لايدري .. ولا ندري أنه يدري !
غير قليل منا يعرف ما نسبه التاريخ الى فيلسوف الأسلام الخليل بن أحمد الفراهيدي , الذي خلص من معرفته بالبشر الى أن الرجال أربعة أصناف . فمنهم من يدري ويدري انه يدري , وقال هذا عالم فأسالوه . ومنهم من يدري ولايدري انه يدري , فهذا ناس وقال ذكروه . وهناك من لا يدري ويدري أنه لايدري وقال جاهل فعلموه . ثم الفاسق الذي لا يدري ولا يدري أنه لايدري , فقال احذروه . غير أن صنفا من البشر لم يذكره الفراهيدي ربما لأنه غير حقيقي أو أصيل لا في علمه ولا في جهله , وهو من يدري ويدري أنه يدري لكنه يفعل كما لو أنه يجهل , فذلك كاذب وماكر . وهل عرفنا من هو أكذب من جلاد العراق المقبور أو أكثر منه مكرا !؟ .بعد خلاص العراقيين من جلادهم خرجت الى النور حقائق كانت مغيبة في أعماق ودهاليز سجونه , وبعضها غيبت في الصدور ولم يكن يجرؤ من يحكيها اليوم أن يستذكرها حتى مع نفسه . ومن بعض ما غيب في الصدور ماحكاه شخص كان يرأس احدى النقابات المهنية المهمة , وبالطبع فقد كان هذا الشخص بعثيا ويقف على درجة متقدمة من سلم الأرتقاء البعثي ليشغل منصبا بهذا المستوى . حكى هذا النقيب وهو مطمئن تماما على سلامته وسلامة لسانه , انه في اجتماع ضمه ومجموعة من رفاقه البعثيين مع قائدهم الذي كان يحلو له كثيرا أن يجمع اتباعه ويلقي على مسامعهم ما اوحى به فكره المريض , أمر بتقديم الشاي لهم . يقول النقيب وبحسرة شديدة أنه لغبائه مد يده ليتناول قدح الشاي الذي أمامه قبل ان يبرد , لأن هذا من الأصول الواجب اتباعها , لكنه لم يكد يقربه من فمه حتى اقترب منه واحد من رفاق الحراسة الذين كانوا يحيطون بالمجتمعين وهمس في اذنه لينهض على الفور . وبعد ان طلب الأذن من قائده قائلا أن هناك من يطلبه على الهاتف , تبع رفيق الحراسة الى احدى الغرف المجاورة لغرفة الاجتماع وهناك كان بانتظاره عدد آخر من الرفاق انهالوا عليه صفعا على الوجه ولكما وركلا على كل مكان في جسده . وكان الضرب مصحوبا بشتائم لاذعة وأسئلة تستنكر جرأته . ثم بعد ان انتهوا منه اصلحوا له هندامه من جديد وخيروه بخبث ان كان يرغب في المغادرة أو العودة الى غرفة الأجتماع من جديد . وطبعا عاد النقيب الى غرفة الأجتماع , وهل كان سيفعل غير ذلك ؟ .
لكن المفاجأة كانت تعليق القائد على ماحدث . فقد قال موجها الكلام له ولبقية المجتمعين " ألم أقل لكم اني لا اريد اي اتصالات هاتفية تاتيكم أثناء اجتماعاتنا ؟ " .. وكأنه لا يدري بما حدث في تلك الغرفة . أي مكر هذا بل أي تصنع لبراءة لايمكن ان تجد لها موطنا في نفس رجل خارج عن تصنيف البشر ! .. ويخيل الي أن الفراهيدي لو كان من أهل زمنه المشؤوم , كان سيلعن معرفته بالذي يدري والذي لايدري .
لم أملك حين سمعت هذه الحكاية الا ان اضحك , لكنه ضحك مرير من شر بليتنا بذلك الجلاد وبرفاقه واتباعه الملعونين الى يوم الدين . لكن ما دعاني لذكرها هو الشاي .. نعم الشاي سادتي الكرام . في أخر يوم من شهر شباط بثت أحدى الفضائيات حديثا للأستاذ المالكي مع مجموعة من الأعلاميين العراقيين كانوا في ضيافته . بدا جو اللقاء وديا ومريحا الى حد اننا شعرنا بذلك ونحن في بيوتنا . ولفت انتباهي ان الأعلاميين كانوا يتناولون الشاي الذي قدم لهم دون تردد حتى أثناء ما كان الأستاذ المالكي يتحدث .
ما أجملها حرية يكرم فيها الأنسان وما أعظم الفرق بين يومنا وبين أمس لا اعاده الله .
nadiaalousy@yahoo.com