في سبيل تعليم عالي متميز الجودة
ما هي العوامل التي تؤثر على جودة التعليم العالي في العراق؟ ابدأ هذه الدراسة بهذا السؤال لانه باعتقادي إن الجواب على هذا السؤال ضروري لكي نتوصل الى حلول لمشاكل التعليم العالي، والى سياسات صائبة للقضاء على المشاكل التي تواجه التعليم العالي.التحديات التي تواجه الاصلاح والتطوير تتعلق بجملة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي ورثت من النظام السابق، وبالتحديد منذ 40 عاما عندما تم اخضاع التعليم العالي والجامعات لسيطرة الدولة المطلقة، لتوجيه الشعب وفق أيديولوجيتها، وسحب سلطة القرار الاكاديمي من يد الجامعة. وبالرغم من إن التعليم العالي اصبح بمختلف درجاته واختصاصاته العامل الحاسم والأهم في عملية التنمية الا ان الدولة لازالت لا تعير اهمية كبرى له، حيث لا تزيد درجة الانفاق على هذا القطاع عن 3,4% من الميزانية العامة للحكومة. وبالاضافة الى ضعف مستوى الانفاق على الجامعات وعلى البحث العلمي والابتكار والتطوير تعتبر مستويات اعضاء هيئة التدريس العلمية والاكاديمية عوامل اساسية تتحكم في تحديد جودة التعليم. فلو نظرنا نظرة بسيطة على واقع حال مستويات اعضاء هيئات التدريس في الجامعات العراقية لوجدنا خلالا كبيرا في نسب المراتب العلمية فحملة شهادة الماجستير يمثلون ما يقارب من 75% من اعضاء الهيئات التدريسية للجامعات (اذا ما اعتبرنا إن كل مدرس ومدرس مساعد هم من حملة شهادة الماجستير)، هذا علما إن معظم هؤلاء او لربما بكاملهم هم من خريجي الجامعات العراقية. لربما من المنطقي مقارنة هذه النسبة بنسبة عدد اعضاء هيئة التدريس ممن لا يحملون شهادة الدكتوراه في الجامعات الراقية والتي لا تتعدى 5%، وبحيث تنحصر هذه الفئة في اقسام ومواضيع محدودة حيث لا تعتبر شهادة الدكتوراه ضرورية او مهمة مهنيا او اكاديميا. من هذا المنطلق يمكننا التسائل عن صحة الدعوات التي تنادي بزيادة عدد طلبة الجامعات وعدد طلبة الدراسات العليا وبتأسيس جامعات جديدة، فهل من الممكن استيعاب اعداد اضافية من الطلاب في الوقت الذي تفتقر الجامعات اليه من اساتذة مؤهلين تأهيلا دوليا عاليا.
شهدت السنوات القليلة الماضية تطورات كثيرة في التعليم العالي في العراق فقد بدأت الجامعات بالعمل وفق صيغ لامركزية في اداراتها، ووجد مفهوم استقلالية الجامعة قبولا عند اطراف عديدة، كما بدأت الجامعات بالتعاون مع الجامعات الغربية، وشمل ذلك مجالات التعليم والبحث والادارة، ونقل الخبرات العلمية والتربوية والاستفادة منها في تطوير قابليات الاساتذة والاداريين والطلبة بمختلف مستوياتهم، ووضعت وزارتي التعليم العالي في المركز والاقليم والجامعات العراقية نصب عينها تحسين الجودة واستخدام المؤشرات والمقاييس التي تقيس مستوى جودة الخدمات التعليمية، وبالتالي العمل على ردم الفجوة بين مستوى الجودة الموجود فعلياً وبين الجودة المطلوبة وفق المعايير العالمية، والسعي لتحقيق الاعتماد الاكاديمي ومن قبل منظمات عالمية معترف بها.
هذه الخطوات والاجراءات وغيرها تعتبر بداية حسنة لتحقيق الاصلاح المنشود لمنظومة التعليم العالي ولغرض النهوض بمستويات الجامعات لكي تتبوأ مراكز متقدمة في السلالم العالمية لتقييم اداء الجامعات. والاصلاح المنشود كما بينت دعائمه في مقالات سابقة يكمن في ترسيخ أسس المنافسة بين التدريسيين داخل الجامعة وبين الجامعات، وتحقيق مبدأ استقلالية الجامعة وضمان الحرية الاكاديمية والانفتاح، واعتماد اسلوب الإدارة اللامركزية والمرونة التنظيمية والهيكلية بحيث تكون ملائمة لقبول التغيير السريع والمستمر، وتطوير التعاون الأكاديمي والعلمي مع جامعات الدول المتطورة، وتحقيق زيادة هائلة في التمويل وإيجاد مصادر أخرى للتمويل، وتنمية مستوى كفاءات ومؤهلات التدريسيين والباحثين، وتطوير المناهج وطرائق التدريس، وتأسيس نظام فاعل لتقيم الجودة، وتوفير الحوافز لكي تكون الجامعة مؤسسة لتكوين كوادر تلائم عصر اقتصاد المعرفة المدعوم بتكنولوجيا المعلومات، هذا بالاضافة الى التحول من التعليم الى التعلم، والتأكيد على نشاط الطالب وأنتاجاته من خلال أعادة إنتاج معارف الاخرين وإبتكار أخرى جديدة، وبناء المخرجات التعليمية على اساس "معرفة كيف" العملية في مقابل "معرفة لماذا" النظرية.
معظم هذه المعالم المعيارية للاصلاح تحدثنا عنها في مقالات سابقة إلا ان موضوع المنافسة بين التدريسيين داخل الجامعة وبين الجامعات لم يأخذ نصيبه من الدراسة. فهل المنافسة في الحقل الاكاديمي شئ حسن؟ وهل تساعد في تحسين مستوى التدريس والبحث العلمي؟ وهل يمكنها من تطوير التعليم الجامعي والجامعات؟
المنافسة، عموما، تشجع التفوق الأكاديمي. والامثلة على المنافسة في الحقل الاكاديمي كثيرة منها المنافسة على اجتذاب أفضل الطلبة وأعضاء هيئة التدريس وتأمين كلفة المشاريع الكبيرة وتمويل البحوث وكسب الجوائز والتكريم. والمؤسسات الاكاديمية المتفوقة تعرف عادة بأنها مؤسسات ذات إنجازات متميزة. وتعلق هذه المؤسسات أهمية كبيرة على التنمية المهنية لأعضاء هيئة التدريس وتوفير الدعم وبناء البنية التحتية المناسبة لأنشطة هيئة التدريس والطلاب.
التزام عضو هيئة التدريس باداء مهماته يعتمد على عوامل تكمن في شخصيته التي تحفزه وتدفعه لتحقيق المزيد من التقدم والتطور في أدائه. وتلعب القيم والمثل العليا وتشربها في حياته وثقافته دوراً مهما في تحديد درجة هذا الالتزام. القوة الدافعة التي تحكم هذه الدينامية هي الرغبة في تحقيق اهدافه في بيئة تنافسية. والمؤسسات الأكاديمية العالمية الجيدة تعلق أهمية كبيرة على هذه الرغبة بحيث تلعب دوراً مهما في الاختيار والتعيين، وفي التعرف على درجة تحسن إداء أعضاء هيئة التدريس.
المنافسة موجودة حاليا في الجامعات العراقية ولو أنها محدودة وابرزها مباهاة الجامعات بتفوقها في بعض السلالم العالمية لتقييم الاداء، وحصول اساتذتها على تكريم من مثل احسن استاذ جامعي والجوائز التكريمية التي تمنحها الوزارة. وتظهر المواجهات التنافسية بشكل أخر في كليات العلوم السياسية والاجتماعية حيث تتضارب الافكار ويتخاصم التدريسيين وما يضمن استمرارية هذا الخصام هي الحرية الاكاديمية التي تعتبر رئة تنفس الجامعة الحرة والمستقلة.
من الضروري توسيع رقعة المنافسة بين الجامعات لتشمل التخصيصات المالية. المنافسة لن تؤدي الى الخصومة والعداء على الرغم من أنها غالبا ما تثير الحسد والحقد بين المتنافسين. ولكن يجب أن نضع في الاعتبار أن المنافسة الاقتصادية والاكاديمية تختلف جوهريا عن المواجهة والقتال. نحن متحدون كافراد مجتمع واحد في نشاط مشترك لانتاج السلع والخدمات الاقتصادية في سبيل تحقيق الرفاهية والتطور. المنافسة الاقتصادية تهدف إلى التميز في الخدمة، وفي المنافسة يتم اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب او الوظيفة المناسبة. المستهلكين هم القضاة، والمستهلكين في السوق التعليمية هم الطلاب وأسرهم. لذا فالجامعة التي تقدم افضل الخدمات التعلمية والتي تتفوق عالميا، وخريجيها يجدون افضل فرص العمل، هي التي تتصدر سوق التعليم العالي.
الا ان المعايير الاقتصادية لا تنطبق كليا على الاوضاع في التعليم العالي والجامعات فهي ليست اوضاعا تنافسية بالمعنى السوقي والتجاري بل تتحكم بها عدد من الشروط منها: الطلب على التعليم العالي في المنطقة الجغرافية للجامعة وعدد المقاعد الدراسية، وتوفر الاساتذة والاكاديمين، واجور الدراسة، وحاجة السوق والمجتمع. وبالرغم من ان الطلب على التعليم العالي في ازدياد مستمر الا ان المنافسة بين الجامعات بالنسبة لاعداد الطلبة ونوعياتهم لا يمكن ان تحصل بدون ان يرتبط نظام تمويل الجامعات بعدد الطلبة وجودة مخارج التعليم. كما ان اعتماد درجة ما من الاجور ولو كانت بسيطة جدا في الجامعات والكليات التي عليها رغبة كبيرة ستساعد في زيادة مسؤولية الجامعة او الكلية امام الطلبة واسرهم، وستكون دافعا للتميز. ان تقاضي اجور بسيطة لبعض الدراسات ضروري في الوقت الذي وصل متوسط دخل الفرد العراقي اكثر من 3500 دولار سنويا مقارنة ب 86 دولار في عام 2003، وخصوصا اذا اعتمد على اساس دخل العائلة ومستواها الاقتصادي فانه لن يشكل تميزاً امام اصحاب الدخل المحدود. كما ان ربط الجامعة بحاجة السوق والمجتمع سيدفع باتجاه توسيع الدراسات التكنولوجية والصحية على حساب الدراسات الادبية والاجتماعية، وسيقلل من تدريس اختصاصات لم تعد الحاجة لها قائمة، ومن الازدواجية في الاقسام والتخصصات، وهي مسألة في غاية الاهمية للنزف الكبير الذي تحدثه في الموارد، فعلى سبيل المثال توجد في احدى الجامعات سبعة اقسام للغة العربية. ويعتبر هذا الربط بين الجامعة وحاجة السوق مسار لابد منه، فليس من المعقول ان يلتحق 70% من الطلبة بالدراسات الجامعية في التخصصات الانسانية والاقتصادية والادارية في الوقت الذي لا تزيد نسبة خريجي الفرع الادبي في الثانويات عن 40%. لابد ان تعطي جامعاتنا أهمية رئيسية لتدريب المهارات في المواضيع التي يحتاجها السوق والمجتمع وان توقف نزف العلوم الأنسانية من تاريخ وجغرافية وأدب وفلسفة بدون تخطيط او اعتبار لحاجة المجتمع، فالاساس في عدد الطلبة لا يكمن في توفر عدد هائل من الاساتذة وتوفر البنايات ورخص التكلفة، فهذا المغرب مثال على تضخم عدد الخريجين في الدراسات الانسانية والاساسية، حيث الالاف منهم لا يجدون عملا إلا التظاهر يوميا امام البرلمان.
ومن هنا يتضح لنا ان الطريق الصحيح امام الجامعات هو ان تقوم برسم سياسات واضحة وبرامج محددة تتعلق بتطوير وتنمية اعضاء هيئة التدريس مهنيا، لان معظمهم تخيم عليهم التقليدية في ممارسة المهنة، وهم لا ينمون مهنياً واكاديمياً بالصورة التي يتطلبها مجتمع المعرفة. والأهم هو التأكيد على نوعية الدراسات وفق حاجة المجتمع، ونوعية التعليم وفق المستويات العالمية، ونوعية الاساتذة وفق شهاداتهم العليا وخبرتهم الاكاديمية، ونوعية الطلبة المقبولين وفق اهتماماتهم ومستوياتهم في المرحلة الاعدادية ومواهبهم، ونوعية الطلبة الخريجين وفق معايير إمتلاكهم لمهارات وظيفية وفنية وإنتاجية وإشرافية وإحترافية.