كيف نظر العقاد إلى الألطاف الخفية؟
للأديب المصري عباس محمود العقاد (1889-1964م) (1306-1383هـ)، مقولة شهيرة في النهضة الحسينية، وتأثيرها على واقع الأمة السياسي والإجتماعي، حيث يقول: (ثورة الحسين، واحدة من الثورات الفريدة في التاريخ لم يظهر نظير لها حتى الآن في مجال الدعوات الدينية أو الثورات السياسية. فلم تدم الدولة الأموية بعدها حتى بقدر عمر الإنسان الطبيعي، ولم يمضِ من تاريخ ثورة الحسين حتّى سقوطها أكثر من ستين سنة ونيّف)، وقد أصاب الفقيد العقاد كبد الحقيقة، فلم تظهر لنهضة الحسين (ع) ما يماثلها في الأثر والتأثير حتى يومنا هذا، ولن تظهر أبدا، إذ لا يوم كيوم الحسين (ع) في كربلاء.وقد لا يعلم الكثير، فإن للعقاد مع الإمام الحسين (ع) قصة طريفة لا يمكن وضعها في خانة الحس والوجود، ففي واحدة من الزيارات الى الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية بلندن، بوصفي خريجها، التقيت مطلع يونيو حزيران 2008م، بأستاذي وعميد الدراسات العليا الدكتور ابراهيم العاتي (المولود في النجف الأشرف عام 1949م)، وضمن الحديث عن الثقافة والغيب، قال الدكتور العاتي أنه في السبعينات وأثناء وجوده في القاهرة للتحضير للدراسات العليا، قرأ مقالة للكاتب المصري أنيس منصور (المولود قرب المنصورة عام 1924م) في جريدة أكتوبر القاهرية حيث دأب منصور على الحضور كثيراً في صالون الأديب المصري عباس محمود العقاد (1889-1964م) (1306-1383هـ)، والكتابة عما كانت تجري فيه من أحاديث متفرقة في أبواب شتى، بمحضر عدد من أدباء ومثقفي مصر.
واستطرد الدكتور العاتي، أنه قرأ في إحدى حلقات أنيس منصور، أن العقاد كان شديدا وحانقا على الحزب الشيوعي المصري واليسار عموما، وكان يطلق عليهم وصف (أصحاب العاهات)، وقد غضبوا عليه وقرروا اغتياله، لما للسانه وقلمه من وقع كبير على المجتمع المصري والعربي. مضيفا: أن العقاد كان قد ألف كتابا بعنوان "أبو الشهداء الحسين بن علي"، وعلى أثر الكتاب كان قد تسلّم هدية من سادن الروضة الحسينية - السيد عبد الصالح بن عبد الحسين آل طعمة (1329-1426هـ) المولود في كربلاء المقدسة والمتوفى في لندن والمدفون في مسقط رأسه، تولى السدانة من أبيه عام 1349هـ حتى العام 1401هـ - عبارة عن قرآن كريم ملفوف بقطعة قماش من مرقد الامام الحسين (ع)، فتسلمها العقاد بيد الشكر والإمتنان ووضعها فوق مكتبته الشخصية في غرفته المطلة نافذتها على شارع السلطان سليم في البيت رقم 13، بحيث كان الطارق يرى الجانب العلوي من جسد العقاد اذا ما جلس في غرفته للمطالعة والكتابة.
وفي إحدى مقالاته عن صالون العقاد تطرق الكاتب أنيس منصور إلى عقلانية العقاد، وكان العقاد في إحدى جلساته قد أبان عن رأيه بالغيب والحضور والعقلانية واللاعقلانية، ومما قاله العقاد: انه رغم عقلانيته ولكن لا مندوحة من الإيمان بما لا يمكن للعقل والحس إدراكه، فبعض الحوادث تحصل دون أن تجد لها تفسيرا، ومن ذلك، انه كان جالسا في غرفته وفي لحظة واحدة ومن دون ما سبب سقط القرآن الكريم الموشّى بقطعة القماش الحسينية، وعندما انحنى العقاد بشكل لا إرادي لتناول القرآن الكريم والحيلولة دون سقوطه على الأرض، اخترقت نافذة غرفته في هذه اللحظة صلية إطلاقات نارية مستهدفة حياته، نزلت في الجدار ولم تصبه!
أقول فالملازمة بين سقوط الكتاب الكريم من غير ما مسبب ظاهر والنجاة من محاولة الاغتيال الفاشلة لا يمكن للحس أن يجد لها تفسيرا شهوديا وحضوريا، فالتفسير نجده في عالم الغيب، على أن آثاره العيانية ظاهرة في عالم الحضور.
وعودة الى مقالات الكاتب أنيس منصور، وأحاديث العقاد ومناقشاته في صالونه، الذي خرجت في كتاب صدر عن دار الشروق بالقاهرة في طبعته الأولى عام 1403 هـ/1983 تحت عنوان (في صالون العقاد كانت لنا أيام) في 702 صفحة من القطع الكبير، وكان قد انتهى من نشر آخر حلقاته في الجريدة في 6/10/1981م، فقد جاء في الصفحة 642، ان العقاد احتفظ ببيته كما وجدوا بعد موته بـ: "قطعة قماش سوداء من الكعبة وقطعة قماش ذهبية من مسجد كربلاء بعث بها أئمة الشيعة في العراق". وحول علاقة العقاد بالإمام الحسين (ع)، يقول أنيس منصور في الصفحة 635 من الكتاب ما نصه: قال د. عبد العزيز الأهواني وكان عائدا من أسبانيا: أمس كنت أزور أحد الشيعة في سيدنا الحسين، فقال إنه زار الأستاذ – العقاد- ولكنه لم يستطع أن يدخل بيته، فقد شمّ رائحة بخور قوية جدا، كالتي يشمها الشيعة عند دخولهم مسجد كربلاء، إنها رائحة أهل البيت، وإن الذي كتبه العقاد عن علي وبنيه وفاطمة الزهراء كفيل بأن يدخله الجنة مع الأئمة، وإن الرجل عندما اطمأن على الأستاذ اكتفى بهذا القدر، وعاد الى بيته يحمد الله على النعمة الضافية الزاخرة التي حظى بها واحد من أعظم المفكرين الإسلاميين في كل العصور.. إني لا أعرف إن كان هذا البخور حقيقة أو خرافة، ولكن من المؤكد أن العقاد كان رجلا عظيما ومفكرا عبقريا".
ربما يكون من حق الدكتور الأهواني المتوفى عام 1982م أن يشكك في حقيقة البخور، لأن التبخر في نظره هو من فعل العامة وليس من فعل عليَّة القوم، وإن تشكيكه ناتج عن عدم تقبل فكرة أن يقوم مفكر وأديب كبير مثل العقاد بالتبخر ببخور مسجد الحسين (ع)، ويعتبر الدكتور الأهواني من منظري الفكر القومي الليبرالي الإِشتراكي، وله كتاب "أزمة الوحدة العربية: أبحاث حول الإشتراكية والعروبة" صادر عام 1972م.
ولكن الحقيقة هي الحقيقة، فالإمام الحسين (ع) في قلب كل مسلم، بل هو في قلب كل عاشق للحرية، ولا يهوى الحرية إلا من كان مرهف الحس، مسلماً كان أو غير مسلم، فالحرية أمر فطري، والناس تواقة لركوب الفلك الذي يكون ربانه حراً، فكيف وربّان فلك الحرية هو أبو الأحرار الذي قال في عرصات كربلاء: والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لهم إقرار العبيد.
الرأي الآخر للدراسات – لندن