مثقفينا.. واتحاداتنا المسكينة ..
مثقفين ..لُقطة...اذكر، بانني حين كنت صغيرا، سنحت لي الفرصة لحضور بعض امسيات جمعية اشور الثقافية، اذ استصحبني والدي وابن عمي معهما مرات قليلة الى جمعية اشور الثقافية رغبة منهما على ما اظن بأن اقضي بعض وقت الفراغ في اماكن قد تزرع في دواخلي كفتى مقبل على ابواب المراهقة، اهتمامات افضل من تلك المتوفرة في المجتمع "الشارعي" حيث لا تتعدى الصحبة، صحبة العاب شعبية، و"عركات" مناطقية، ومراهقات صبيانية..
واذكر تلك الرهبة والوقار اللذان كانا يعترياني حين كنا ندخل الجمعية، فأجلس صامتا، مستمعا احيانا، وضجرا احيانا اخرى، اتلقى كل ما يأتي به المنبر من قصائد شعرية او محاضرات، دراسات، او حتى مشاهد تمثيلية قصيرة (سكيتشات).. احاول ان افقه ما يبغون الوصول اليه.. رغم فشلي في ذلك كثيرا، ونجاحي قليلا.. لكني مذاك ، ومذ وعيت على مناقشات واراء ثقافية ، وكتب ومجلات في مكتبتنا، ومكتبة ابن عمي، علمت ان لفظة (المثقف، الكاتب، الاديب) تعني انسانا ناضجا مسلحا متطورا، بكلام موزون، له مكانة خاصة في الجلسات والتجمعات..فهو من يصغي اليه الجالسون، اكثر مما يصغون للكاهن احيانا..وتعثراته.. وهو من يمسك بدفة القيادة في النقاشات الثقافية والمعلوماتية، وله نظرة خاصة للامور، تنطلق من حب اخر للحياة، وهدف اخر فيها.. رغم الصعوبات..والملاحقات... وهكذا.. تعرفت على الكاتب والمثقف والاديب.. وهاجرت...
اليوم.. ومع تطور وسائل النشر ونقل الكلمة (بمعنييها، نقلها اي ايصالها، او نقلها اي سرقتها !!)، تعرفنا على مثقفين من نوع جديد، وخاص جدا، مثقفين وكتاب من نوع "شخبط شخابيط" – كما تقول الامورة نانسي- فالكتابة اصبحت اسهل من متابعة الواجبات اليومية لأولادنا (ان كنا اصلا نتابعها).. فالكل امسى كاتبا، يذيل (شخبطاته) بما يعتقد انه سيف يسلط به كلمته على القراء، فهاك الدكتور والبروفيسور والباحث والاستاذ الجامعي والشماس والأب والكاتب والناشط القومي..والخ من الالقاب التي يطلقها البعض على نفسه في خاتمة كل مقال ليحاول بذلك اقناع قراءه بصحة ما جاء به في مقاله ومصداقيته !!
والكلمة اصبحت اليوم دون ملاحقة وسجن و"فلقة".. فأكتب ما شئت، وسب كيفما شئت، فأن بقيت صامتا لعشرات السنين لا تستطيع حتى ان تشتم اصحاب القرار بينك وبين نفسك، وتخاف حتى من ان تفكر بذلك، لئلا يكون ذهنك خاضعا لمراقبة الجار او المسؤول الحزبي، فذاك الزمن قد ولى الى غير رجعة !! فأنت اليوم في بلاد ديمقراطية غربية، ومجلتك الخاضعة للرقابة والمتابعة، اصبحت اليوم موقعا الكترونيا مباحا.. وسلة المهملات التي كانت بالامس احتمالية ان تكون هي النهاية الشرعية لكتاباتك او شخبطاتك تتجاوز الـ 99.99 % كانتخابات البلدان العربية والدكتاتورية، تحولت اليوم بقدرة قادر الى منبراً ومنتدىً، يتقبل كل شئ..
وهكذا الحال مع الثقافة بصورة عامة.. فالمحاضرات الثقافية اصبحت لا تتعدى قراءة بصوت عال لكتاب اعجب به البعض المسكين الذي يحاول فرض نفسه كمثقف على المستمعين الكرام..وكذا الشعر اصبح موهبة الجميع..والثقافة صفة الجميع، والادب والعلم والمعرفة ميزة الجميع..فلا حدود في عالم الانترنت..فكل شئ اصبح متاحا ومباحا.. وان كانت في البدء الكلمة، فاليوم اصبحنا في زحمة اشباه كلمات، وازمة كلمة حقيقية !!
امة في خطر
نحن امة في خطر حقيقي وكبير..اذ اننا استبحنا لانفسنا كل شئ.. وتجاوزنا كل شئ، ولم تعد هناك قدسية لأي عمل نقوم به.. فنحن امة تؤسس جمعياتها ومؤسساتها املاءا لبعض الفراغات في حياة ابناءها، وننتخب هيئاتها الادارية ورائحة البيرة تزكم انوفنا..ولا نهتم.. فالثقافة التي بدأنا نتبناها، ونتعلمها من ابناءنا (الغربيين) هي ثقافة الـ who cares.. بل واننا وبصلافة نتجاوز كل ذلك لننشر صور تلك الانتخابات (المترنحة سكرا) على الملأ من خلال صفحات الانترنت والمنتديات وزيارة واحدة لاخبار الجمعيات والمؤسسات في مواقعنا وانتخاباتها تنقلنا الى عالم اللامبالاة هذا..
نحن امة في خطر حقيقي وكبير..اذ اننا نؤسس اتحادات (للادباء والكتاب) من على غرف البالتوك او نؤسسها من فتات بقية الاتحادات..لأناس يشاركونا رأينا وفكرنا القومي (المستحدث)، رافعين شعار ان لم تكن معنا فأنت ضدنا.. اتحادات ببيانات طويلة وعريضة..مزخرفة ومنقشة.. لم يحاول القائمون عليها والذين هم بالتالي اعضاءها، لم يحاولوا حتى الجلوس على مائدة واحدة، والاجتماع في بلد واحد، على الاقل وطنهم الام، حيث منبع كل شئ.. ذاك الوطن الذي يتغنون دوما بحضارتهم فيه !! بل انهم فضلوا الجلوس في غرفهم في بيوتهم ذوات الطراز الاسترالي والاسكندنافي والاميركي المكيفة ليلتقوا ويتباحثوا في امور امتهم من خلال الانترنت وغرف البالتوك !!
نحن امة في خطر حقيقي لأن اعضاء ومؤسسي هكذا اتحادات ثقافية (لادباء وكتاب) لم تتجاوز نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية، مقالاتٍ على مواقع انترنيتية لا تخضع في الكثير من الاحيان للرقابة.. مقالات لا تتجاوز مسالة التعصب القومي الذي من خلاله يحاولون اثبات احقيتهم بالتسمية التي تلائمهم !! اناس يطلقون على اتحاداتهم تسميات قومية، وهم لا يعرفوا الفباء لغتهم القومية !! فهل يا ترى ان امتنا او امتهم بالاصح (لانهم يفرقون ولا يوحدون) لم تملك مثقفين اخرين ليحملوا اسم مثل هكذا اتحادات !! ان كان هذا ذنب فالعذر اقبح منه حين يتم الاعتراف بمثل هكذا اتحادات لا تنشر سوى الفرقة !!
مسؤوليات..وفرص
انها لمسؤولية كبرى تلك التي تقع على عاتق مثقفينا الحقيقيين في مرحلتنا الراهنة، وهي بحاجة الى جنود اوفياء مضحين مخلصين، و مدافعين حقيقيين عن قضية الامة.. انها مسؤولية كبرى ان يحاول المثقف الحقيقي المفتقر الى قوة المادة، ايقاف التجاوزات التي تقع من اناس لا يهمهم سوى مصلحتهم الشخصية او تبوأ مراكز لاتناسبهم، انها مسؤولية كبرى ان يحاول المثقف الحقيقي الضعيف دحرجة الحجر عن قبر الحقيقة، في زمن اصبحت المساومات والمجاملات فيه جزءا من المشهد الثقافي!!
انها لمسؤولية كبرى تلك التي تقع على عاتق المثقف الحقيقي حين يجابه وبلا محاباة او تملق من يحومون حوله ليسرقوا منه فكرة او رأي.. او يطعنوا في رأيه سكين جاهلة.. ومسؤولية اكبر حين يعبر عن رأيه الحقيقي ويقف شامخا ويستمر في مسيرته التي ضحى في سبيلها عمرا طويلا وجهدا كبيرا..غير ابه بمن يحاول عرقلته، زعزعته، او حتى نثر الشوك في طريقه.. انها مسؤولية كبيرة حين يدافع المثقف والكاتب والاديب الحقيقي عن مكانته كمثقف، ولا يترك تلك المكانة عرضة لمن يحاول سلبها عنوة وهو لا يملك مقوماتها..
انها فرصة للمثقف الحقيقي لأن يراجع نفسه وينظر الى اصحابه الذين وقفوا شامخين اقوياء ولم تثنيهم اية اعتبارات عن خدمة امتهم وقضاياها المصيرية.. انها فرصة ليحاول اللحاق بهم ليسطر اسمه..مع اصدقائه في التاريخ النزيه لأمتنا.. بأحرف من حب..ومجد..
وبارك الرب بكل جهد جمع ولم يفرق
سيزار هوزايا
ملبورن – استراليا
نهايات تشرين الثاني 2009