار جبهة الاتحاد الوطني في توفير المستلزمات الضرورية لنجاح مثل تلك الانتفاضة, وخاصة دورها في نشر الوعي السياسي وفضح سياسات نظام الحكم وتأمين التفاف أوساط واسعة من الشعب حول الحركة وقيادتها السياسية, رغم التباينات التي كانت قائمة في ما بين تلك الأحزاب والقوى على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية, أو التباين بينها وبين القيادة العسكرية للحركة. ومنذ الوهلة الأولى لانتصار الحركة المسلحة سعت الجماهير الشعبية الواسعة إلى التدخل الفعلي لحسم الموقف لصالح الانتفاضة وإلى فرض وجودها وثقلها السياسي على القيادة السياسية الجديدة وإلى محاولة تحويل تلك الانتفاضة العسكرية المسلحة إلى ثورة شعبية تتبنى مضامين سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة تستجيب لطبيعة المرحلة ومضمون المهمات الداخلية والعربية والدولية التي ناضل من أجلها الشعب, وكان من الممكن تحقيقها, إذ إنها كانت تعبر بشكل عام عن المصالح الأساسية والحيوية للقوى الاجتماعية والسياسية المساهمة في العملية الثورية.

-9-

وقد لعب التباين في طبيعة القوى العسكرية المشاركة في الانتفاضة وفي إسنادها بعد وقوعها إلى حصول حالات قتل وسحل ثلاثة من قادة الحكم الملكي (الوصي على العرش ونوري السعيد وولده صباح) مع قتل الملك وآخرين. وقد أساء هذا العمل الوحشي إلى مجمل العملية السلمية التي تميزت بها الانتفاضة العسكرية. وكان لهذا الفعل أثره السلبي على الموقف من الثورة محلياً وعربياً ودولياً. وقد جاء هذا الفعل كرد فعل انتقامي غير مشروع لضحايا النظام والتعبير الصارخ عن حقد وكراهية متراكمة ضد النخبة الحاكمة والبلاط الملكي. وتستوجب الشفافية والصراحة أن نشير إلى ثلاث ملاحظات مهمة, وهي:

* أن هذا العمل غير سياسي وغير أخلاقي وانتقامي وغير مبرر بأي حال ومهما كانت الأسباب.

* إن هذا العمل لم يكن مقرراً من جانب قائد حركة الضباط الأحرار, بل جاء بمبادرة من بعض الضباط وخاصة عبد السلام محمد عارف, كما أنه لم يكن مقرراً من جانب اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني.

* ولكن لا بد من الإشارة بصراحة ووضوح إلى أن تاريخ العراق الطويل مليءٌ بالكثير من هذه الأفعال الشائنة التي كان الحكام يشجعون عليها, وهي لا تعبر عن مستوى حضاري إنساني, بل عن فعل انتقامي مرفوض ومدان.

-10-

وبعد أن بدأت الحركة الشعبية تفرض جملة من شعاراتها على السلطة السياسية وتتجلى في مجموعة من القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على المستويات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية, بدأت الخلافات في الرؤية والأهداف والمواقف تظهر على سطح الأحداث وتجد تعبيرها الصارخ والمضر لا في الشارع السياسي حسب, بل وعلى صعيد السلطة السياسية وفي القوات المسلحة حيث احتدمت الخلافات بين مختلف الأجنحة العسكرية والمدنية, وخاصة الحزبية منها. وعندها أبتعد العمل السياسي عن الحلول الديمقراطية والسلمية والتحري عن سبل للمساومة وعن أرضية أو قواسم مشتركة, وأتجه تفكير وعمل الجميع نحو الإقصاء والحسم باستخدام أساليب القمع أو التآمر والتحضير لانقلابات عسكرية لمعالجة المشكلات التي تفاقمت بين الأحزاب والقوى السياسية المحلية. وهنا لعبت القوى العربية والإقليمية والدولية, وخاصة الدول القومية العربية (مصر وسرويا) والمملكة الأردنية الهاشمية ودول الخليج العربية ودول الجوار غير العربية وشركات النفط الاحتكارية الدولية, دورا كبيرا وأساسيا لا في تأجيجها وقطع الطريق عن معالجتها سلميا وديمقراطيا حسب, بل وفي مدّ بعض القوى المتصارعة بالمزيد من الدعم والتأييد المادي والسياسي والإعلامي وبالأسلحة لتشديد نهجها الانقسامي داخل صفوف الشعب والقوات المسلحة.

-11-

لقد كانت أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية حينذاك تتطلب من قيادة الدولة الجديدة معالجة سبع قضايا أو مهمات أساسية, وهي:

أ. التحول صوب المجتمع المدني وتسليم السلطة للمدنيين من أجل وضع دستور ديمقراطي دائم للبلاد وعودة القوات المسلحة إلى ثكناتها بدلاً عن مواصلة الحكم.

ب. إطلاق الحريات الديمقراطية بما فيها حرية التنظيم الحزبي والمهني وحرية الصحافة والتعبير والتجمع والتظاهر والإضراب وفق قوانين جديدة, إضافة إلى إنهاء نشاط ووجود أجهزة الأمن أو التحقيقات الجنائية القديمة والكف عن الاعتقال الكيفي وتأمين تنظيم الحياة المدنية... الخ. وكانت هذه الوجهة تستوجب الالتزام بوضع واستفتاء الشعب على دستور ديمقراطي جديد يستند إلى أسس وقواعد المجتمع المدني الديمقراطي والعلماني والحياة البرلمانية الحرة وتسليم السلطة إلى المدنيين ممن يحوز منهم على تأييد أصوات غالبية الناخبين.

ج. معالجة القضية الكردية على أساس الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الكردي ومنحه حق إقامة الحكم الذاتي في إطار الجمهورية العراقية والاستجابة لمطالب القوميات الأخرى الثقافية والإدارية المشروعة.

د. حل المشكلة الزراعية باتجاه تصفية العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في الريف وتأمين مستلزمات التطور الرأسمالي في الزراعة.

هـ. توفير مستلزمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للتخلص من التخلف والتبعية وضمان السيطرة التدريجية على موارد البلاد الأولية وخاصة النفط الخام وموارده المالية, في خدمة التنمية, ومنها التنمية الصناعية والزراعية, وزيادة التشغيل وتقليص عدد العاطلين عن العمل, وتحسين مستوى حياة ومعيشة الشعب, وضمان تطور معجل للقطاعين الخاص والعام والقطاع المختلط في المشاركة في هذه العملية.

و. إقامة علاقات تعاون وتنسيق وتضامن واسعة وشاملة مع الأقطار العربية ومع بقية بلدان منطقة الشرق الأوسط, وخاصة دول الجوار.

ز. إقامة علاقات تعاون متعدد الجوانب وممارسة سياسة الحياد الإيجابي في السياسة الدولية وفي العلاقة مع الدول الكبرى, إضافة إلى التخلص من سياسة الأحلاف العسكرية والوجود العسكري الأجنبي في البلاد وإلغاء المعاهدات المقيدة لحرية البلاد وسيادته.

-12-

بدأ الحكم الجمهوري السير على هذا الطريق عندما أصدر وتحت ضغط الشارع العراقي أو بمبادرة منه جملة من الإجراءات التي كانت تعتبر جزءا من تلك الأهداف والتي كان بدونها يصعب الحفاظ على الزخم الثوري للحركة وعلى تأييد الجماهير لها. ويمكن الإشارة في هذا الصدد, على سبيل المثال لا الحصر, إلى:

• الانسحاب الفوري من حلف بغداد (السنتو),

• الانسحاب من منطقة النفوذ الإسترليني.

• إلغاء معاهدة 1930 وفرض انسحاب القوات العسكرية البريطانية من قاعدتي الحبانية والشعيبة.

• إصدار قانون الإصلاح الزراعي الديمقراطي رقم 30 لسنة 1959.

• البدء بعملية تنمية وتصنيع جديدة وممارسة سياسة تجارة خارجية أكثر واقعية.

* إقامة علاقات جديدة وواسعة مع بعض بلدان المنظومة الاشتراكية, وبشكل خاص مع الاتحاد السوفييتي.

• الدخول في مفاوضات مع شركات النفط الاحتكارية حول سبل استثمار النفط العراقي وحصة العراق فيه, وانتهت تلك المفاوضات, بسبب تعنت الشركات الأجنبية, إلى إصدار الحكم الجمهوري الجديد القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي صادر بموجبه أكثر من 99,5% من الأراضي التي كانت تحت تصرف شركات النفط الأجنبية والتي لم تكن مستثمرة حتى ذلك الحين عمليا, كما تم بموجبه تأسيس شركة النفط الوطنية.

• المبادرة إلى الدعوة لتشكيل منظمة البلدان المنتجة والمصدرة للنفط أوبيك OPEC لحماية مصالحها إزاء الدول والشركات البترولية الاحتكارية الدولية.

• إصدار قانون العمل والعمال الذي تميز بمضامين ديمقراطية جديدة وعبر بمجمله عن التقدم الذي كانت تتسم به الحركة النقابية العراقية التي كانت قد نشأت في وقت مبكر في العراق, رغم قرارات المنع والتحريم والمطاردة التي تعرضت لها تلك الحركة النقابية.

• إصدار قانون الأحوال الشخصية وضمان جملة من الحقوق المشروعة للمرأة العراقية.

* اتخاذ جملة من الإجراءات الشعبية لخدمة مصالح الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة والنازحة أساساً من الريف إلى المدينة وتقطن في حواشي المدينة, كما في مدينة الثورة ومنحهم قطع أرض وبناء دور لهم مثلاً.

* إنصاف الكُرد الفيلية باعتبارهم مواطنين من أصل البلاد ويشكلون جزءاً من نسيجه الوطني والاجتماعي. وهو أول حاكم عراقي يعترف بهذه الصراحة ويقر للكُرد الفيلية بحقوقهم كعراقيين ومواطنين لهم حقوق وواجبات متساوية.

-13-

ولكن قيادة الدولة, بشخص رئيسها اللواء الركن عبد الكريم قاسم, قد تعثرت كلية في معالجة عدة مسائل مركزية, وهي:

** رفض العودة إلى الحياة المدنية وإقرار دستور ديمقراطي جديد للبلاد وحياة برلمانية حرة ونزيهة والإصرار على احتفاظ قاسم بالسلطة وعدم نقلها إلى المدنيين. وقد لعبت شعارات الجماهير الشعبية "عاش الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم" وتأليه شخصيته ونسج الحكايات الشعبية الخرافية الممتزجة بمشاعر الحب عن شخصه في تكريس الإحساس لدى قاسم بأنه الشخص الوحيد القادر على التعبير عن مصالح الشعب, مما عمق من الفردية لديه والتي قادت بدورها إلى:

** اتخاذ موقف سلبي صارخ من الحياة الديمقراطية, وخاصة الحياة الحزبية والتعددية السياسية, وإرساء الحياة السياسية في البلاد على أسس دستورية وديمقراطية قويمة؛

** واتخاذ موقف سلبي من حقوق الشعب الكردي اتسم بنظرة ضيقة إزاء الحقوق المشروعة للقوميات, رغم الاعتراف بأن العرب والكُرد شركاء في الوطن, إضافة إلى دور القوميين والبعثيين في تعطيل إرادة التغيير في الموقف من حقوق الشعب الكردي والخشية من تعقيدات الوضع على الصعيد العربي بذريعة رغبة الكُرد في الانفصال. وقاد هذا الموقف إلى صدام بين حكومة عبد الكريم وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والحركة الكردية بشكل عام, فاستخدم قاسم القوات المسلحة والطيران لضرب مواقع القيادة الكردية في بارزان ومواقع أخرى مما دفع بالملا مصطفى البارزاني إلى إعلان الثورة المسلحة على الحكم في أيلول/سبتمبر 1961, وهي ثورة لم تكن ناضجة ولا حكيمة قادت على تداعيات كبيرة, رغم صحة وأهمية مطالب الشعب الكُردي.

** الفشل في معالجة جادة وعقلانية للعلاقات العربية ومع دول الجوار. ولم يكن سبب ذلك بالضرورة سياسة قاسم بقدر ما كانت سياسة الدول العربية, وخاصة تلك التي حملت راية القومية العربية والوحدة الفورية, وعلى رأسها مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر من جهة , وتلك التي تضررت من سقوط الملكية, وخاصة الأردن والسعودية ودول الخليج العربي من جهة أخرى.

** السياسة المغامرة وغير الحكيمة التي مارسها قاسم ومطالبته بضم دولة الكويت الشقيقة إلى العراق والتعبئة الإعلامية وممارسة التهديد ضد الكويت, في وقت كانت المشكلات في العراق تتفاقم, فسعى إلى تحويل الأنظار صوب الصراع مع الكويت, وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير.

نجم عن كل ذلك تفاقم في الصراع الداخلي بين القوى السياسية في البلاد وفي داخل السلطة, وخاصة بين مجموعات الضباط الأحرار, وما نجم عن ذلك من مؤامرات وفوضى سياسية داخلية وجهود دولية وعربية كانت تسعى أساساً إلى تقويض الحكم الجمهوري والإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم.

-14-

مع كل التقدير الكبير للدور الذي لعبه عبد الكريم قاسم, ومعه بقية الضباط الأحرار, في إعلان الانتفاضة العسكرية ضد الحكم الملكي ونجاحهم في انتزاع السلطة, ومع كل التقدير لشخصية قاسم الوطنية والنزيهة والصادق في تبنيه لقضايا الشعب والكادحين, فأن المشكلة التي عانى منها لم تختلف عن مشكلات بقية العسكريين الذين جاءوا إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية, إذ تغلبت عنده النزعة العسكرية الفردية والاعتداد بالرأي إلى حد الاستبداد ورفض الرأي الآخر. لقد عجز قاسم عن التفكير الجدي بالتخلي الفعلي عن السلطة وتسليمها إلى القوى المدنية المتمثلة بالأحزاب السياسية العراقية, كما برهن عن عجز فعلي في ممارسة الحياة الديمقراطية وفق أسس دستورية وعن إيجاد حلول عملية للصراعات التي بدأت تجتاح البلاد, كما لم يلعب دورا إيجابيا منذ البدء بوضع الدستور الدائم وإقامة دولة المؤسسات الدستورية والمجتمع المدني مما فسح في المجال للعمل السياسي والعسكري ضد السلطة الجديدة وإلى سيادة العفوية والفردية والفوضى في البلاد. لقد كان الوعي المدني الديمقراطي لدى الضباط الأحرار, بغض النظر عن شخوصهم, ضعيفا وبعيدا عن فهم حاجات المجتمع وضرورات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الديمقراطي. ولم يكن هذا الوعي القاصر محصورا بالضباط الأحرار فحسب, بل شمل أغلب القيادات السياسية للأحزاب الوطنية حينذاك, كما شمل الشارع العراقي أيضاً. وهي مسألة مرتبطة عضويا بالمستوى الحضاري وبمستوى تطور العلاقات الإنتاجية وبنية الاقتصاد والمجتمع ومستوى الوعي السياسي والاجتماعي, إضافة إلى واقع التركة الثقيلة لعهود الاستبداد والهيمنة العثمانية والبريطانية الطويلة على العراق.

-15-

من عاش أحداث تلك الفترة يستطيع أن يشَّخص بوضوح مظاهر صارخة لفعل التفاوت والتناقض بين طبيعة القيادة العسكرية التي تسلمت الحكم وأشركت معها في السلطة مجموعة من المدنيين من ممثلي بعض الأحزاب السياسية, وبين طبيعة ومنحى حركة الجماهير الشعبية الواسعة التي كانت الثورة قد فجرت قدراتها المكبوتة ولم يعد ممكنا فرض الحجر عليها في الحدود الضيقة التي كانت تريدها لها ذهنية جزء مهم من تلك القيادة العسكرية. أي إن الثورة قد واجهت ابتداءً تناقضاً بين الذهنية العسكرية, بغض النظر عن أشخاصها حيث تتفاوت تأثيرات هذه السمة على سلوكهم العملي, وبين حركة الجماهير ذات المضمون الاجتماعي التي عرفت لأول مرة في تاريخها السياسي الحرية بمعناها العملي وما اقترن بهذا الفهم من عفوية وفوضى وتمرد على القوانين لاحقاً, وبين العملية الديمقراطية التي تعطلت بفعل بقاء العسكر في السلطة وبدء الصراعات في ما بينهم, وكذلك الصراع في ما بين الأحزاب والقوى السياسية الراغبة في امتلاك السلطة. وقد تبلورت هذه التناقضات بشكل أكثر وضوحا في المهمات التي واجهت الثورة والتي طرحتها فئات الشعب المختلفة على السلطة السياسية الجديدة لتحقيقها وبين القيادة العسكرية-السياسية التي كانت لديها تصورات وإمكانيات أو حتى استعدادات محدودة في الاستجابة لمثل تلك الأهداف. وكان لغياب المؤسسات الدستورية أثره السلبي البالغ على اتخاذ الموقف المناسب لحل التناقضات والصراعات والنزاعات السياسية الناشئة عن وإزاء تلك القضايا.

-16-

ولا شك في أن الدول العربية ذات الوجهة القومية والنهج الشوفيني أو ذات النهج الرجعي, والدول المجاورة المناهضة للديمقراطية, ومنها إيران وتركيا من مواقع واتجاهات حلف السنتو السياسية والعسكرية, قد مارست كلها أدوراً سيئةً ومدمرة في العملية السياسية الجديدة في العراق من خلال التدخل الفظ والمباشر في شئون الدولة العراقية وفي التأثير المباشر على قوى الثورة والأحزاب السياسية الفاعلة فيها وعلى النخبة العسكرية الحاكمة باتجاهات مختلفة, مما أدى إلى تشديد تلك التناقضات والصراعات السياسية والاجتماعية وتحويلها إلى نزاعات وإلى تنشيط القوى المضادة لتلك الثورة والجمهورية الأولى, سواء أكان ذلك في الموقف من الحريات الديمقراطية أم من الإصلاح الاقتصادي, ومنه الإصلاح الزراعي, أم من قانون الأحوال الشخصية, أم من موقف التعاون مع الاتحاد السوفييتي وبلدان المنظومة الاشتراكية حينذاك, أم من مفاوضات النفط مع الشركات الأجنبية, أم من محاولة قاسم اليائسة اعتبار الكويت جزءاً من العراق! وقادت هذه المشكلات إلى بروز عملية ذات اتجاهين مختلفين ولكنهما كانا يصبان في مجرى واحد, وهما:

* تنامي ضعف الحكومة وارفضاض جزء مهم من السكان والقوى السياسية عنها وعن تأييدها, وبتعبير أدق, غياب الوحدة الوطنية الضرورية لحل المشكلات المستعصية بعد أن انتهى وجود جبهة الاتحاد الوطني من جانب,

* وتفاقم النشاط ألتآمري على حكومة الجمهورية الأولى من أغلب القوى السياسية التي اختلفت مع سياسات قاسم بقوة ودأب وإصرار مدعومة بتأييد وإسناد من جانب شركات البترول الدولية على نحو خاص ومن الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة أو الدول الإمبريالية بشكل عام من جانب آخر.

-17-

ومما زاد في الطين بلة أن الحكم الجديد لم يمس أجهزة الدولة التي كانت قائمة منذ العهد الملكي, بما فيها القوات المسلحة, بالتغيير, سوى إبعاد الصف الأول من النخبة الحاكمة. وكان هذا يعني نشوء تناقض وصراع بين الحداثة والطابع المدني المنشود للجمهورية العراقية وما يفترض أن تنجزه من مهمات المرحلة, وبين الطابع شبه الإقطاعي والعشائري الضيق للعلاقات الاجتماعية والسياسية التي سادت البلاد وطبعت نشاط المؤسسات القائمة. كما لعبت المؤسسة الدينية وشيوخ الدين دوراً سلبيا كبيراً في محاولة منها لعزل عبد الكريم قاسم عن أوساط شعبية معينة والتحالف مع قوى مناهضة له بسبب إجراءاته التقدمية والقوانين التي أصدرها, وخاصة قانون الأحوال الشخصية وحقوق المرأة وخشيتها من فقدان مكانتها وتأثيرها على أوساط المجتمع. ولا بد من الإشارة إلى أن المؤسستين الدينيتين الشيعية والسنية قد تضافرت جهودهما ضد حكومة قاسم والنظام السياسي الجديد.

إن هذه التناقضات والصراعات أعاقت عملياً حركة الدولة "الجديدة" والمجتمع نحو الأمام باتجاه الاستجابة لحاجات المجتمع المدني وتنفيذ مضامين القوانين الديمقراطية التي أصدرتها قيادة الدولة حينذاك. لقد ساهم جهاز الدولة البيروقراطي المناهض في بنيته للتحولات الجديدة المنشودة في أعاقة تطور قدرات الدولة والمجتمع على تأمين مستلزمات بناء المجتمع المدني السلمية والديمقراطية ومعالجة مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية ونزاعاته السياسية. لقد كان على جهاز الدولة القديم أن ينفذ مهمات التحولات الرأسمالية الحديثة والتقدمية التي طرحتها طبيعة المرحلة الجديدة, ولكن لم يكن هذا الجهاز مهيئاً لذلك ولا مستعداً له وقاد إلى طريق مسدود.

-18-

لقد ارتكبت الأحزاب السياسية العراقية خطأً فادحاً حين وافقت على الاستمرار في العمل السياسي بوجود العسكر وعدم تحويل السلطة إلى المدنيين من جانب قاسم. إذ بعد فترة وجيزة انفرط عقد الجبهة وبدأ التناحر بين بعض أعضائها. ويبدو لي بأن الأستاذ كامل الجادرجي, الذي رفض المشاركة في السلطة منطلقاً من تجربته السابقة في انقلاب بكر صدقي وتحول قيادة الانقلاب ورئيس الحكومة إلى مواقع الفردية والاستبداد في حينها ثم موافقته على التعاون مع حركة الضباط الأحرار كجزء من جبهة الاتحاد الوطني والموافقة على إسقاط النظام الملكي عبر انتفاضة الجيش, هي التي منعته من المشاركة المباشرة بالحكم, إذ كان صادقاً مع نفسه وصائباً في تشخيصه لاحتمالات المسيرة إن أصر قاسم على البقاء على رأس الحكومة وعدم إبعاد الجيش عن الحكم وإعادته إلى ثكناته العسكرية وممارسة مهمة الدفاع عن حدود الوطن.

كان الجادرجي غير مرتاح أصلاً من مشاركة حزبه في الحكومة الجديدة التي تشكلت في أعقاب سقوط الحكم الملكي في العراق, ولكنه وافق لرغبة قادة حزبه في ذلك. إن بعد النظر الذي تميز به الجادرجي وخشيته على المنجز الذي تحقق, يراد اليوم جعله من قبل البعض نقيصة وأنانية لدى الجادرجي لأنه فقد الأضواء التي حاز عليها قاسم. إن هذا التحليل التبسيطي ليس سوى محاولة غير موفقة لشخصنة الأمور الأساسية التي لا تخدم المسيرة الراهنة ولا تسمح بنمو وعي ديمقراطي حر وجرئ ورافض للمساومات غير العقلانية في تقرير مصير البلاد. ولا بد من الإشارة إلى أن مثل هذه الحصافة السياسية لم تتوفر لدي القيادات السياسية للأحزاب الأخرى, بما فيها قيادة الحزب الشيوعي العراقي التي لم تكن موحدة في الموقف من سياسات قاسم ودوره. وقد كان سلام عادل على وفاق مع كامل الجادرجي بشأن خشيته من استمرار وجود الحكم بيد العسكريين. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى وعي عميق بالواقع وبضرورات الديمقراطية في البلاد من جهة, ورفض المشروعات الطائفية السياسية التي تمزق النسيج الوطني وتشدد الصراعات والنزاعات في البلاد من جهة أخرى. كما أجد مناسباً أن أشير هنا بوضوح وبلا تردد إلى أن قاسماً لم يكن يملك الأذن الصاغية للاستماع إلى منتقديه والاستفادة منهم لصالح مسيرة الثورة, وفي مقدمتهم الأستاذ الراحل كامل الجادرجي, بل كان يستمع إلى مادحيه الذين ساهموا بوعي أو بدون وعي في التفريط بالثورة. لقد قدم الجادرجي ملاحظات صريحة وجريئة وصادقة إلى عبد الكريم قاسم لإنقاذ البلاد من الفردية والضياع والتحول بالبلاد صوب الدولة المؤسسية الدستورية والديمقراطية البرلمانية. ولكن قاسم اعتبرها مناهضة له, رغم احترامه للجادرجي.

-19-

أشرت إلى أن ثورة تموز والفترة اللاحقة عجزت عن تحقيق المهمات التي كانت تواجه المرحلة, رغم صدور قوانين وقرارات بشأنها ورغم البدء بتنفيذ العديد منها, ولكنها تعثرت وتعرقلت ثم تراجعت فارتدت إلى فترة ما قبل ثورة العشرين في بعض جوانبها, وخاصة الاجتماعية منها وغياب التنوير الديني والبؤس الثقافي ووجود قوات أجنبية محتلة, فعادت المؤسسة العشائرية والمؤسسة الدينية لتلعبا دورهما السابق المعرقل لنمو المجتمع المدني.

لقد وئدت ثورة تموز, اغتيلت,واغتيل الكثير من قادتها, فهي الثورة المغدورة, كما عبر عن ذلك الكثير من الكتاب والمحللين السياسيين.

واليوم يواجه المجتمع مهمات كبيرة تقف في الواجهة منها مسألة بناء الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية والمجتمع المدني الديمقراطي, دولة ومجتمع يستندان إلى دستور مدني ديمقراطي غير طائفي وغير قومي شوفيني أو يعاني من ضيق الأفق وإلى حياة برلمانية مستقلة ونزيهة, وإلى حل واقعي للمسألة الزراعية والتخلص من بقايا العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية والعلاقات العشائرية ومن التأثير المباشر أو غير المباشر للمؤسسة الدينية على الدولة العراقية من أجل إبقاء اقتصاد النفط الخام بيد الدولة وفي إطار قطاعها الاقتصادي, وكذلك البدء بعملية تصنيع تحويلية وزراعة حديثة ومتنوعة وربط التجارة الخارجية بمهمات التنمية الوطنية وتأمين المساواة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم على أساس القومية أو الدين أو المذهب أو الرأي الفكري والسياسي ورفض العنصرية والشوفينية والطائفية السياسية والتمييز على أساس الدين أو التمييز بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات والتخلي الفعلي عن المشاريع الطائفية السياسية في إقامة فيدرالية الجنوب وتعزيز العراق الاتحادي ومكافحة الفساد المالي والإداري السائدين حالياً.

-20-

وهذه المهمات المتعددة لا تعني سوى أننا ما زلنا بعيدين عن المرحلة التي بدأت بها ثورة تموز في بعض الجوانب المهمة منها, وفي بعضها قد تجاوزت تلك الفترة كما في المسألة الكردية. ولكن بشكل عام لا تزال تلك المهمات ي تواجه الشعب وتنتظر الحل, ومنها إنهاء الوجود الأجنبي وإنهاء الإرهاب والفساد المالي والوظيفي والطائفية والبطالة بمختلف أنواعها في البلاد. ومثل هذه المهمات لا يمكن أن يتحملها حزب واحد أو مجموعة واحدة بل تتطلب تضافر جهود كل العراقيات والعراقيين المدركين لمسؤولياتهم إزاء الشعب ومستقبل البلاد والذين تعلموا من دروس انتكاسة ثورة تموز والعقود الخمسة المنصرمة. إنها مهمة الجميع, والطريق إليها سوف لن يكون سهلا ولا قصيرا بأي حال, ولكن لا يملك الشعب العراقي ولا قواه الديمقراطية سبيلاً غيره.

-21-

إننا إذ نحيي ثورة تموز في ذكراها 51 ونتحدث عن جوانبها الإيجابية والسلبية وعن غنى التجربة والدروس التي يمكن استخلاصها من تلك المسيرة الطويلة والصعبة والمعقدة, فأن ما نسعى إليه من وراء ذلك هو اجتناب ارتكاب تلك الأخطاء في المرحلة النضالية الراهنة التي ساهمت في حينها في تفتيت القوى الوطنية, ثم التحري عن سبل تجديد وتحديث فكر وممارسات وأساليب عمل وأدوات وخطاب القوى الديمقراطية العراقية السياسي والعمل من أجل اكتشاف الاختلالات والنواقص الراهنة في بنيتها السياسية والتنظيمية ونشاطها لمعالجتها والسير صوب تعاونها والتنسيق في ما بينها لصالح دور أكبر لها في الحياة السياسية العراقية الراهنة والتخلص من الدور الهامشي الذي تلعبه وتعاني منه حالياً.

في 14/07/2009 كاظم حبيب
Opinions