مأساة التربية والتعليم في مجتمعاتنا !
رؤية نقدية:أضم صوتي من خلال خبرتي الجامعية لأكثر من ثلاثين سنة في جامعات عدة في العالم إلى مناشدات كل المصلحين والمجددين حول هذا " الموضوع " .. ذلك أنني أحرص على مستقبل أجيالنا الثلاثة القادمة لهذا القرن الواحد والعشرين من اجل تطوير هذا الميدان ، داعياً إلى بناء مناهج تربوية عربية جديدة، إذ يحتشد الجيل القادم في المدارس والجامعات اليوم بشكل لم تألفه مجتمعاتنا من قبل، بثقلها الديمغرافى، وحجم متطلباتها، ومستلزماتها الأساسية، وسعة أبعادها.. وستواجه الحياة المقبلة مصاعب شتى، خصوصاً عندما سيندفع الناس يبحثون عن فرص عمل، واكتفاء ذاتي ، وحياة كريمة. إن مجتمعاتنا ستواجه بنفسها تحديات سيفرضها الواقع بكل ما فيه من معضلات ومشكلات وأزمات تتفاقم مخاطرها يوماً بعد يوم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. وعليه، فثمة مهمات أساسية وعملية ، لابد من الوعي بها في تكوين الأجيال بعيداً عن كل الترسبات والبقايا والمألوفات والخطايا والمثالب التي مازالت سائدة في التربويات المدرسية وفى المناهج الجامعية، فما الذي يمكنني قوله في هذا المجال، مستفيداً من خبرتي المتواضعة التي اكتسبتها من كندا والولايات المتحدة الأمريكية:
1 - إن ضعف مستويات التعليم الجامعي في جامعاتنا، هو حصيلة تراكم أخطاء المدارس الابتدائية والثانوية، فكل مناهجها لا تعتني أساساً ببناء شخصية التلاميذ منذ صغرهم، بل تعودهم على التلقين وحشو المعلومات حشواً متعمداً، وإنها لا تدربهم على المهارات العملية والتفكير الجاد في القراءات، وتعمد إلى محو شخصيتهم من خلال إلغائها مستلزمات البحث عن فرص الإبداع لدى الناشئة، كما أنها لم تعتن بتربيتهم لغوياً، ولا بتنمية تفكيرهم، وتوعية قدراتهم في الحياة.. إنها تقهرهم وتكبتهم وتضطهدهم وتمحى شخصياتهم ، بل وتسحقها ، ليس من خلال سلطة نصوص متنوعة تلزمهم بحفظها عن ظهر قلب دون الوعي بمعانيها فقط ، بل أن هناك من يزل يستخدم ضرب التلاميذ الصغار ضربا مبرحا ! وهذا يشكّل بحد ذاته إلغاء عمليا للذات وبلورة حقيقية لتوليد العقد النفسية لدى الأجيال .
2- إن أغلب طلبة جامعاتنا ومعاهدنا ليسوا بطلبة علم أو معرفة، بل طلاب شهادات، فالإبداع نادر عندهم ، وان " المعرفة " المنقوصة وأولياتها الأساسية المفقودة ، كما هو واضح ، لا تصنع منهم اليوم أية مؤهلات وأساليب لكل ما سيؤهلهم للحياة المقبلة .. إنهم يدخلون الجامعات ويتخرجون في أروقتها ، وهم لم يفقهوا بعد معنى الحياة، ولم يدركوا أهمية المعرفة، وليس باستطاعتهم صنع قرار مستقبلهم، وقد تجاوز كل واحد منهم الثامنة عشرة من العمر.. يأتون إلى الجامعات عموماً، وقد حصلوا على معدلات عالية جداً في التوجيهي (= الباكالوريا) وهم لم يبلغوا أي شأو من الثقافة العامة، ولا جودة اللغة الأم، ولا الأجنبية.
3- إن المسئولين في الجامعات من إدارات وهيئات أكاديمية غير مؤهلين لامتلاك «سلطة معرفة» في المجتمع ، فلا نجد أي تجديدات حقيقية في المناهج وأساليب التدريس كي يحيوا حياة جامعية علمية حقيقية.. وللأسف فإن جامعاتنا غدت تحت وطأة سيادة المألوف من الطرق الشائعة في المجتمع ، وهي تقع اليوم تحت تأثير سلطتين أساسيتين أولاهما الدولة ، وثانيهما المجتمع .. وان تدفق الأعداد الهائلة من الطلبة عليها، وضعف مؤهلات البعض من أعضاء الهيئات التدريسية، وغير ذلك من العوامل المفجعة قد أضر كثيراً بالمستويات العلمية وتأهيل الجيل الجديد في دنيانا العربية العريضة.
4-إن ثورة التغيير في المناهج والأساليب بحاجة ماسة إلى كفاءات كبيرة، وعلى الأستاذ أو المعلم في بلداننا أن يرتقى بمؤهلاته لكي يكون مربياً واعياً، ومعلماً ممتازاً.. إن هذا الجيل يتطلع، وسط دوامته، إلى مستحدثات العالم الجديدة التي تغرق تفكيره وتشكل تحديات له، لا يستطيع الوعي بها، فكيف ستكون له القدرة على الاستجابة لها، وسيطرته عليها قبل أن يكون مؤهلاً لإنتاجها والإبداع فيها؟؟ إن المعلم والأستاذ من اخطر المهن على وجه الإطلاق ، فماذا نجد في ردهات المدارس وأروقة الجامعات ؟ كيف كانت لكل من الاثنين قيمتهما الكبيرة في المجتمع عموما ، وكيف أمست أوضاعهما اليوم ؟
ثمة معالجات أساسية:
ثمة معالجات أساسية لابد أن يؤخذ بها عاجلاً أم آجلاً، وذلك بإنشاء قاعدة قوية من أمن المعلومات في كافة مؤسسات التربية والتعليم، والدعوة الصريحة والقوية لتأسيس منهج يضع مبادئ راسخة لمواكبة التقنيات البيداغوجية المتقدمة إبان هذه المرحلة التاريخية الجديدة من عمر البشرية، وهو منهج يربى التلاميذ في المدارس على الأسس العامة، ويعلّم الطلبة في الجامعات كيفيات التجديد في المعاني والأشياء. وأن أسلوب المناهج الجديدة سيختلف في مفاهيمه ومنهجه وطبيعته وممارساته وتطبيقاته عن الآليات والوسائل المعروفة والمألوفة في التعليم العادي المقنن الذي يمارس اليوم للملايين من الأطفال والشباب العرب، وسيبدو ذلك واضحاً في نوعية الخريجين الذين تبرزهم العملية التربوية المدرسية والتعليمية الجامعية، عن ركام الخريجين الآخرين الذين تلفظهم كل سنة دراسية المدارس والكليات والمعاهد التي تتبع التعليم المقنن والتربية التقليدية.
وهنا، سيكمن هدف العمليات التعليمية الحرة الجديدة من خلال مخرجاتها التي ستثرى حياة الجامعات والمجتمعات بأنواع جديدة من المراهقين العرب والخريجين المبدعين الذين لا ينتظرون من الدول والحكومات الإعانات والمنح كونهم عالة عليها، كما يحدث اليوم في خريجي المعاهد والجامعات عبئاً على السوق، وسيكون الفرق واضحاً جداً بين رصيد الخريجين المبدعين من المتميزين الحقيقيين، وبين عبء ركام الخريجين التقليديين من الخاوين العاطلين.. علماً بأن الحاجة اليوم باتت ماسة وأكيدة لمهارات الجيل الجديد لجعل مجتمعاتنا حية ومنطلقة.. وهذه «المهارات» لا تصنعها إلا مخرجات تعليمية راقية، وبشكل خاص في مجتمعات تمتلك تواريخ حافلة ومواريث عريقة وتقاليد اجتماعية أصيلة.. وفى دول تزخر بالأنشطة السكانية الفعالة والقوى الحيوية.. وتمتع بمكانة بيئية وجغرافية مهمة في العالم الذي انكمش على نفسه يوماً بعد آخر بفضل ظاهرة العولمة، واختلف عما كان مألوفاً في القرن العشرين بشكل لا يصدق!
إن بناء الشخصية الحرة، وصناعة التميز القوى، وتكوين المبدعين، وتخريج المخترعين ضرورة أساسية للأجيال الجديدة في هذا القرن، وحسب ما ينشر اليوم عند بداياته في أكثر من مكان متقدم من العالم، وما يوجهه عدد من المستشارين والخبراء والمحللين من مفاهيم حول أمن المعلومات في زمن ثورة المعلومات في تجديد مناهج التربية والتعليم لبناء مستقبل المعرفة في العالم، فإن المطالبة عربياً بذلك، يرسخ جملة مبادئ قوية جداً لمواكبة التقنيات المتقدمة، وخصوصاً من خلال وسائل الاتصالات والإنترنت والدوائر التليفزيونية المنفتحة وليست المغلقة بشكل خاص، إن إرساء هذا «المنهج» سيطور المعرفة العربية لأنها حجر الأساس الذي تعتمد عليه ثقافة أي مجتمع، وكيفية تحقيق حياة مثلى ذات معنى متطور للحياة، بتفكير جديد، فضلاً عن ثقافة موسوعية أو متخصصة، ومهارات مخطط لها من أجل توظيفها.. بدلاً من حمل مجرد قصاصة ورق اسمها: شهادة جامعية لا نفع فيها، إلا بالتعويل على الدولة، لتوفير فرص العمل.. إن مجتمعات متقدمة تجدد مناهج التربية والتعليم فيها كل عشر سنوات.. ونحن لم تعرف مؤسساتنا التجديد أبداً منذ أن تأسست المدارس والجامعات عندنا مند عشرات السنين! إن ذلك كله يتطلب أناساً يتمتعون بقدرة عالية على اكتساب المناهج البيداغوجية وتطويرها، وبالتالي تطوير ثقافة مجتمعاتهم من خلال مكتسباتهم المدرسية والجامعية.
حاجاتنا الأساسية لبناء بنى فوقية
إن حاجة المجتمع العربي كبيرة جداً لتأسيس بنى فوقية فيه، تمثلها قوى فعالة تتميز بتفكير براغماتى مهاراتي وليس امتلاكها مجرد أفكار تجريدية ونظرية ومألوفات تقليدية، تزود في القاعات ضمن قوالب ميتة لا حياة فيها!!! الغاية هنا أن يدرك الناس أنهم جزء من ثقافة أصيلة لها ماض عريق، وسيكون لها مستقبل، وهكذا، فإن المطالبة بمثقفين محترفين حقيقيين من أجل تكوين نخب فاعلة في المجتمع لا يمكن أن يكون إلا من خلال تطوير حقيقي وتحديث جذري للمناهج المعتمدة.. فضلاً عن إيجاد برامج مختلفة تعمل على بناء نخب فكرية ومثقفة ثقافة حقيقية وعالية المستوى، تقرأ ما يكفى من علوم المعرفة، بحيث يصبح بمقدورها اختيار اتجاه المستقبل الذي تريده وتطمح للوصول إليه، خصوصاً وأنها تمتلك القوة الكافية ليس للتأثير على ذلك المستقبل، وإنما للمساهمة في صنعه، وأنها إذا امتلكت ذلك، فستصبح قيمة جمالية في المجتمع، وقوة حماية له، وهو المجتمع الذي سوف لا يستطيع أي أحد أن يضلله ولا يخذله أو يضحك عليه كما كان يجرى في القرن العشرين.
لقد كان القرن العشرون مزدحماً بمحترفي الأيديولوجيات والأكاذيب والشعوذات والغوغائية والتدليسات والشعارات الميكافيلية والالتباسات من قبل أولئك الذين عبدوا حكامهم سواء كانوا من الرجال المدنيين أو من الضباط العسكريين ، وجعلوهم مقدسين كالأنبياء .. إلخ، مما أضر كثيراً بجيل من المبدعين المدهشين في الأدب والموسيقى والفنون التشكيلية.. هنا، علينا التنبيه على مصداقية أجيال جديدة لا تعرف إلا النظام الحضاري والقيم الجمالية والثقافة الواسعة، وكلها لا يخلقها إلا بيداغوجيات متطورة بدل هذا الذي يجرى في المدارس والجامعات.. على الجيل الجديد أن يقدم جماليات المكان، وروعة البنية، وحلاوة التراث، وخصب الفولكلوريات، وزهو الألبسة، وانتعاش الألوان، وسمو الفن والموسيقى والطرب.. والاستمتاع بذلك كله!
وأخيراً.. تمنيات متى تتحقق
وأختتم هذا النداء فأكتب لأقول: أريد أناساً يقدرون معجزة الحياة العربية وعجائب الحضارة.. أريد أناساً يغرفون من موجبات الأصلاء المبدعين من شعراء وفنانين ومختصين ومثقفين عاشوا وعانوا في القرن العشرين!! أريد أناساً لديهم المعرفة والرؤية والحرية والحكمة لبناء المستقبل بدلاً من أن يكونوا ضحايا للمستقبل، الذي تختاره لهم السلطات السياسية والاجتماعية تحت مسميات نوازع ومواريث شتى، أريد أناساً لهم القدرة العجيبة على وزن الأمور وإيجاد الحلول بعيداً عن الأخيلة والأوهام، أريد أناساً مؤهلين للمشاركة في حكوماتهم ومؤسساتهم، كونهم يدركون معنى الحياة المدنية.. أريد أناساً يعرفون كيف يتحاورون. وكيف يفكرون. وكيف يتساءلون ويجيبون.. أريد أناساً يقدسون الزمن وساعات العمل..
أريد أناساً يفهمون قيمة العمل ويذوقون حلاوة العمل الذي ينجزونه، ولكن عندما ينتهي يوم العمل. يكونون قادرين أيضاً على سماع الموسيقى ورواية القصص بحثاً عن المغامرة والجمال والحقيقة.. أناسا عندما يضعون أدواتهم أرضاً لآخر مرة، يستطيعون النظر إلى ثمار عملهم وجهدهم قائلين: «ما أروعها»! ولكن هل سنجد في أيامنا المقبلة من القرن الواحد والعشرين مثل هؤلاء المخلوقات العربية في هذا المحيط العربي الكبير .
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4291 - السبت الموافق - 4 سبتمبر 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com