قاضي الرجع البعيد يرحل..صاحب خزانة اللامرئيات يبقى
أوان الرحيلغادرنا واحد من ابرز المثقفين العراقيين المعاصرين الذين كانوا من رموز منتصف القرن العشرين .. رحل عنّا الروائي المجدد والاديب العراقي القاص فؤاد التكرلي الذي شغلت بعض اعماله الناس .. وكان الرجل قد تمّيز بها عن غيره ، فكان مصورا بارعا لواقع عاشه العراق المعاصر مستفيدا كبير الاستفادة من موقعه الوظيفي ، اذ كان الرجل قاضيا وكان بالفعل خزين لامرئيات لا تعد ولا تحصى .. مضى زمن طويل لم يكن يتذكره الناس ، وكالعادة عندما رحل نشرت عنه عشرات المقالات ! انه ابن بغداد التي ولد في محلة قديمة فيها اسمها باب الشيخ عام 1927 ، كان قد نشأ في قلب العاصمة والتصقت صورها القديمة في مخيلته ، والفها الفة العاشق لمعشوقته ، وعنها ترجم في اعماله اجزاء من نسيجها الاجتماعي ! كان الرجل مسالما جدا لم يدخل معامع ودوامة خصومات لا ادبية ولا سياسية .. كان يتعامل مع اي ظرف من الظروف بكل هدوء وبطريقة غير مباشرة ، فلم يكن يحب المواجهات لا العلنية ولا الصاخبة .. لم يعرف لغة الشتم ولا اساليب النجريح . لم يكن مثقف سلطة ـ كما وصفوه ـ يوما ، لكنه لن يرفض ان يخدم العراق من اي مكان هو فيه .
زهرة المثقفين العراقيين
كان فؤاد في الشطر الاول من حياته رجل القانون وقاضي الرجع البعيد اولا ، ليغدو في الشطر الثاني كاتب القصة و خزين الرواية واللامرئيات ثانيا .. وجدته يعتز اعتزازا كبيرا بعقد الخمسينيات ويعتبره ذروة ما وصل اليه العراق المعاصر ، وكانت الستينيات والسبعينيات قد اتكئت على تلك الخمسينيات في قمة الابداع . لقد كان التكرلي قليل الانتاج ، ولكنه اثبت نفسه في الثقافة العربية انه أحد أبرز الرواد الاساسيين العراقيين لكل من القصة والرواية العراقيتين المحدثتين .. وانه طرق لأول مرة ابوابا لم يطرقها احد غيره .. ان من ابرز اعماله : خزين اللامرئيات وبعض المسرحيات وخاتم الرمل والرجع البعيد .. انه منتج بصقة في وجه الحياة : الوجه الاخر والمسّرات والاوجاع واللا سؤال واللا جواب .. الخ لقد عاصر التكرلي عدة نخب من المثقفين العراقيين ، ولكنه لم يجد من الحقيقيين الا الاوائل .. اذ يجد زمن الخمسينيات هو افضل الازمان !
قاضي الرجع البعيد
لقد قضى التكرلي سنواته الطويلة قاضيا ، فكان قد اكتسب من خلال عمله خبرات واسعة بالمجتمع العراقي وتقلباته وشخوصه .. لقد اكتشف قلق المجتمع وتناقضاته التي ورثها عن سنوات ما بين الحربين العظميين .. لقد عمل بعد الحرب الثانية وشهد متغيرات العراق وولادة الاحزاب والحركات اليسارية .. عاش احاديات التفكير وتخلف المجتمع وتزمته .. كان منتظما ودؤوبا على وظيفته ، بالرغم من عشقه للادب والفن .. لقد شهدت تجاربة ان ينتقل في عموم العراق ليدرك كم هي تعقيدات المجتمع وطبقاته .. ان من يفحص شخوص قصصه ورواياته سيجد بأنه صّور جملة اشكال والوان من الحياة العامة ربما تكون خفية ربما تكون علنية ، ومنها : السرقات والاحتيالات والقتولات والجنوح والجرائم والاغتيالات والاخذ بالثارات والزنى بالمحارم .. الخ
صاحب خزين المرئيات
كان فؤاد يختلف اختلافا كبيرا عن شخوص قصصه وابطال رواياته .. كان يكتب عن مجتمع يريده على غير ما عهده عليه .. كان يريد ان يكون العراق مسرحا اجتماعيا على غير ما ألفه منذ صغره من العلاقات القديمة .. ولكن بنفس الوقت ، كان يرسم خطوطا واضحة فاضحة لمجتمع بدا جليا انه يدّمر نفسه بنفسه .. كشف لأول مرة عن ممارسات اباحية كان القسم الاكبر من الناس يمارسونها ، ولكنهم لا يتحدثون عنها ، فهم يحملون شخصية مزدوجة بالتناقضات ! رسم شارعا عراقيا يمتلئ بالفوضى الشرقية ، ولعله ادق فنان عراقي رسم شارع الرشيد بكل عبقه وروائحه ومناخات ازقته ورواقاته ومغازاته على الجانبين .. وعصائره عند سينماواته .. انه يستدعي ذاكرته دوما ليخط بقلمه لوحة حقيقية عن واقع يكثر فيه الخراب وطيش شباب وكآبة فقراء وجماعات منحرفة .. انه يشعرك للمقارنة بين كتاباته الاولى عن كتاباته الثانية بتلك الانتقالة التاريخية للعراق من زمن المبدعين والوداعة والازدهار الى سنوات الانقفال والحرمان والحصار .. انه خزين لذلك الرجع البعيد الذي كلما ابتعد الانسان في العراق عنه ، فان الاجيال الجديدة لا تعرف شيئا من أسرار تلك الاوراق الرائعة ! ان اجيال العراق قد انتقلت يوما بعد آخر من حالة الفرح والمسّرات الى يؤر الحزن والاوجاع في عالم ينتفي منه السؤال وينتفي منه الجواب ايضا .. فتخيلوا من يكون ؟ وتخيلوا حجم المأساة التي عاشها العراقيون .
المثقف المبدع لا السياسي المؤدلج
لم التق بالرجل ابدا ، وليست لي اية ذكريات معه كي اسجلها في شاهد الرؤية، ولكنني كنت اتابع بعض منتجاته واعماله .. وبالرغم ممّا صادفه من قدح وذم ووصفه البعض بصاحب التقلبات عندما كان في تونس ، فأنني اجده كأي فنان مرهف الاحساس ، لم يقو على الاستمرار ضمن خط فكري واحد بحكم شفافيته ورقة وجدانه .. وقد جمع اطياف القرن العشرين كلها ، فهو متجدد الفكر والتفكير ، وهو مستقل الارادة السياسية ولكن لم يعلن عن موقف محدد بالذات ، وهو يقترب من اليسار في فورته ، ثم يدافع عن اليمين عندما انتهى اليسار .. انه لم يكن سياسيا يوما ، ولم يتخندق مع احد ، ولم يعش الاحداث الا بعد انقضائها .. انه لا يدّون الحاضر ، بل يسجل الماضي .. علما بأنه بقي طوال حياته يؤهل نفسه ككاتب وروائي بعيدا عن كونه محام وقاض .. فهو قليل الكلام ، هادئ الصوت لا يرغب بالظهور اعلاميا .. كان انطوائيا على عكس شخوصه التي وصفها بالصخب والعنف والعاطفة الوقادة .
تصوير الواقع
كان ثالث ثلاثة من رواد كتابة القصة العراقية الحديثة ، فهو الثالث الى جانب كل من عبد الملك نوري ، وذو النون ايوب .. لكنه لم يكن مثلهما يؤمنا باليسار ايمانا مطلقا ، بل كان يتظاهر بيساريته في اجواء ومناخات سياسية ، لكنه كان يترجم ليبراليته الواضحة .. كان دوما يقول بأن خمسينيات القرن العشرين هي افضل ما عاشه العراق والعراقيين .. وانه يصّور مرحلة عقد الستينيات القلقة المضطربة في العراق بسبب ما شهدته من شروخ سياسية وانهيارات أخلاقية ، وأساليب متوحشة يصعب تحديد مساراتها بسبب فوضاها الطاغية. وفي «الرجع البعيد» ينجح التكرلي في بناء روائي فني متمكن، مع مقاربة حقيقية ملتصقة بالواقع باستخدامه العامية العراقية في بعض الحوارات. لقد وجدته ينجح كثيرا في تحليل شخصياته تحليلا متوازنا ، ولكنه يسبر غور سايكلوجياتهم التي تترجم بوضوح كل الوان المحنة العراقية .. واجده دوما يبتعد عن شخوصه وكأنه من عالم آخر ..
سايكلوجية الذات العراقية
واستطيع القول انه أحد ابرز من ترجم الذات العراقية التي تطمح منذ عشرات السنين الى التحرر والانطلاق ، ولكنها بحاجة الى من يطلقها من سجونها المظلمة .. انها تتفجر عاطفة وتحتدم تعصبا وتطرفا .. انني اجد بعض صور التكرلي التي رسمها بعد ان قرأ المجتمع العراقي قراءة متأنية .. انه يؤمن ايمانا راسخا بأن العراقيين ان استطاعوا ان يغيّروا ما جبلوا عليه من اسوأ العادات ، ليخرجوا على العالم من افضل مجتمعات البشرية . انه يقول للعالم ان العراقيين يمكن ان يكونوا شيئاً ما معتبراً وثميناً اكثر من قيمة الحجر الكريم .. وكان الناقد الكبير علي جواد الطاهر قد اعجب بما لدى التكرلي من تقنيات عالية في صناعة القص ةوكم يمتلك من وسائل وادوات في كتابة الرواية .
واخيرا : ذكرى شاهد الرؤية
ان رحيل فؤاد التكرلي هو رحيل نخبة عراقية مثقفة ساهمت في رفد العراق وخدمة ثقافة العراقيين .. وستبقى اعماله مرجعا تاريخيا وادبيا وفنيا في مسيرة الابداع في الثقافة العربية المعاصرة . انني اذ اسجل كلمتي هذه في حق الاستاذ الراحل، ليس لي الا ان اقول بأن قاضي الرجع البعيد قد رحل ، ولكن صاحب خزين اللا مرئيات سيبقى حيا لن يموت . وهنا ، لا يسعني الا ان اسدي خالص التعازي القلبية لذويه واصدقائه ، وكل عشاق اعماله من الادباء والمثقفين ، وستبقى ذكرى فؤاد التكرلي باقية على المدى .