Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

قراءة في كتاب الأستاذ الدكتور فرحان باقر

صدر في هذا العام، 2011، الكتاب الثاني، للأستاذ الدكتور فرحان باقر، بعنوان (لمحات من الطب المعاصر في العراق)، بعد كتابه الأول الموسوم: (حكيم الحكام من قاسم إلى صدام) الذي صدر قبل ثلاث سنوات. والكتاب الجديد يقع في 432 صفحة من الحجم الكبير، بتصميم جميل، وطباعة أنيقة.


نبذة عن المؤلف

الأستاذ فرحان باقر، غني عن التعريف، فهو أستاذ الطب الباطني في كلية طب بغداد، تخرج على يديه آلاف الأطباء، وعالج عشرات الألوف من المرضى في العراق و خارجه.

وصورة الغلاف الأخير للكتاب، تعبر عن آلاف الكلمات، إذ توجز لنا رحلة طويلة للمؤلف، حيث نجد في أعلى الغلاف، صورة الشاب الدكتور فرحان باقر عند تخرجه من كلية طب بغداد عام 1948، وفي الأسفل، صورة الشيخ الأستاذ الدكتور فرحان باقر عام 2010، وبينهما رحلة طولها 62 عاماً، حافلة بالجد والاجتهاد في كسب العلم وتعليمه وممارسته، والترحال في غربته الطوعية و القسرية. فهو من القلة الباقية من الأطباء العراقيين، ومع رفاقه في أوائل الخمسينات من القرن العشرين، إذ كما تخبرنا سيرته الذاتية، أنه بعد تخرجه من الكلية الطبية في بغداد عام 1948، وإنهاء الخدمة العسكرية، وخدمته في كلية الطب العراقية، سافر إلى أمريكا وإنكلترا، وانتسب إلى جامعات ومعاهد مرموقة وحصل على أعلى الشهادات في الطب وفي الأمراض الصدرية. أحدث نقلة نوعية في تدريس وممارسة الطب العراقي... كان الرائد في إدخال التفرغ العلمي في الكلية في سنة 1972، وأول من أدخل امتحانات الكلية الطبية الملكية البريطانية حيث حصل العراق على أعلى النتائج في تلك السنة في العالم. والدكتور فرحان شديد الانتماء لعراقيته، ومن هذا المنطلق فقد أسس رابطة الأطباء العراقيين في أمريكا (IMCA/IMSA) إثناء غربته الإجبارية. وقد نشر الكثير من البحوث وشارك بفعاليات تدريسية ومحاضرات في دول إقليمية وعالمية.

كما وطبقت شهرته العلمية الآفاق في الأوساط الأكاديمية الطبية خارج العراق أيضاً، كباحث تشهد له المجلات الطبية العالمية، الأمريكية والبريطانية واليابانية، وغيرها، وكأستاذ زائر لكليات الطب في هذه الدول.

ولم يسلم الأستاذ باقر من أذى حكم البعث، إذ تأكيداً لما قلناه في مقالات سابقة، أن غرض حزب البعث الأساسي من اغتصاب السلطة في العراق هو تدمير الوطن، وطاقاته البشرية، وثرواته المادية، مع اعترافنا بوجود عناصر خيرة انتمت إلى هذا الحزب بنوايا حسنة، إيماناً منها بشعاراته البراقة المعلنة في أول الأمر، ولكن كانت وراء الكواليس قيادة خفية أرادت للحزب أغراضاً شريرة، على الضد تماماً من الأهداف المعلنة، لذلك كان الأكثر شراً في هذا الحزب هو الأكثر حظاً وقدرة للهيمنة على قيادته ومقدراته. وهكذا استحوذ الشرير صدام حسين على قيادة الحزب والدولة بشكل كامل في تموز/يوليو 1979 بعد أن أزاح الرئيس أحمد حسن البكر بمسرحية مفضوحة. وأول ما دشن به سيطرته الكاملة، وبعد أن أباد كل من يشك بولائه في القيادة في حمامات دم فظيعة ضد رفاقه، قام صدام بجريمة مروعة أخرى ضد صفوة الصفوة من الأساتذة الأطباء، حيث أصدر قراره الإجرامي بإحالة 48 منهم على التقاعد القسري، دون أن يبلغ أي منهم سن التقاعد، وهم في أوج عطائهم الفكري والعملي.

وفي هذا الخصوص يقول المؤلف: "بتاريخ 29/11/1979، فوجئ الوسط الطبي في العراق، ووزارتا التعليم العالي، والصحة، والمطلعون والمتابعون، وقراء الصحف بقرار رئاسي بإحالة ثمان وأربعين أستاذاً وأخصائياً من كليات طبية ومؤسسات مدينة الطب على التقاعد بدون ذكر السبب، وكان هؤلاء هم الصفوة في الهيئات التدريسية وفي خدماتهم الطبية، وفي قمة إنتاجهم العلمي في البحث والنشر. وكان هذا هو الانطباع العام وليس انطباعي." (ص 134).

ويضيف الأستاذ باقر: "وقد تجاوزت الضجة أجواء العراق عبر الأثير والحدود العراقية، فأحدثت ضجة في بريطانيا، حيث كتبت صحيفتان في الموضوع بمقالين إنتقاديين شديدين، أحدهما بعنوان: مجزرة مدينة الطب (Massacre of Medical city)، والأخرى بعنوان: (العراق: ثمن الحرية Iraq: The Price of Freedom ).

والجدير بالذكر، أن اسم الأستاذ فرحان باقر كان الأول في القائمة، علماً بأن ترتيب الأسماء لم يكن حسب الحروف الأبجدية، ولا حسب العمر. لذلك يعلق الدكتور باقر قائلاً: "إن اختيار اسمي وأنا على رأس عملي ومسؤوليتي في العلاج الطبي لرؤساء النظام الحاكم والرئيس السابق المقال، أو (المتنازل عن العرش)، له مغزاه ومعناه، وعندما بلغ الأمر الرئيس السابق أحمد حسن البكر، ضرب يداً بيد وقال: "إنه تخريب... إنه والله تخريب!" (ص134).

بطبيعة الحال، الخاسر الأكبر من هذه الجريمة، هو ليس الأستاذة المفصولين الذين دفعوا أكثر من غيرهم الثمن الباهظ فحسب، بل وكذلك طلبة الطب، والتعليم الطبي والخدمات الصحية، وبالتالي، الشعب العراقي ككل الذي حرِّمَ من خدمات أصحاب الكفاءات الفذة له، وما نتج عن هذا العمل الإجرامي من فراغ هائل في الكادر التعليم الطبي، بقيت آثاره على المدى البعيد ولحد الآن. وقد هاجر الكثير منهم إلى خارج العراق، فاستقبلتهم دول الخليج بالأحضان، ومن بينهم الأستاذ باقر الذي عمل في دولة الإمارات العربية المتحدة، مكرماً معززاً، ولماذا لا، وهم أصحاب خبرات ثمينة، وفي أوج عطائهم، فقاموا بتنظيم وتطوير التعليم الطبي والخدمات الطبية في هذه الدول، ورفع مستواها إلى أفضل ما يمكن.

نبذة عن الكتاب

رغم أن عنوان الكتاب يشير إلى (الطب المعاصر في العراق)، إلا إن المؤلف يدوِّن لنا تاريخ الطب في بلاد الرافدين منذ فجر التاريخ، فيقول: "تناولت فيه الطب في العصور المختلفة مع اهتمام خاص للطب في العراق في العصر الحديث. ولا يخفى على القارئ الكريم أن بلاد الرافدين عرفت الطب وعلومه منذ القدم، إذ كشفت البعثات الآثارية والتنقيبات التي أجراها علماء الآثار عن الكثير من الرُقم الطينية التي وثقت معرفة العراقيين الأوائل من: أكديين، وبابليين، وآشوريين، وغيرهم من الأقوام التي استوطنت العراق القديم بالطب وعلومه." (ص 14).

ويخصص المؤلف فصولاً لتاريخ الطب في هذه المراحل، على أن العصر الذهبي ظهر في العصر العباسي، ويشير المؤلف إلى أربعة من الأسماء اللامعة في هذا العصر وهم: علي بن حسن بن سهل زين الطبري (وهو غير الطبري المؤرخ المعروف)، وأبو بكر محمد زكريا الرازي، وعلي بن العباس المجوسي، وعلي بن حسين بن عبدالله بن سينا. والجدير بالذكر أن معظم أطباء ذلك الزمان كانوا فلاسفة أيضاً.

يتناول الكتاب بتسلسل زمني مسيرة العلوم الطبية في العصور المختلفة التي مر بها العراق، وصولاً إلى العهد الملكي الذي بدأت فيه بواكير النهضة الطبية في العصر الحديث، وذلك بولادة الكلية الطبية الملكية العراقية عام 1927، والتي نمت وثبتت قواعدها وأخذت مكانتها المرموقة واكتسبت الاعتراف العالمي بعد سنوات قصيرة. كما وتناول المؤلف أيضاً الطب في العهد الجمهوري الذي بدأ بعد قيام ثورة 14 تموز 1958.

يولي المؤلف اهتماما بالغاً لتاريخ الكلية الطبية العراقية (طب بغداد) وتطورها بشيء من التفصيل، لأنه في رأيه، لم يحظ هذا الموضوع بما فيه الكفاية من الاهتمام من الدراسات والبحوث العلمية الرصينة (ص16).

كما ويتطرق الكتاب إلى بدء الخدمات الصحية في العراق بعد الاحتلال البريطاني له، ونشوء وزارة الصحة التي بدأت " كمديرية تابعة لوزارة المعارف، لها مستشار تفرغ في سنة 1921 ليكون مستشاراً ومديراً عاماً للصحة التي أصبحت في 12 أيلول 1921 وزارة الصحة، والتي عهدت إلى الدكتور حنا خياط، وكان التقدم ملحوظاً في هذه الفترة. ثم ألغيت وزارة الصحة لفترة قصيرة وأصبحت مديرية عامة ملحقة بوزارة الداخلية في 8 حزيران 1922م، لتتحول إلى وزارة من جديد لاحقاً. (ص 40).

ثم يعرج المؤلف على المستشفيات الجديدة، ودور الأطباء البريطانيين في الجيش البريطاني في تأسيسها، وتجهيزها، ورفدها بالكوادر الطبية التدريسية، وتدريب الكوادر العراقية لها، وقد عمل هؤلاء البريطانيون بكل إخلاص وكفاءة، إضافة إلى عدد كبير من الكوادر الوسطية من الهنود، فيقول: "كانت هذه المستشفيات في أول الأمر تعج بالمستخدمين والموظفين الهنود، حتى إن الداخل إليها يظن أنه في قرية هندية!" (ص41)

بدأت فكرة الكلية الطبية لدى الأطباء البريطانيين، حيث لعبوا دوراً مشرفاً في تأسيسها، وخاصة الميجر هيكس (الطبيب) الذي ترأس اجتماعاً في حزيران 1921، والذي حضرَتْه جماعة من الأطباء العراقيين العائدين من الخارج. فتطرق إلى نسبة الأطباء إلى عدد السكان، وتوصل إلى وجوب وجود 1200 طبيباً في العراق، في حين كان العدد الموجود آنذاك لا يتجاوز الثلاثين طبيباً. وتحمس الحضور لفكرة تأسيس كلية طبية. (ص 47)

ولكن واجهت الفكرة معارضة المسؤولين في البداية بسبب نقص الكوادر، لذلك تأخر تأسيس الكلية ست سنوات، وأخيراً أثمرت الجهود، فافتتحت بتاريخ 29 تشرين الثاني سنة 1927، كفرع لجامعة أهل البيت. وتقدم 80 طالباً بين عامي 1927-1928 في السنة الأولى للكلية، وكان هناك امتحان قبول، فقبل منهم عشرون طالباً: ثمانية يهود، سبعة مسلمين، وخمسة مسيحيين. (ص 48 -49)

الملاحظ هنا، وكما يعلق المؤلف، عدم وجود الحاجز الديني في القبول.

ولكن في نفس الوقت نلاحظ أيضاً، النقص الكبير في نسبة قبول المسلمين، رغم أنهم كانوا يشكلون أكثر من 90% من السكان. والسبب في رأيي هو حرمان المسلمين من التعليم في العهد العثماني، بينما توفره لدى المسيحيين واليهود، لأن هذين المكونين أوليا اهتماما كبيراً للتعليم، فاعتمدوا على أنفسهم في فتح المدارس الأهلية الخصوصية لتعليم أبنائهم. لذلك كانت نسبة المتعلمين، وكذلك نسبة القبول في صفوف اليهود والمسيحيين أعلى بكثير من نسبتهم السكانية. وهذه نقطة تسجل لصالحهم، ودورهم الفعال في النهضة الحديثة.

ويسرد لنا الأستاذ باقر، بتسلسل زمني، مراحل تطور الكلية الطبية، فيقول: "افتتحت الكلية في البداية داخل المستشفى الملكي (عام 1927)، ثم افتتحت بناية جديدة لها، وهي البناية الحالية التي لا تزال قائمة بجمالها العمراني الملحوظ، في 30 نيسان 1930 من قبل المغفور له الملك فيصل الأول. وكان افتتاح الكلية الطبية حدثاً تاريخياً مشهوداً حضره الوزراء والأعيان، والنواب والسفراء والوجهاء.

ويضيف المؤلف بحق قائلاً: "وأفضل عمل قام به المسؤولون (الأساتذة الأطباء البريطانيون، وأغلبهم من سكوتلاندا) هو جعل المناهج مطابقة لمناهج الكليات الطبية البريطانية، وبعدئذ مطابقة للكلية الطبية الملكية في أدنبرة ذات التاريخ الناصع، ما هيأ العالم للاعتراف بالكلية الطبية العراقية". (ص51-52)

ثم يذكر الكاتب عدد الطلبة المتقدمين والمقبولين والخريجين لكل سنة، وعلى سبيل المثال: في السنة الدراسية السابعة للكلية (1933-1934) بلغ عدد المتقدمين 150 طالباً، قبل منهم 28، فقط. وفي نفس هذه السنة تخرج خمسة أطباء فقط، وهم: عبدالرحمن الجوربجي، ومهدي فوزي، وصادق علاوي، وسليم شكرجي، ويوسف دانيال. (ص 54).

نلاحظ هنا، التشدد في معايير القبول، إذ ليس الاعتماد في قبول الطلبة المتقدمين على معدلات درجات التخرج من الثانوية، بل إضافة إلى ذلك، كانت تجرى لهم امتحانات القبول، ويبدو أنها كانت صعبة، وذلك لحرص المسؤولين على اختيار الشخص المناسب لهذه المهنة الصعبة، وتخريج من يستحق أن يكون طبيباً بجدارة. ولذلك كسبت الكلية الطبية العراقية مكانتها اللائقة في العالم قبل أن يأتي البعثيون فيدمروا سمعة التعليم في العراق، إذ لم يلتزموا بعدد المقبولين، حيث كان القبول في الأربعينات بحدود خمسين طالباً، ثم زاد عدد المقبولين سنة بعد أخرى إلى 100، ولكنه ارتفع في التسعينات إلى 200، ثم إلى 300 ، وأخيراً ازداد عدد القبول إلى 500 طالب في سنة 1997، تخرج منهم 447 في حزيران، ودون أن ترافق هذه الزيادة في عدد الطلبة أية زيادة في عدد التدريسيين. وهذا شذوذ، يبين حجم الصعوبات التي واجهها الأساتذة في التعليم الطبي.

ثم أنشأت كليتان إضافيتان للطب في العراق، واحدة في الموصل سنة 1954 وبدأ التدريس فيها في العام الدراسي 1959/1960، والأخرى في البصرة سنة 1967. وكلتاهما كانتا على نمط الكلية الأم في بغداد، أي تتبع نظام كلية أطباء أدنبرة، وثبت موقعاهما وأداؤهما على مر السنين. (ص 90)

أما مؤسسة مدينة الطب فقد بدأ تصميمها في العهد الملكي وفي مجلس الإعمار، ولكن حجر الأساس أرسي في العهد الجمهوري الأول في 8 آذار سنة 1961، وأشرف على تخطيطاتها قبل ذلك الدكتور صائب شوكت، واستغرق البناء فيها بضع سنوات، حيث افتتحت سنة 1970، وانتقل إليها معظم أقسام المستشفى الجمهوري، واحتل الطابق الأرضي منها الإدارة وقاعات المحاضرات، وخصص الطابق الثاني للمختبرات...الخ (ص98)

إضافة إلى قبول الطلبة في طب بغداد بأعداد هائلة لا تتناسب مع المتوفر من الكادر التدريسي في عهد حكم البعث، حصل خطأ آخر في هذا العهد، وهو التوسع العشوائي في فتح الكليات الطبية في العراق، حيث بلغ عددها 22 كلية، أربعة منها في بغداد. وهذا بطبيعة الحال بعثرة للجهود والطاقات في عدد كبير من الكليات، بدلاً من تركيزها في عدد أقل. وقد تم هذا التوسع لصالح الكمية على حساب النوعية والأداء، وعدم أخذ حاجة البلد في الحسبان، بل لأغراض دعائية. ويعلق الأستاذ الدكتور فرحان باقر على هذه الظاهرة الشاذة فيقول: ".. ولا أرى ذلك يحدث في دول الجوار، ولا في الدول المتقدمة، إذ لا أرى في التسابق بإنشاء كلية في كل محافظة إنجازاً في المحافظة، في الوقت الذي لا تبعد إلا مسافة قصيرة، ووقتاً قصيراً لجارة لها. والحاصل من هذا عدم وجود كادر كافٍ وكفؤ للتدريس في الكلية الجديدة، ما يؤدي إلى انخفاض المستوى، وهو تحقيق الهدف من تلك الكليات الطبية، وخدمات الطبيب عند التخرج" (ص69)

ويضيف المؤلف فيقول: "قد يفاجأ القارئ أو المسؤول عندما أُخبره بالأعداد الهائلة من الأطباء العراقيين في الخارج، ففي المملكة المتحدة وحدها خمسة آلاف طبيب في مختلف الاختصاصات والكفاءات، ونسبة عالية منهم استشاريون وأساتذة، وعلى سبيل المثال، هناك ما لا يقل عن خمسين استشارياً في التشريح النسيجي (Histopathology) في بريطانيا، بينما كان في بغداد في وقت من الأوقات، تدريسي واحد في كل اختصاص وبدرجة ماجستير، وهذا مأساة!" (ص70).

كما ويذكر المؤلف نبذة مختصرة عن السيرة الحياتية للعديد من زملائه الأستاذة في كلية طب بغداد، والموصل والبصرة، مع صور البعض منهم، وهي التفاتة جميلة منه. والأجمل، أنه بدأ بالأساتذة البريطانيين، وخاصة الأوائل منهم الذين يرجع لهم الفضل الكبير في تأسيس الكلية الطبية، والخدمات الصحية في العراق في العشرينات من القرن العشرين، يوم كان العراق يعيش في ظلام دامس وتحت وطأة التركة الثقيلة التي ورثها من الحكم العثماني الطويل.

وعلى رأس الأساتذة البريطانيين الذين يخصهم المؤلف بالذكر هو، السير هاري سندرسن باشا (Sir. Harry Sinderson)، الذي يعتبر مؤسس الكلية، وكان الطبيب الخاص للمرحوم الملك فيصل الأول، وهو الذي أجرى للملك عملية الزائدة الدودية، فيقول عنه بحق: "لعله أهم شخصية في تاريخ كلية الطب في جامعة بغداد، وألمع شخصيات الطب في العراق الحديث. هو اسكتلندي الأصل، ولم يحتفظ بلكنة اسكتلندا عند قدومه إلى العراق. تخرج في الكلية الطبية الملكية بأدنبرة سنة 1914، والتحق بالخدمة العسكرية طبيباً برتبة رئيس أول (ميجر)، وارتبط بالحملة العسكرية على العراق، التي وصلها في سنة 1918. كانت أعماله إدارية في أول الطريق في القسم الطبي، ولرغبته في الطب انتقل إلى رئاسة صحة لواء الحلة". أهتم بالأمراض المتوطنة في العراق حيث حصل على شهادة (DTM & H) ثم شهادة (M.D) عن بحثه في دودة الأنكلستوما من جامعة أدنبرة، ثم على عضوية الكلية الملكية بأدنبرة (MRCPE)....الخ. وبرز اسمه مرشحاً لعمادة الكلية الطبية العراقية الوليدة سنة 1927، وللحق والتاريخ عمل الكثير لتطوير الكلية الناشئة... واستقطب مجموعة من خيرة الأطباء البريطانيين للتدريس فيها. (ص 263-264).

وقد أحب الأساتذة البريطانيون العراق بكل صدق وإخلاص، فشاركوا في تدريب عدة أجيال من الأطباء العراقيين، و يذكر المؤلف، على سبيل المثال، الأستاذ أرنولد ملز (Prof. A. Mills) الذي قدم إلى العراق مع الجيش البريطاني، وأعيرت خدماته إلى دوائر الصحة العراقية سنة 1922... ولكن من المؤلم و المؤسف أنه بعد سنين طويلة من خدماته الجليلة، "كوفئ" بهجوم الغوغاء على مختبره وأتلفوا كل شرائحه التي جمعها في سنوات عمله الشاق، والتي لا تقدر بثمن. ومن فرط حبه للعراق والعراقيين، وعند تقاعده بعد ثورة 14 تموز 1958، ، طلب الأستاذ ملز من الزعيم عبدالكريم قاسم أن يقيم ويموت في العراق، وقد منح هذا الطلب، وصرح بأن لا أهل له ولا وطن إلا العراق، ويرغب أن يدفن فيه... ولكن تدهورت حالته الصحية، وأصيب بحالة من الذهول والنسيان، وقدمت سيدة أسترالية وتكفلت به، وأخذت محتويات داره ورصيده. وتوفي في لندن ولم تلبي رغبته في دفنه في بغداد. (ص 272-273).

كذلك يضم الكتاب ستة ملاحق مهمة، والكثير من الصور التاريخية والتذكارية النادرة عن الأطباء والكلية ومؤسسة مدينة الطب وغيرها كثير.

ورغم أن عنوان الكتاب يشير إلى تاريخ الطب، إلا إن المؤلف، وهو الخبير في التعليم الطبي، وضع برنامجاً متكاملاً للنهوض في التعليم الطبي، والخدمات الصحية في العراق الجديد، وهو يمر بمرحلة تاريخية عاصفة بعد تخلصه من أبشع نظام ديكتاتوري جائر، أحرق الأخضر واليابس.

لذلك، أقترح على أستاذنا العزيز، حبذا لو أعاد نشر المادة الخاصة بالتعليم الطبي (ص 68- 73) كبحث مستقل في الصحف، وعلى مواقع الانترنت العراقية، وتعميمه على وزير التعليم العالي، ورؤساء الجامعات، وعمداء وأساتذة الكليات الطبية في العراق، ليتداركوا المشكلة، فهو برنامج شامل لتطوير التعليم الطبي في العراق على أسس حديثة لمواكبة المرحلة والتعويض عما فات في سنوات الخراب.

كذلك، ونظراً لأهمية هذا الكتاب، أقترح على وزارة التعليم العالي، إعادة طبعه ونشره في العراق بأعداد كبيرة، وجعله في متناول أيدي الأطباء العراقيين، وطلبة الكليات الطبية، والقراء من خارج مهنة الطب، من المهتمين بالثقافة العامة، لأنه كتاب شيق حافل بالمعلومات التاريخية القيمة عن العراق، لا بد وأنه سيسد فراغاً في المكتبة العربية، وبالأخص في المكتبة العراقية. والجدير بالذكر، أن الكتاب متوفر الآن في المكتبات العربية في بريطانيا وأمريكا الشمالية، إضافة إلى دولة الإمارات العربية.

نتمنى لأستاذنا العزيز دوام الصحة وطول العمر، والمزيد من العطاء الفكري في مجال التأليف لإتحافنا بالمزيد من فكره التنويري.





عنوان المراسلة: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com

مدونة الكاتب: http://www.abdulkhaliqhussein.nl/

Opinions