قصة مدينة الأحلام الممكنة
9 كانون الأول 2010يخترق "مدينة الأحلام" شارعان يتقاطعان في ساحتها الوسطى. وحين كثرت السيارت أصبحت تلك الساحة مشكلة حقيقية.
إجتمع حكماء المدينة ووجدوا أن "الخلاف" بين أتجاهات السيارات هو المشكلة، وقرروا أن يحاولوا "إزالة الخلاف" – أي إقناع الجميع بأن يسيروا في اتجاه واحد!
وحين بلغ الناس ما وصل إليه حكمائهم من حل، راح كل منهم يمني نفسه بأن تكون مدينته، "مدينةالأحلام"، خالية من الزحام، بأن تتجه فيها كل السيارات في اتجاه واحد، هو الإتجاه الذي يقصده، فيصل إلى مبغاه سالماً وبسرعة وبلا تعب أعصاب.
حمل كل حلمه وذهب إلى الساحة ليشارك في النقاش حول الإتجاه الذي يجب أن تتجه إليه السيارات مستقبلاً. لكن الفكرة لم تنجح ولم يصل النقاش إلى "إزالة الخلاف"، وأصر كل جانب على أن أتجاهه هو الإتجاه الأنسب. وبعد أخذ ورد، يئس الحكماء من المحاولة، فقد تبين أن "الخلاف" أمر لا مفر منه، فتركوا الناس تحل مشكلتها بنفسها، أي من يستطيع المرور يمر، ولو بالقوة.
وكما هو متوقع، تكاثرت الإصطدامات بين السيارات وكثرت الضحايا، وبدا أن اسم "مدينة الأحلام" سيفقد معناه، فاجتمع الحكماء ثانية للبحث عن حل. وبعد أن تعبوا من الكلام ولم يجد أحداً طريقة لإزالة الخلاف، قال كبيرهم: "الخلاف لا يمكن إزالته، يجب أن نحاول أن نعيش معه، لذلك علينا أن نبحث عن طريقة لأدارته بدلاً من محاولة إزالته"، وأقترح أن تعطى ساحة التقاطع لأحد الجانبين لفترة محددة ليمر، ثم يوقف هذا ويستلم الجانب الثاني حق استعمال الساحة لفترة مساوية وهكذا. وأقترح استعمال أضوية حمراء وخضراء من أجل ذلك.
لكن سكان مدينة الأحلام، سرعان ما اكتشفوا أن فكرة التقسيم االمتساوي للوقت، لا تخلو من العيوب. فإذا كان صف السيارات المتجهة شمالاً أطول من صف السيارات المتجهة شرقاً، فأن كل من سائقي الصف الأطول سوف يحصل على حصة أقل من وقت الضوء الأخضر، ولذلك فأنهم ينتظرون وقتاً أطول، وهو أمر غير منصف.
إجتمع الحكماء ثانية وقرروا من أجل عدالة توزيع وقت الضوء الأخضر وتساوي الإنتظار، أن يقسموا الوقت حسب نسبة السيارات في كل من الإتجاهين، وهكذا قرروا: كلما ازداد عدد سيارات أحد الإتجاهات، سيارة واحدة، حصل ذلك الإتجاه على زمن إضافي من الضوء الأخضر على حساب الإتجاه الآخر، وأسموا الوقت الإضافي بـ "حق الأغلبية". وبدا أنه أنسب الحلول الممكنة، رغم أن كل جانب كان يرى أن النسبة لم تكن تمثل ما يراه بالضبط.
وسارت الأمور لفترة بشكل جميل، لكن المشاكل سرعان ما ظهرت. فقد اكتشفوا أنه حين يكون أحد الصفين صغيراً جداً، فأنه سيحصل على وقت قليل جداً، لا يكاد يكفي لمرور سيارة واحدة. لذلك صارت سيارات الصف القصير جداً، تنتظر لفترات طويلة إلى درجة أنهم يستحيل عليهم الوصول إلى عملهم في الوقت المناسب.
إجتمع الحكماء ثانية وبعد نقاش توصلوا إلى أن صف السيارات الأطول يجب أن يحتفظ بحقه في وقت أكثر من الصف القصير، ولكن بحدود! حدود تضمن حداً أدنى من حق الوقت لسيارات الصف الأصغر، مهما كان العدد صغيراً، وأسموا ذلك الحد بـ "الحق الأساسي" الذي يجب عدم التجاوز عليه، مهما كانت نسبة الجانب الآخر كبيرة. وبعد أخذ ورد، تم تحديد الحد الفاصل بين "حق الأغلبية" و"الحق الأساسي" بشكل وافق عليه الجميع، رغم أن كل من الجانبين لم يكن راضياً تماماً.
بعد فترة اختبار أكتشف الناس أنهم وصلوا إلى توازن معقول. ورغم أنه لم يكن يمثل بالضبط طموح أي منهم كما كان يحلم، لكنه شيء يستطيعون العيش به في مدينتهم مع بعظهم البعض، وهو أمر يقدر الجميع قيمته، ويتنازل كل منهم عن بعض حلمه من أجله عن طيبة خاطر.
في العيد الوطني التالي إحتفل المواطنون بحل المشكلة وتقدموا بالشكر للحكيم الذي اكتشف أن الخلاف لا يزول، وأشار عليهم بترك محاولة "إزالته" والتوجه بدل ذلك إلى "إدارته"، وقاموا بتعديل إسم مدينتهم من "مدينة الأحلام" إلى "مدينة الأحلام الممكنة".
* فكرة القصة من إيحاء عبارة من محاضرة حضرتها للمفكر الإسلامي الراحل المرحوم نصر حامد أبو زيد القاها في مساء ممطر في لاهاي قبل أكثر من عقد من السنين.