لا أريد ترك العراق ولا انوي البقاء فيه
لا ارغب بالتحدث عن نفسي كثيرا عندما اكتب لأنني أحصل على إشباع تام في ذلك من خلال تضمين كل سطر أكتبه جزءا من شخصيتي وطباعي واحمل كل كلمة في ذلك السطر جانبا مهما من تطلعاتي ووجهة نظري في الأمور والقضايا موضوع النقاش . ولكن منذ مدة أرغب في طرح هذا التساؤل أمام الجميع لكي يشاركوني قليلا في همومي والتي أتمنى أن يعتبرونها هموم أي شاب عراقي أخر وليست بالضرورة تخص كاتبها فقط.أتمنى أن تنال هذه القضية اهتمام كل من يقرأها لأنني فعلا أعتبر الاحتفاظ بها كمشكلة شخصية أمر خاطئ لأنها أكثر من ذلك الحجم خصوصا اليوم في العراق هذا البلد الذي يعتبره الكثيرون منا سببا من أسباب تعاستهم بسبب ما حدث وما يحدث وما سيحدث فيه والذي يتطلب من أي عراقي قرار جريئا وحاسما حول العلاقة بينه وبين الوطن وبكلام أسهل البقاء أو الرحيل مهما كان الثمن في الحالتين ولأنه لا يوجد وطن دون مكانه في قلب أبنائه مهما كان ذلك الوطن متواضعا آنذاك يتضح الثقل النفسي للمشكلة ويصبح التصريح بها والبحث عن مشورة أمرا لا بد منه حتى لو لم يعد ذلك بنفع ما في حل المشكلة لأنها صعبة جدا ومحيرة أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية المجردة أمام طالب متخصص يعشق دراسة الأدب والتاريخ . فإذا بقيت في العراق لن يفي هذا البلد بمستوى طموحاتك حتى لو كانت متواضعة للأسف وإذا رحلت لن يوفر لك الوطن الجديد كل ما تعودت عليه منذ الصغر ولن يشبع غرورك الشرقي وربما أول اختبار أمام من يرحل هو بمثابة تحدي كبير وصعب يتلخص في تساؤل بسيط يطرحه الوطن الجديد على المواطن القادم من بعيد هو .. من أنت .. ؟ ولكي تثبت لهم من أنت يجب أن تبدأ من جديد ورغم أن الموضوع ليس صعبا جدا ولا يحتاج سوى لجهودك ومهاراتك وإصرارك على الدخول في هذا العالم الحديث والجديد والذي يختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي قدمت منه يبقى الأمر لا يتحمل أقامة مقارنة بين من يرحل وبين من يبقى فصديقي في السويد مثلا منح أقامة وشقة وخصصت له الدولة راتب شهري يكفي لسد جميع احتياجاته الضرورية وأنا كنت مستمرا في الإفراط بالأمل بعراق متحرر بدت ملامحه جميلة كما كنت أحلم بها فلم أعد أفكر بالهجرة بل قلت له في أحدى المكالمات الهاتفية أية هجرة أنا الآن أمارس هواية في بلدي كانت في السابق مستحيلة من سيقول لي عفية عليك على هذه الكلمات في اليونان وهل سيعلم الألماني والهولندي بأنني حساس جدا ومرهف الحس وربما كلمة جارحة تكفي لقتلي قلت له بكل ثقة لن أترك العراق لو علمت بأنني سأموت فيه جوعا لأن طعم الحياة فيه تغير وربما لن يشعر بذلك لا العراقي المقيم في الخارج ولا المصري الساخر بعراق ما بعد الاحتلال ولكن ربما كنت مخطئا أو مسرفا بالتفاؤل فالنجاحات التي حققها صديقي لا تحصى والمستويات المادية التي أنتزعها لنفسه ولعائلته لم أصل أليها ولن أصل أليها وسأكون دائما في كفة الميزان الخفيفة أمام أنظار من يبحث عن المقارنات في بلد لم يعد فيه شيء واحد يستحق لكي يذكر لو كان الأمر مبارزة بين بلدين وفي كنف أقلية ربطت نفسها بالغرب في كل تفاصيل الحياة حتى لو كان الموضوع تقييم الإنسان في جوهره ومهارته وفي إنسانيته ومواقفه وليس بما يحمله داخل المحفظة من دولارات ولا بالسيارة التي يملكها ويسير بها في شوارع سدني أو تورنتو ولكن الأمر متروك لمن يطلع وليحكم ولكن لينطلق في حكمه من وجهة نظر العراقيين الجالسين في بيوتهم اليوم بانتظار رحمة الإرهاب بعد أن فقدوا أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم فكيف سيفضلون بائع (( المصاصات )) على .... انتم أعلم. ورغم ذلك ما زلت أجلس مصغيا لكل من يأتي من الخارج ويضع رأسه على كتفي باكيا لأنه لم يرى أحد ذويه مرة أخرى فالموت كان أسرع من الغريب في الوصول إلى الهدف . أو لأنه يجد صعوبة في التأقلم مع مجتمع يملك ساحل يتعرى فيه البشر أو محال تجارية لبيع الرقيق ويعجبون بتفهمي لمشاعرهم وأحاسيسهم وكأنني عشت معهم في الغربة على الأقل ليوم واحد مخفيا عنهم إعجابي المطلق بكل تلك الصور التي ينقلونها عن دولهم واحترامي المطلق لكل أنواع الحرية المتاحة منها في الغرب وخصوصا تلك المنضوية تحت عنوان الحريات المدنية والشخصية ولكن البعض الأخر يبدو أفضل لطفا وبعد تجربته للحياة العراقية لساعات محدودة يدرك مدى خطورة الوضع وصعوبته ويتجنب الكلام عن أناقة الحضارة الغربية وسلامها وهدوئها حفاظا على شعور أقربائه لكي لا يشعرون بالنقص ولكن اللبيب بالإشارة يفهم . ومن يسمع .. يتلهف ..ويتشوق .. ويتحسر وبعدها ينوي ويخرج ويلحق بالآلاف من العراقيين القابعين في دول الجوار بعد أن أصبحنا أول مصدر تمويل عالمي لشبكات التهريب ومافيا الحدود والزبائن المفضلين الذين يصرفون بسخاء على شراء تذاكر النقل والسفر والكثيرين منا فقد عرق جبينه لسنوات في محاولات يائسة للخروج دون نتيجة ومع إصرار على المحاولة مجددا وكأن هذه الخطيئة لا تنفع معها توبة ولا تجدي معها أرادة البقاء الهشة وما يزيد طينتنا الزلقة عدم استقرار هم القادمين من الخارج والمظاهر التي يتشدقون بها وأسئلتهم الكثيرة حول كيف تعيشون في ظل هذه الإطلاقات النارية والموت المفاجئ ومع هذه الكهرباء المراهقة والخدمات المتدنية وهم معذورين في تساؤلاتهم لأن بقائهم في أية دولة أجنبية لعقد أو لأكثر أنساهم بأن العراق لا زال يعيش في نفس الوضع منذ أن خرجوا منه . الأمر محير جدا وأصبح الخروج من البلد لا يقوم أحيانا على أساس رغبة حقيقية في التغيير بل أصبح كنوع من المنافسات الاجتماعية التي أفرزتها الفوارق بين المقيمين والمغتربين أو من أجل اللحاق بالقطيع أو لغيرها الكثير من الأسباب التافهة فلا يوجد غرابة لو علمنا بأن أكثر الخارجين من العراق يذهبون لأسباب غير حقيقية ودون رغبة عميقة ومع ذلك تراهم ينساقون في هذه الظاهرة وكأنهم عميان بدون اكتراث لخطورة الكثير من طرقها والتبعات النفسية المترتبة على الفشل ومع ذلك لو أردت عزيزي القارئ أن تتأكد من صحة هذا الكلام ومدى واقعيته في شوارعنا اليوم ستجده قد حل محل الكتاب المقدس بل وأكثر من ذلك فلا كلام أخر أهم وأكثر شيوعا وتداولا بين أثنين غير الهجرة وهمومها ليصبح الكثير من شباننا فريسة سهلة بين طرفي كماشة التناقض التي يعبر عنها عنوان المقال وتشتت مستمر في مواقفنا من الموضوع برمته ليولد في كل يوم العشرات من مشاريع الهجرة الجديدة المتجهين شرقا وغربا بحثا عن أية دولة لا تشبه العراق في المصير والمستقبل ودون أن تتحرك أية جهة في دعم تلك المشاريع الهجروية قبل أن تتحول إلى مهاجرين مغتربين فعلا تتسابق الأمم والحكومات على تقديم المساعدة لهم وهم خارج الوطن فكيف أذن سيفكرون بالبقاء فيه .Esa_j9@yahoo.com