في العراق، الخيانة الوطنية عمل وطني!
د.عبدالخالق حسين/
في البدء، أود التوكيد أني ضد إطلاق الاتهامات جزافاً على أناس لمجرد أنهم يختلفون معي في الرأي، فـ"الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" كما تفيد الحكمة. ولكن ما أقصده في هذا المقال عن الخيانة الوطنية، وعلى قدر فهمي لها، هي: قيام المواطن بعمل ما بقصد إلحاق الضرر بالمصلحة الوطنية، بشرياً، أو مادياً، أو معنوياً، خدمة لمصلتحه الشخصية والفئوية. ومَنْ عنده تعريف أفضل فليأت به، لأني أريد أن أتعلم من المهد إلى اللحد.
قبل ما يقارب التسع سنوات نشرتُ مقالاً بعنوان: (اللهم احفظ العراق من العراقيين)، عاتبني البعض عليه بأني أشكك في اخلاص وحب العراقيين لوطنهم. في الحقيقة أنا لا أنكر على العراقيين حبهم وإخلاصهم لشعبهم ووطنهم، فجحافل شهدائهم تشهد بذلك، ولكن هناك الكثير منهم ساهموا ومازالوا يساهمون في تدمير العراق باسم الوطنية، كذباً وزوراً.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، قرأنا قبل أسابيع، مقالات وتقارير تفيد أن موظفي مكاتب الخطوط الجوية العراقية تصد المسافرين عن حجز تذاكر السفر على خطوطهم قائلين أن جميع المقاعد محجوزة، وهي ليست كذلك، بل خدمة لشركات الخطوط الجوية الأجنبية مقابل المال الحرام. وهذا لم يحصل إلا في العراق، وهو عمل خياني بحق الوطن بالتأكيد.
كما قرأنا أن دبلوماسيين يعملون في سفارات عراقية ينصحون الشركات الأجنبية بعدم الاستثمار في العراق كي لا يخسروا أموالهم!، وآخرون يحرضون ضد الحكومة العراقية المنتخبة ويصفونها بأسوأ الصفات. وفيما يخص وزراء فاسدين ينهبون أموال الدولة ويفرون للعيش في الخارج فصار حديث العصر وضربوا رقماً قياسياً.
أما قائمة الافتراءات والإشاعات السامة لتشويه سمعة العراق الجديد والحكومة المنتخبة وتشويه صورة الديمقراطية، فحدث ولا حرج، وقد ذكرت العديد منها في مقالات سابقة. ولكن أود أن أشير هنا إلى فرية جديدة مازالت (طازجة!!) تتناقل بالإيميلات على شكل "تقرير" بعنوان: (استياء دولي من موافقة العراق لبناء مكب نووي) جاء فيه: "جريمة من نوع جديد بحق العراق الحبيب. هؤلاء الانذال يودون بيع العراق وتلويثه لعشرات السنين قادمة قبل ان يتركوا الكرسي، انهم خونه بحق الشعب، استياء دولي من قيام العراق يتفق مع الاتحاد الاوربي بناء مكب للنفايات النووية. (وكالة الاستقلال للاخبار، 07-01-2013) وتليه عبارة: (الرجاء حوِّل هذا الإيميل لأكبر عدد ممكن من معارفكم).
إن وكالة أخبار مستقلة تحترم نفسها، وتسعى لكسب ثقة الناس لا يمكن أن تنشر هكذا خبر، وبهذه اللغة الركيكة و الشتائمية السوقية البذيئة، فهي لغة أيتام البعث بامتياز. ولكن المؤسف أن التقرير المزعوم من "وكالة مستقلة" صدق به ناس معروفون بوطنيتهم وإخلاصهم لشعبهم، ومع ذلك يبدو أنهم غير محصنين ضد الإشاعات والافتراءات، فيصدقون كل ما يقرؤون، ويساهمون بحماس في تعميمه وبدوافع وطنية طبعاً.
وأخيراً، وليس آخراً، الطامة الكبرى، إذ قرأنا عن رسالة وقعها نواب من الكتلة "العراقية"، نعم نواب منتخبون من أبناء الشعب، المفترض بهم أن يكونوا قدوة في خدمة الشعب والوطن، وجهوا رسالة إلى البرلمان الأوربي، طالبوا فيها بالامتناع عن توقيع اتفاق الشراكة والتعاون مع العراق، كي "لا يبدو الأمر وكأن الاتحاد يدعم حكومة نوري المالكي". والرسالة موجهة إلى رئيس لجنة العلاقات مع العراق في الاتحاد الأوربي ستراون ستيفنسن، وموقعة من قبل النواب: أحمد العلواني، ولقاء مهدي، وأحمد المساري، وطلال الزوبعي، وحامد جاسم، وعتاب جاسم، وحسن الجبوري، والمؤرخة في 14 كانون الثاني 2012 . (السومرية نيوز، بغداد، 12/2/2013).
لا شك أن هكذا عمل يعتبر في جميع دول العالم، ووفق جميع المعايير الدولية، خيانة وطنية، لأن القصد منه إلحاق الضرر بالشعب والوطن.
في الأنظمة الديمقراطية لا بد من منافسة بين الكتل السياسية، فمن يراقب المجادلات في البرلمانات الأوربية، يعرف مدى شراسة المنافسة بين نواب أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة. ولكن المنافسة هنا تنصب على إقناع الناس بمن هو الأكفأ لحكم البلاد لتقديم أفضل الخدمات للشعب. ولكن حالما يبرز خطر يهدد المصلحة الوطنية، فسرعان ما تقف أحزاب الحكومة وأحزاب المعارضة صفاً واحداً لدرأ الخطر. هذه القاعدة عامة في الديمقراطيات الناضجة والناشئة ما عدا العراق. فهؤلاء النواب العراقيون الذين وجهوا رسالة عدم التعاون مع العراق، و رغم مشاركتهم في السلطة، فضلوا إلحاق الضرر بشعبهم بغضاً لرئيس الوزراء لأنه ليس من طائفتهم.
فلو كان رئيس الوزراء، السيد نوري المالكي من مذهب هؤلاء الموقعين على الرسالة، فهل أقدموا على عملهم هذا؟ بالتأكيد كلا وألف كلا. وطائفيتهم واضحة من قائمة الشتائم التي وجهوها إلى 65% من الشعب العراقي دون خجل، ونعتهم لهم بالفرس المجوس، والصفوية، واتهامهم بالعمالة لإيران...الخ، إلى حد أن قال أحد قادة التظاهرات في الرمادي الشيخ أحمد أبو ريشة، أنهم يريدون مخاطبة الحكومة وكتابة شعاراتهم باللغة الفارسية !!! في إشارة خبيثة إلى أن الحكومة التي يترأسها السيد المالكي هم إيرانيون لا يفهمون العربية!!. وهذه التهمة الغبية ليست جديدة، بل برزت منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى الآن في الطعن بعراقية وعروبة شيعة العراق. وهذا عيب شنيع عليهم، ويضر بهم أكثر من غيرهم، إذ لو صدق قولهم، فهذا يعني أن نسبة "العرب الأقحاح" في العراق لا يزيد على 15%، وفي هذه الحالة لا يحق لهم اعتبار العراق بلداً عربياً.
فإذنْ، كل هذه الضجة هي لأسباب طائفية. وهذا دليل على أن الطائفية عندهم أقوى من الوطنية، بل وحتى من القومية التي كانوا يتشدقون بها وذبحوا ثورة 14 تموز باسمها. والمؤسف أنه حتى رئيس البرلمان، المفترض به أن يمثل كل العراقيين وليس مكونة واحدة منهم، لم يستطع إخفاء مشاعره الطائفية، إذ وقف إلى جانب النائب أحمد العلواني الطائفي عندما كان يكيل الشتائم للشيعة.
ولذلك، لا نستغرب من هؤلاء حقدهم الشديد على الديمقراطية. فالديمقراطية تعني حكم الأغلبية وحسب ما تفرزه صناديق الاقتراع، وهذا ليس في صالحهم خاصة وقد أدمنوا على احتكار السلطة خلال 80 سنة، وعاملوا بقية المكونات كمواطنين من الدرجة الثانية أو العاشرة. فمشكلة هؤلاء أنهم مازالوا يعتبرون العراق مستعمرة لهم، وشعبه عبيد في خدمتهم. ننصحهم أن يتكيفوا مع الزمن وفق المستجدات، وأن يتخلصوا من عقلية عفا عليها الزمن، وان يقبلوا بالديمقراطية ودولة المواطنة ومعاملة الجميع بالتساوي أمام القانون والواجبات وتكافؤ الفرص، فمن لم يتكيف ينقرض كما انقرضت الدينصورات.
يوعز البعض من أصحاب النوايا الحسنة انفجار الطائفية إلى الأحزاب الإسلامية وخاصة الشيعية منها. طيب، وهل النائب أحمد العلواني، والهارب من وجه العدالة طارق الهاشمي، ومحمد الدايني هم من أحزاب إسلامية؟ أليسوا علمانيين كما يدعون؟ لذلك نقولها مرة أخرى، أن الطائفية لا علاقة لها بالأحزاب الدينية أو العلمانية، وإنما لها علاقة بوعي وثقافة الإنسان وتربيته العائلية.
فالمفروض بالمسؤولين، الحريصين على مصلحة وسمعة العراق، العمل على تجريد النواب الذين قدموا الرسالة إلى البرلمان الأوربي لإلحاق الضرر بالعراق، من الحصانة البرلمانية، وتقديمهم للقضاء بتهمة الخيانة الوطنية ومخالفة الدستور، والحنث باليمين الدستورية والانقلاب على الديمقراطية.
أما الذين رددوا شتائم طائفية ضد الأغلبية الشعبية، فبالتأكيد يعتبر عملهم هذا خيانة وطنية، لأن القصد منه تفتيت الوحدة الوطنية، وإشعال حرب طائفية لا تبقي ولا تذر. لذلك فهناك مادة دستورية يجب تطبيقها بحقهم، إذ تنص المادة7، أولاً : "يحظر كل كيانٍ او نهجٍ يتبنى العنصرية او الارهاب اوالتكفير أو التطهير الطائفي، او يحرض أو يمهد أو يمجد او يروج أو يبرر له، وبخاصةالبعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت أي مسمىً كان، ولا يجوز ان يكون ذلك ضمنالتعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون."
كذلك يطالب النائب أحمد العلواني وغيره من قادة التظاهرات والاعتصامات في المحافظات الغربية، بإلغاء قانون مكافحة الإرهاب، وقانون المساءلة والعدالة...الخ، وهذه الطلبات هي الآخرى ضد الدستور، والمصلحة الوطنية، إذ جاء في نفس المادة 7، ثانياً: "تلتزم الدولة بمحاربةالارهاب بجميع اشكاله، وتعمل على حماية اراضيها من ان تكون مقراً أو ممراً أو ساحةًلنشاطه".
في الهامش رابط لمقابلة تلفزيونية مع النائب أحمد العلواني يرجى فتحه لمشاهدة اللقاء، وموقفه المحرج عندما حاصره المذيع بالأدلة الدامغة حول تحريضه الطائفي.(3)
نعم، يرتكب هؤلاء جرائهم بحق الشعب والوطن باسم الوطنية...
حقاً ما قاله صموئيل جونسون: "الوطنية آخر ملاذ للأوغاد".
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
ــــــــــــــــــــ
1- وثائق: برلمانيون طالبوا الاتحاد الأوربي بعدم توقيع اتفاق تعاون مع العراق كي لا يعد دعما للمالكي
http://www.akhbaar.org/home/2013/2/142129.html
2- محمد ضياء عيسى العقابي: دعوة نواب إئتلاف العراقية الإتحادَ الأوربي لمحاصرة العراق
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=345090
3- مقابلة تلفزيونية مع النائب أحمد العلواني، يرجى فتح الرابط
http://www.youtube.com/watch?v=WliUDkLaZVk