للمسيحيين فقط . بباقة من الحريات لا تحلمون ، وقيود الشرق الإسلامي لا تكسرون ، ونسيم العلمانية لن تستنشقون ، أنعموا بالعراق كما تشاءون !
ربما لا يختلف أثنين على أن الوجود المسيحي في العراق بات مهددا في ظل هذه الموجة القوية من العنف التي تطال أبنائهم ، ودعا الأمر كل المهتمين بحضور هذه الأقلية إلى التعبير عن قلقهم حول مصير الوجود المسيحي في العراق وذهب البعض إلى رفع رايات حمراء توضح للعالم مستوى التدهور الذي وصل أليه ذلك الوجود بسبب شراسة المعركة التي يبدو لحد الآن بأنها لن تحسم لصالح الأضعف . واسهم هذا الاهتمام في وضع مصير هذه الأقلية من سكان العراق التي تعتنق المسيحية تحت المجهر ربما لأبعادها الإستراتيجية في كونها تمثل الامتداد التاريخي لشعوب قديمة في تاريخ العراق والشرق الأوسط . وانسحابها اليوم من قلب العالم الإسلامي قد يشكل بداية لانسحابات مثيلة وشاملة من المنطقة وهذا بالطبع لا يخدم مسالة الانتشار المتبادل بين الأديان الذي يساعد على إنضاج حوار الحضارات وسيكون له مضاعفات خطيرة على التعايش السلمي بين مختلف المكونات الدينية في مناطق أخرى من العالم وهذا ما لا تحمد عقباه .ومن هنا أنطلق الكثيرين في العالم في حملة غير منظمة لتقديم التضامن لمسيحيي العراق وذلك أما معنويا من خلال التضامن والمسيرات أو بأشكال أخرى في بلد يحتاج من أقصاه إلى أقصاه إلى الدعم والإسناد ليسهم هذا الأمر في أبراز قضيتهم بشكل أوضح ومن ثم استغلال الأمر برمته من قبل بعض الجماعات الأصولية والعصابات التي ضاعفت من ضغوطها على المسيحيين بدعوى حصولهم على معاملة خاصة أو دعم معين وما يحدث اليوم في مختلف مناطق العراق من ابتزاز وخطف وتهجير فاق ما يمثله حجمهم الاجتماعي بكثير خير دليل على ذلك . ومن جهة أخرى فان تركهم أمام هذه التحديات الكبيرة التي يواجهونها اليوم وحيدين أمر يفوق قدرتهم على التحمل وليس فيه من العدل والأنصاف شيء بل سيكون لذلك تبعات خطيرة على مصير وجودهم في ظل وضع شاذ يجبرهم على التزام أحد الأمرين ، أما البقاء والتقوقع والتنازل عن الكثير من الحقوق في سبيل ذلك أو الرحيل والتشتت بين مختلف دول العالم بانتظار مصير واضح حتى لو استلزم الأمر أعواما وعقود .
المسيحيين في العراق بعد سقوط النظام وجدوا أنفسهم أمام سلسلة طويلة من الشروط والتنازلات فرضت عليهم بأشكال مباشرة أو غير مباشرة بسبب ضعف سلطة الدولة وعدم قدرتها على بسط الأمن والنظام في البلد فبالرغم من قسوة النظام السابق وبطشه الذي طال الجميع دون استثناء ظلت الأقليات عموما متنعمة شيئا ما بعلمانية البعث وكبته للأصوليين والمتطرفين الدينيين ولم تبدأ حلقة الشروط التعجيزية التي تمس وجودهم بشكل مباشر ألا بعد سقوط النظام حيث مع أتساع الحريات طفت على السطح حركات أصولية دينية بدعم من أطراف مختلفة وسارعت الأحزاب السياسية على إنضاج الحس الطائفي لدى البسطاء كورقة رابحة لموسم الانتخابات المتعددة لتنمو الحركات المصطبغة بلون الدين بشكل سريع في الشارع العراقي وهكذا أصبحت تلك الحركات في حالة تماس مباشر في صراعها من اجل السيطرة على المجتمع مع كل من يحاول معارضة مظاهر التشدد والالتزام الديني والطائفي سواء كان ذلك المتحدي علماني مسلم أو مسيحي أو من أية ديانة أخرى وأولى مظاهر ذلك الصدام كانت بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي في النجف وما سبقها وتلاها من أعمال إرهابية قام بها طلاب الحوزة العلمية وبعض المتطرفين الشيعة من استهداف مصالح المسيحيين الاقتصادية بدعوى تعاملها مع المحظور والمنكر من وجهة نظر الدين الإسلامي وكنتيجة لذلك أغلقت معامل كثيرة للتقطير وصناعة الكحول بعد إحراقها وتخريبها وكذلك تم التطاول على المحال والمكاتب التجارية المتعاملة بنفس المواد وأفرغت الكثير من المدن الكبرى منها بالكامل في فترة وجيزة وقتل بسبب ذلك المئات من أبناء الديانات الأخرى في عمليات الاعتداء تلك ليبدأ تدفق النازحين إلى الخارج والداخل بعد أن فقد الكثير منهم مصادر دخلهم التي مكنتهم من الاستقرار في تلك المدن منذ عقود ولم يتوقف الأمر عن هذا الحد بل أصبح المد الديني قويا إلى درجة توجيه المظهر الاجتماعي العام للشعب بحسب خططه وما يجده الأصوليين ملائما لتغلق وسائل التسلية والترفيه مثل السينما والمسارح أبوابها ولتصادر حرية الإنسان العراقي رجلا كان أو أمرآة فأصبح للأول قصات شعر خاصة يجب الالتزام بها وأزياء ممنوعة منعا باتا وللثانية حدود وحواجز تجابه بقسوة في حالة تخطيها وليس غريبا أن يتطور الأمر ويصبح سنة العراق الجديد بعد أن تبناه الساسة ووصل إلى البرلمان حيث ليس من باب الصدفة أن تجد كل ممثلات الائتلاف العراقي الموحد متفقات على زي واحد بنفس التفاصيل ومع هذه الدوامة وجد المسيحيين وباقي الأقليات أنفسهم مجبرين على الدخول في هذه الدوامة وبيع حريتهم بأبخس الأسعار بعد أن أصبحوا ملتزمين بالتصرف وارتداء ما يناسب المجتمع ولا يتعارض مع مبادئه الجديدة لأن عقوبة المخالفة قاسية فهي على سبيل المثال في مدينتي ((الموصل )) رجم بالحجارة أو القاذورات أو بالحوامض الحارقة في مناطق حساسة من الجسم لمجرد المخالفة في الزي بل وصل الأمر إلى تدخل بعض المتطرفين في طريقة جلوس الطلبة في السيارات التي تقلهم إلى الجامعة حيث منعوا من الجلوس المختلط وانذروا الفتيات مرارا بضرورة ارتداء الحجاب . المسيحيين اليوم مندهشين من الوسائل التي تستعملها معهم الجماعات المتطرفة ولا سيما القاعدة والتي أحبطت معنوياتهم كثيرا وصادرت حريات طالما تمتعوا بها منذ زمن طويل بل دعتهم تلك التصرفات إلى مراجعة مناهج التاريخ التي درسوها من خلال ما تقوم به اليوم في بغداد والموصل من ترويع للمدنيين العزل ودعوتهم لاعتناق الإسلام بالقوة أو دفع الجزية مدعية بأنها تستمد تلك التصرفات من وحي الإسلام والطرق التي أستخدمها الخلفاء الراشدين في العصور الأولى لفجر الإسلام ولو كان الأمر صحيحا فنحن نشكر القاعدة لأنها دعتنا بذلك إلى إعادة النظر في مناهج التاريخ التي درسناها والتي شرحت لنا طرقا مختلفة عن تلك التي نجدها اليوم ، استعملت مع غير المتحولين إلى الدين الجديد , لنقع في حيرة من أمرنا حول أيهما الصادق من الكاذب التاريخ أم القاعدة .
المسيحيون اليوم في العراق محاصرون مكبوتون من كل الجهات فالبعض يطلب منهم الثبات إكراما للدين والتاريخ . والشعور الوطني المقدس يفرض عليهم البقاء حتى لو قدموا في سبيل ذلك اكبر التضحيات ومن جهة أخرى العالم يدعوهم إلى التنعم بالعراق الجديد وديمقراطيته الفتية دعوة أشبه ما تكون بتلك التي وجهتها تلك العجوز القاسية لزوجة أبنها الماكرة .. كرصة خبز لا تكسرين باقة فجل لا تحلين طاسة لبن لا تكشين ، أكلي ليما تشبعين ! ولكن كل البوادر الظاهرة في الأفق تقول لا نمتلك متطلبات المرحلة القاسية التي نمر بها اليوم من دهاء ومكر ولا من قوة ومركز سياسي قوي فهل سنموت جائعي الحقوق أمام مطالبات مراجعنا الدينية لنا بالثبات في هذا التحدي وما يلقيه تاريخنا العميق من أثقال على أعناقنا لا سيما فيما يتعلق بالوجود والمصير وعدم قدرتنا في موازنة ذلك مع حقائق الواقع القاسية المتمثلة بدستور بلد ربط بالكامل بالإسلام ورحل أملنا بنظام علماني إلى المجهول وفي ظل حكومة منغمسة في زواج متعة مع التشدد الديني والطائفي لا يمكن أن تستجيب في القادم من الأيام لأقل طموحاتنا المتعلقة بإطلاق الحريات في كل المجالات والتعامل مع الدين في خانة ترفعه عن دونية السياسة واستغلالها له من اجل غايات قاصرة عن الوصول في منافعها إلى جميع أبناء الوطن بدون استثناء .
فكيف لنا أن نبقى في دولة صودرت فيها حريتنا بالكامل وألغيت خصوصيتنا وأصبحنا مجرد مقلدين أعمياء لهذا الفريق أو ذاك ، فقط لكي نبقى على قيد الحياة . وأية تضحيات يطلبها منا العالم تلك التي لا زلنا قادرين على تقديمها بعد أن تحولنا إلى مجرد مطاردين تارة نتحول من الشمال إلى الجنوب وأخرى بالعكس وكأننا كرة كتب لها أن تبقى مهيأة للدحرجة دون توقف أو رحمة .
عصام سليمان – تلكيف
Esa_j9@yahoo.com