Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

لماذا تناسى الأحفاد موطن هجرة الأجداد!


الغور في التاريخ الإنساني متعة كبيرة، فكما يحن المرء إلى سنوات الصغر ومسقط الرأس والحارة التي كبر فيها بمرها وحلوها، يحن إلى التاريخ الإنساني الأول، إلى تاريخ البشرية ومواطن الأجداد الأوائل، فتاريخ البشرية نهر متصل لم يصل مصبه، وحبل ممدود منذ هبوط الأب آدم وزوجه حواء إلى حدوث قيامة البشرية الحالية، وكما للنهر روافد وجزرات وكما للحبل عقد والتواءات فإن للتاريخ مواطن ومحطات.
ويبدأ التاريخ الإنساني بلحاظ الأرض، من حيث موطن الهبوط، ومنه بدأ التناسل الإنساني والزحف البشري على مساحات الكرة الأرضية بدوافع إجتماعية وأمنية واقتصادية وعقائدية، ولا يمكن التكهن بالموطن الأول للهبوط والتكاثر البشري على وجه القطع واليقين، فقد تعددت الروايات التاريخية بذلك، كما أن الحفريات لم تقطع الشك باليقين، ولكن ما لا شك فيه أن أفريقيا واحدة من القارات القديمة المسكونة، بل إن حفريات تتحدث عن النشأة الأولى للبشرية في هذه القارة السمراء.
وعلى مستوى التاريخ الإسلامي فان القارة الأفريقية هي أقرب القارات إلى آسيا احتكاكا واتصالا، فحيث بدأ التقويم الإٍسلامي زمناً من هجرة الرسول الأكرم محمد (ص) إلى المدينة المنورة، فان هجرة المسلمين الأوائل إلى القارة السمراء حصلت قبل ذلك بسنوات، أي أن القارة الأفريقية تعرفت على الإسلام قبل الهجرة النبوية، وبتعبير آخر أن للمسلمين هجرتين داخلية وخارجية، والثانية سبقت الأولى، بل من حيث الواقع الجغرافي الأمني فإن الهجرة الخارجية ساهمت بشكل كبير في خلق طوق أمني بحري يحمي جزيرة العرب من اعتداءات خارجية من طرف أفريقيا من خلال العلاقات الوثيقة التي بنتها حكومة الرسول الأعظم (ص) مع حكومة النجاشي.
هذا التاريخ الذي يحكم القارتين منذ عهود سحيقة والإنتشار الإسلامي في ربوع ووديان هذه القارة المترامية الأطراف، يتابعه الدكتور محمد صادق الكرباسي في كتاب "الإسلام في إثيوبيا" الصادر حديثا عن بيت العلم للنابهين ببيروت في 71 صفحة من القطع المتوسط.
مكة أدرى
ما يميز الكاتب المتمرس عن الباحث والمحقق، أن الأول يكتب من بنات أفكاره مع خلفية ثقافية أو عقيدية أو سياسية وفي الوقت نفسه يعتمد على مصادر عدة بوصفها مؤيدات لأفكاره أو معارضات لأفكار غيره المعارضة، في حين أن المحقق يقف على سلم الكاتب نفسه، ولكنه يعلوه درجة أو درجات بحسب همة المحقق ودقته، ولذلك فإن هذه السلسلة من "الإسلام في ..." للمحقق الكرباسي تتميز بأنها تخضع لإعداد من قبل علم من أعلام ذلك البلد، فيهمش هنا ويضع ملاحظاته هناك، لأن الكاتب يسوقه إلى ضبط نصوصه المثل المشهور"أهل مكة أدرى بشعابها" ولذلك فإن الداعية الأستاذ محمد سعيد بن إبراهيم بن محمد زين آل أبي إمام المولود سنة 1386 هـ (1966 م) في بلدة "دوّي" في محافظة "وللو" الإثيوبية، والقاطن حاليا في العاصمة أديس أبابا، علّق على الكتاب وقدم له، فجاء الكتاب على صغره بما فيه من هوامش كثيرة معززة بالمعلومات، موثقا لتاريخ إثيوبيا ومكونات شعبها وعلاقة الإسلام بها، وحسب الأستاذ آل أبي: "تشير الدلالات التاريخية بأن الشعب الإثيوبي من أقدم شعوب المنطقة، إذ أثبتت الإكتشافات بأن أقدم حفريات الإنسان وجدت في إقليم عفر، إذ إن الشعب العفري منقسم في ثلاث دول إثيوبيا، إريتريا وجيبوتي".
وإذا كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة والرسول محمد (ص) في مكة المكرمة هي العلامة الفارقة في تاريخ أفريقيا، فإن الحضور العربي سابق على هذا التاريخ بفترات طويلة، وهذا ما يوضحه المحقق الكرباسي ويؤكده الداعية آل أبي إمام، وحسب تعبير الثاني: "منذ القدم أطلق العرب على المنطقة التي تقع جنوب الجزيرة العربية مقابل البحر الأحمر بالحبشة، وهي قبيلة من أصل يمني، إذ إن أعرق البيوت فيها كانت تعرف ببني حبش، كما أن التاريخ يوضح جليا الصلات القديمة بين الملك أبرهة الحبشي واليمن التي كانت تقع تحت سيطرة ملكه النافذ في ذلك الوقت"، وفوق هذا وذلك، فان الدور العربي في إثيوبيا مشهود ومحسوس للغاية، وكما يضيف آل أبي إمام: "وللعرب آثار واضحة في تكوين الشعوب الإثيوبية التي تفوق الثمانين قبيلة مختلفة، وهم خليط عربي زنجي ولكن الدماء العربية واضحة المعالم في الآثار التاريخية في إثيوبيا".
فإذا كانت هجرة الشهيد الطيار جعفر بن أبي طالب (ع) إلى الحبشة مع ثلة من المسلمين في السنة الخامسة من البعثة (8 ق. هـ)، وتبعته هجرة ثانية سنة 6 للهجرة لغرض التبليغ الإسلامي، هي أول مؤشر تاريخي على حصول اللقاء الإسلامي الإثيوبي، حيث أسلم فيها الملك النجاشي في الخفاء وأسلم معه بعض مقربيه، فهناك هجرة ثالثة كما يؤكد الشيخ الكرباسي، وذلك: "إن جماعة من أهل اليمن ممن والوا علياً (ع) هاجروا إلى الحبشة وهناك أخذوا ينشرون الإسلام"، كما أن الشهيد الطيار في عودته إلى المدينة المنورة سنة 7 للهجرة أحضر معه عدداً من الأحباش الذين أسلموا على يديه، ولكن بالتأكيد كما يشير المعد: "إن الهجرات العربية كانت من وراء الأغلبية المكونة للسكان ويظهر ذلك جليا في قبائل أمهرا وتجراي وارجوبا وعرب بني شنقول، والعروبة هي أوضح ما يكون في الشعب الهرري الذي تتركز في مدنه الحضارة الإسلامية التي امتدت في تاريخها القديم لتشمل مناطق واسعة من إثيوبيا على يد زعيمهم أحمد إبراهيم الأشول".
الطراز الإسلامي
تتميز إثيوبيا بموقع جغرافي متقدم وبمناخ جميل ولذلك يسميها أهلها مقارنة بالبلدان الأفريقية "سويسرا الثانية من حيث لطافة الجو"، ومن قبل كانت تسمى بلد الممالك أو بلد الطراز الإسلامي، حيث كانت الممالك الإسلامية تقع على طول الساحل البحري، فكانت الممالك لساحل أفريقيا المقابل لجزيرة العرب كالطراز بالنسبة للثوب، ولذلك سميت الممالك بالطراز الإسلامي، ومن الممالك المشهورة آنذاك: مملكة ايفات، مملكة بالي، إمارة هدية، إمارة دارة، إمارة دوارو، مملكة أرابيني، ومملكة شرحة.
ولكل مملكة أو إمارة إسلامية خصوصيتها، وهي تتوزع اليوم بين إثيوبيا الحالية واريتريا وجيبوتي والصومال، فعلى سبيل المثال فإن إمارة دارة اشتهرت بمدنها ومنها هرر التي أصبحت عاصمة لإمارة عدل حيث كان لها دور كبير في انتشار الإسلام وقد بُني فيها تسعون مسجدا باقية آثارها إلى يومنا هذا، وكانت واحدة من القواعد الكبيرة لصد الهجمات العسكرية للممالك غير المسلمة، وكان أهلها يعتزون بها حتى عدوها مقدسة كالحرمين الشريفين، بل وصفوها رابع أقدس مدينة بعد مكة المكرمة والمدنية المنورة والقدس الشريف.
ومن الممالك المشهورة هي مملكة أرابيني أو "مملكة فطجار"، وشهرتها جاءت من معركة "شمبرا كوري" سنة 935 هـ (1529 م)، حيث كانت أول معركة ينتصر فيها المسلمون على الملك الحبشي لبنا دنقل (914- 947 هـ) (1508- 1540 م) الذي كان يرفع لواء النصرانية في مواجهة الإسلام، وقادها الإمام أحمد بن إبراهيم الأشول الشهير بالإمام الغازي الذي استطاع توحيد الممالك الإسلامية وتوسيعها، لكنه قتل في إحدى المعارك عام 950 هـ (1542 م) بعد أن استنجدت الممالك غير المسلمة بالقوات البحرية البرتغالية.
في الواقع أن الإسلام دخل الحبشة مبكرا من الساحل الأفريقي للبحر الأحمر، ودخلها ولكن بشكل بطئ بعد ان فتح المسلمون مصر في العام 20 للهجرة وانطلقوا جنوبا نحو السودان، فالطريق البحري كما يقول البحاثة الكرباسي: "أهم الطرق التي دخل عبرها الإسلام إلى الساحل الغربي عامة، ثم أخذ بالتعمق الأكثر نحو الغرب ليمتد إلى وسط القارة الأفريقية".
النجاشي ثانية
مات النجاشي أصحمة بن أبجر عام 9 للهجرة، وترحّم عليه النبي محمد (ص) في المدينة المنورة حينما نعي إليه موته واستغفر له وقال لصحابته: "قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي" (تفسير القرطبي: الآية 199 من سورة آل عمران)، ودفن النجاشي في مدينة نغاش (Negash) شمال إقليم تيغراي (Tigray)، ولهذه المدينة ذكرياتها المتصلة بالحاضر والماضي كما يؤكد الدكتور الكرباسي، ففي القرن الأول مثّلت محل إقامة المسلمين المهاجرين الأوائل الذين قدموا إلى الحبشة وقابلوا النجاشي، وفي القرن الخامس عشر الهجري شهدت المدينة بناء مسجد للمسلمين.
وبناء المسجد في بلد شهد إلى وقت قريب اضطهادا للمسلمين، علامة على هامش من الحرية بدأ المسلمون يتحركون في إطاره منذ العام 1975 م عندما أقرت الحكومة المركزية في 13/5/1395 هـ (24/5/1975 م) يوم مولد النبي محمد (ص) عطلة رسمية للمسلمين وتبعه في 16/9/1395 هـ (22/9/1975 م) عطلة عيدي الفطر والأضحى، كما أن الحضور المسلم على صعيد المناصب الحكومية بدأ يزداد منذ اصلاحات عام 1975 م.
ويتوزع مسلمو إثيوبيا على مذاهب مختلفة، فهناك الشافعية والحنفية والشيعة الإمامية والقاديانية، ويرى المؤلف: "إن العديد من المهاجرين والتجار كانوا من أتباع مدرسة أهل البيت (ع)، بل والكثير منهم كانوا من سلالة الرسول الأعظم (ص) وقد زاد انتشارهم في هذه البلاد بعد الإضطهاد الاموي ومن ثم الإضطهاد العباسي، لكن الهجرة ازدادت بُعيد وفاة الإمام الصادق (ع) عام 148 هـ حين اشتد الضغط على آل الرسول (ص) فهاجر إليها عدد كبير من أبناء الإمام الصادق (ع) وهؤلاء انتشروا في السودان وإريتريا والحبشة (إثيوبيا) ويعرفون إلى يومنا هذا بالجعافرة".
ويرى البعض أن هجرة المسلمين الشيعة بدأت بعد عام 41 هـ بتحول الحكم الإسلامي إلى ملك عضوض على يد معاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ)، والبعض الآخر يرى أن الهجرة بدأت في بدايات عصر العباسيين الذين تولوا الحكم عام 132 هـ، وهم يتواجدون بكثرة في منقطة نغلي بورنا، وقد زارها المعد في العام 2007م، وكما يقول: "هي منطقة وعرة، وللمسلمين مؤسسة باسم (إتحاد المسلمين الشيعة في إثيوبيا) والمنطقة غنية بالمعادن وخاصة الذهب ويزاول أهلها الأعمال التجارية بين إثيوبيا وكينيا".
وبشکل عام فإن نسبة المسلمين في إثيوبيا اختلفت بين مصدر وآخر، نظرا لعدم وجود إحصاء عقيدي دقيق، فبينما يرى المؤلف أن المسلمين يشكلون نحو 65% من السكان 5% من الشيعة، يرى البعض أن نسبتهم هي 51% أي نحو أربعين مليون مسلم من بين أكثر من 66 مليون نسمة، فيما يرى البعض الآخر أن المسلمين يشكلون 31,4% من نفوس الإثيوبيين، بيد أن المعد يعدم وجود إحصائية دقيقة.
إن الحديث عن إثيوبيا أو الحبشة ليس حديثا عن الماضي فحسب، إنه حديث عن الحاضر والمستقبل، حديث عن العودة للتلاحم مع مسلمي أفريقيا بعامة ومسلمي إثيوبيا بخاصة، وهي دعوة كما يأمل الأستاذ محمد سعيد آل أبي إمام إلى تذكر هذا البلد: "الذي تناساه المسلمون وتركوا الأهواء السياسية المعادية أن تلعب بها كيفما تشاء".
• إعلامي وباحث عراقي- الرأي الآخر للدراسات (لندن)
alrayalakhar@hotmail.co.uk
Opinions