لازلنا نكذب...ونخادع....وننافق....الى متى؟؟
عندما سمعنا بمقدمك أمطرَتْ السماء ماءً زُلالاً في حالٍ من المناخ المعتدل والقيمة المناسبة لسُقيا الأرض المُقلّبة والمبذورة والمسمّدة مسبقاً،فاستعجلتْ المزارع حصادَها واجتهدَتِ الأشجار في لفْظِ الثمار الناضجة اليانعة وأنبتَتْ الأحراش ما لذّ وطابَ من فاكهة الصيف وبعض من محاصيل الشتاء ووَجدَ الجائعون مأكلاً والمدينون خلاصاً والعراة أثواب حرير والمرضى مَصل الوقاية وعَقَار الشّفاء وخرَج المساجين تائبين والفُساقُ طائعين والمعوّقين مهرولين..ولمّا أتيتَ تورّدَتْ الأرصفة وتسابقتْ أعمدةُ الإنارة لبثّ نور الشمس واستعارتْ نور الأقمار واستَحَتْ أكوامُ النّفايات من عُرْيِها فسَترَتْ نفسها بحُلل الصّناديق وعباءات البراميل وغادرَ الصغير منها المكان إلى حيثُ لا تراهُ أنت،واكْتَسَتْ الواجهات تنظيمَ الألمان وبرمجة اليابانيين ودقة الإنجليز،وتسارَعَ الموظفون لامتثال أوامر الأنظمة ووَقفَ النّاس احتراماً للطابور وقٌضيِتْ الحاجات في لمح البصر وأصبحتْ البيئة صديقةَ الإنسان ورفيقة الحيوان وجارةَ النّبات..
وها أنتَ بيننا تسحقُ زيارتك الظّلم وتُغطي طلعتُك عيوبَ الطّرُقات وسلبيات الاحتياجات وتسدّ طلّتُك حرارة الفوضى وتمنع أذى المساكين وتردم مشيتك حُفَرَ الموت وزَلقات الجادّة ونزَغات الشياطين،ومن رحابة مرافقيك وحاشيتك ومن معك تمدّدَت توصيلات الكهرباء وتمديدات المياه ووصَلَ البثّ الفضائي والأرضي والهوائي لقاع المحيطات وأكواخ المعوزين وبيوت الكادحين ووَجدَت الأنوف في تنفّسها هواء لم تعرفه من قبل ورائحة ياسمين لم تألفه قبل مجيئك..
وفي السويعات التي تقضيها هنا تنفجرُ الصحراء عن زهور النرجس وورود الليلك ورمّان الشتويّات،ونرى المسئولية لدى أهل الكراسي الدوّارة عالية والرعاية في أعمالهم طاغية،ونُشاهدُ التفتيش عن الخلل أصبح دقيقاً والاهتمام بالتفاصيل أضحى ديدناً واستقبال المواطنين صارَ سلوكاً،وتنقلب الدنيا رأساً على عقبٍ ليستيقظ أهل مدينتنا على أسطورةٍ من الخير والسعادة الواقعيّة لحياة اختزَلها من ينتظر مجيئك في إظهار الوجه الحسن من باطن الأرض على يدِ جُندِ سُليمان..
لا شكوى ولا تظلّم ولا نَقْصَ ولا عتاب ولا طلَبَ ولا اقتراح ولا إنكار ولا تعليق ولا نَقْد،فالخير موجود والجميع راض والرعيّة بعافية والأجواء معتدله والأنهار تجري والرواتب زائدة عن المطلوب والخدمات تفيض عن المفروض والطلاب نجحوا والعزاب تزوجوا والعقيم أنجب والعاطل يختارُ بين عدة وظائف تعرض عليه صباح مساء والوجوه جميلة والأسعار كأنها للمجّان أقرب ولم تتعثُر شاةٌ في أحد الجبال ولم تشكُ عجوزٌ من تأخر مُخصّص ضمانٍ ولم ينقطع الدواء ولا الهواء في المَشَافي ولم ينقطع المواء ولا العواء رضا من الحيوانات بالحال..
هم يعرفون طريقكَ الذي ستسلكه ودربَكَ الذي ستسير فيه خلال زيارتك السريعة لذلك فهم “يكذبون” ويستطيعون ويعرِفون،وهم كذلك قادرون على أن تكون البقعة التي تتواجد أنتَ فيها محميّة بارعة التنظيم ومدينة فاضلة بكلّ المقاييس وحاضرة شاكرة حامدة راضية مع أنها بالأمس كانت مُتْعَبةً شاكيةً صابرة،وهم قادرونَ على أن لا تسمع في المنابر سوى صوتَ الثناء والمدح ـ الذي تستحقّه ـ ومعه صوت التطمين والتدليس والتضليل بأن كلّ شيء على ما يُرام بل وأيّ شيء على ما يُرام لأنّ من يتحدّث ومن يتكلّمُ هو الذي على ما يُرام..
سيّدي!! لكَ في النفس معزّة وفي القلوب إجلالٌ وإكبارٌ ونحنُ متأكدون بأنك عادلٌ فاضلٌ راغبٌ في الخير والبركة والنّماء وأنتَ قد سخّرتَ كلّ ما تأمر به وتصبو إليه ليكون من لا يعرفك راضياً قبل من يعرفك ويراك وليكون من هو بعيد كلّ البعد عن إيوانك وبلاطك مطمئنّاً قبل من تربطه بوزاراتك رابطة ولكنّهم يا سيّدي يكذِبون..
لم يُخبرك يا سيّدي أحدٌ منهم بأنّ الطرقات قبل مجيئك معارج سموات،والأرصفة قبل مقدمك أسنان عجوز نخرها السّوس، وأعمدة الكهرباء قبل زيارتك نُذُرُ صعْقٍ وعواملُ إعدام للمارّة والسائقين، لم يُحدّثكَ أحدٌ منهم يا سيّدي أنّ سُقيا الأشجار الميتة في الشوارع لآخر مرّة قبل وصولك كانَ منذ سنين،وأنّ النّفايات كانت تٌزاحم الخارجين لأداء الصلوات،وأنّ الكهرباء كانتْ منّة من شركتها والمياه كانت تفضّلاً من مصلحتها،وأنّ النّومَ أقعدَ ثلثي الموظفين عن خدمة المراجعين..
لم يُنبئكَ أحدٌ منهم يا سيّدي عن مشروعٌ لفَظَ أنفاسه قبل أن يولد ولا عن مشروعات تأخّرت وتورّمت وتقلّصَتْ حتى تبخّرَت،ولم يُسِرّ إليكَ أحدٌ منهم يوماً بأنّ كلّ الافتتاحات العملاقة التي يستعدّون لكيْ تكونَ أنتَ من يفتتحها ويدشّنها في الحقيقة إنّما جٌهّزَتْ لكَ لتراها ويستخدمونها كشهادة زورٍ على ما يفعلون ولم يُراعى فيها ما ترغبُ أنتَ فيه أن يكونَ الأساس في ذلك للمواطنين وعباد ربّ العالمين، لأنهم باختصار يا سيّدي قومٌ يكذِبون..
تمُرّ الأمور والأحوال على العائشين هنا بكثير من “الرّوتين” والتعقيد ومراحل البيروقراطية المقيتة،ويحتجّ المسئولون هنا بأنّ البندَ لا يسمح والوزارة لم تصرّح والماليّة لم توافق وأنّ الأمر قيدَ الدراسة وأنّ الخطأ خارج عن الإرادة والقصد وأنّ الاهتمام يأخذُ وقتاً وأنّ الصبر مفتاح الفرَج،لكنّهم وقد أخبرْتَهم بأنّك قادمٌ أتاهم آتٍ من إيمان وقادمٌ من مواطنة ومشَتْ الأمور كأنها البرق وأُصْلحِتْ الأعطال كأنّها سِحْرُ المردة والدّجالين وخُيّلَ إلينا من سِحْرِهم أنّها الجنّة..
إنهم يكذبون يا سيّدي،فالخير موجود لكنّ النقص حاصل،والنعمة وافرة لكنّ القائمين عليها مهملون،والإمكانيات متوفّرة لكنّ هؤلاء الفئة كُسالى وفاشلون،وأنتَ تأمرُ وترسُمُ وتصرّح وتوصي وتحذّر لكنهم لا ينفّذون بل يسوّفون ويتململون وعندما تأتي أنتَ وتزورنا ينافقون ويكذبون.
الدكتور
يوسف السعيدي
العراق