مَسيحيو المَوصل بين هشاشة الدَولة .. ومعاناة المُجتمع
مدخل : المشكلة أخطر مما نتصّورمنذ سنوات طوال ، كتبت مع غيري من المهتمين العراقيين عن المسيحيين العراقيين الذين يعتبرون " أقلية " اجتماعية آخذة بالتناقص المخيف في العراق ، ضمن الاقليات التي ينبغي عن ندافع عن وجودها الوطني ، فلقد كانت نسبتها في المجتمع 10% ، واليوم تناقص الى 4% . لقد عالجت في اكثر من مكان أدوارهم التاريخية والحضارية والنهضوية في العراق وكل المنطقة ، فضلا عن كونهم من العراقيين القدماء الذين قدموا على امتداد التاريخ خدماتهم وابداعاتهم للجميع .. وكانوا وما زالوا يعتزوّن بوطنيتهم العراقية واخلاقياتهم ومسالمتهم للجميع والالتزام بطقوسهم وتقاليدهم التي بقيت مستمرة بين ظهراني العراقيين لالفي سنة مضت من دون اي اضطهاد دموي كالذي نجده اليوم والذي وصل ذروته في العام 2008 بمقتل نيافة المطران فرج رحو في الموصل وتغييب غيره ، بقتل القساوسة والآباء والناس العاديين الذين لا أذية لهم على احد ابدا .. دعوني اعالج بعض الجوانب التي ازعم انها اساسية في فهم علاقة الدولة بالمجتمع ، فالمشكلة اخطر مما نتخيل ، وهي ليست اعتباطية ، بل انها مخطط لها مع اهدافها لتغيير صورة الارض في المستقبل من خلال هذا العبث بالمجتمع في الموصل واطرافها ..
هشاشة الدولة
الدولة العراقية الهشة لما بعد عام 2003 هي غير الدولة الحديدية لما قبل هذا التاريخ . وعليه ، لا يمكننا ابدا مقارنة وضعية الامس باليوم . بالامس امتهنت الدولة المجتمع كله ، وغدا كل المجتمع في خدمة الدولة ، بل وخدمة السلطة العليا بالذات والرعب منها ، بل في خدمة الذات العليا على وجه التحديد .. صحيح ان الدولة العراقية لم تتمتع بصفات دولة طبيعية ومتطورة منذ خمسين سنة ، ولكن (الدولة) العراقية اليوم مفتقدة وهشة في كل مؤسساتها ، وتسّيرها أجندة متنوعة كتلك التي اراد لها الامريكان ان تكون ، اذ ليس في مقدورها السيطرة ، حتى على العاصمة وحدها . علينا ان نكون واقعيين في الدفاع عن المصالح الاجتماعية لكل الاطياف العراقية التي لابد للدولة ان تحميها من غائلة المتوحشين والطفيليين واصحاب المصالح السياسية والمستبدين الجدد .. الدولة الحالية هي مرتهنة في العديد من قرارات لابد لها ان تصنعها او تسير على هداها ، ويا ويلها ان خرجت عنها .. هناك اجندة امريكية لا يمكن تجاوزها بفعل الاحتلال .. هناك قادة احزاب يتنمرون ، وليسوا قادة دولة يلتزمون ، والرهانات للاحزاب والتحالفات اكبر بكثير من مشروع الدولة وخدمة المجتمع ومصالحه ـ ويا للاسف الشديد ـ .. وللانصاف اقول ، بأن هناك اليوم سعي من قبل بعض العراقيين المخلصين لخدمة العراق دولة ومجتمعا ، ولكن تمنعهم خطوط حمر لا يمكنهم ابدا ان يتعدوها ، او ثقوب سوداء لا يمكنهم اختراقها بفعل تحالفات حزبية كانت ولم تزل تعبث بمصير العراق .. ولكن هناك اليوم سعي محموم للتمتع بالسلطة والنفوذ والمكاسب من قبل ما اسمي بـ " المكونات الاساسية " على حساب " الاقليات الاجتماعية " ، واكثر بكثير من السعي لتقديم الخدمات للمجتمع . ان مجتمعنا العراقي اليوم قد تمّزق اشلاء بعد ان عانى وكابد وقاسى من ويلات الماضي الصعب ، ولكن لا يمكننا ان نغفل حالات الانسحاق والارهاب والانقسامات والصراعات التي ما كان لها ان تكون ، والتي قادت الى الهجرة الى الخارج للخلاص من الموت اولا ، أو النزوح الداخلي بفعل القهر السياسي ورعب التصفيات ثانيا .. نعم ، لا يمكنها ان تتم من دون اهداف يرسمها من له مصالح معينة هنا او هناك .
الموصل .. برعاية من ؟
كثيرا ما تمّت مناشدة الحكومة العراقية الحالية كي تضع ثقلها في ثاني اكبر مدينة عراقية هي الموصل والتي تعيش منذ سنوات حالات مرعبة من دون اي استجابة لكل المناشدات .. وكثيرا ما طالب مسيحيو الموصل بالاعلان عن كل حيثيات ما يحدث ، وخصوصا من كان وراء مصرع مطران الكلدان نيافة فرج رحو ، والكل ساكت لا يعلن عن اسرار ما يحدث . ان الحكومة العراقية ان لم تكن هي مسؤولة عن امن المواطنين العراقيين ، فمن يكون المسؤول اذن ؟ ان المسيحيين اسوة ببقية سكان المدينة يعانون الامرين ، وهم لا يسمعون الا الوعود والخطابات الحارة من دون اي استجابة حقيقية لوضع النقاط فوق الحروف ! اذا كانت الناس لا تعرف من يزرع الرعب في مدينة كبرى مثل الموصل .. فمن ذا الذي يصنع كل هذه الفجائع بحق السماء ؟ هل هناك اشباح جديدة اكتشفت فجأة ان المسيحيين لا يمكنهم البقاء في مدينة عرفت اسمى التعايشات بين المسلمين والمسيحيين على امتداد دهر طويل حتى يمارس ضدهم كل ؟
اذا كان المسيحيون او غيرهم في الموصل قد غدوا اوراقا يلعب بمصيرهم من قبل هذا الطرف او ذاك ، فان الكل سيكون مسؤولا عن هذا " التاريخ " الذي يصنعونه قتلا ورعبا وتهجيرا ونزوحا والعبث بمصير الجميع . اذا كانت قوى القاعدة والارهاب المحلي تريد الفتك بالقوى الاجتماعية الموصلية ، فلتعلن عن اهدافها خصوصا وان المسيحيين وغيرهم في المدينة واطرافها لا يملكون سلاحا ، ولا مليشيات ، وهم لا يطلبون الا الستر والسلم على النفس .. ان التلاحم الاجتماعي الذي يظهره كل ابناء الموصل وهم يكابدون على مدى سنوات هذا الاعصار الاصفر ، يفرض عليهم المزيد من التكاتف والتعاضد والتعاون حتى وان اختلفوا سياسيا او دينيا او عرقيا .. اذ يبدو ان مصير الموصل كله هو الهدف الحقيقي من وراء صنع هذا الاعصار . وعليه نقول ، ان من اخذ فرصته في ادارة الموصل وفشل في ذلك امنيا وخدميا ، عليه ان يغادر مباشرة ليفسح المجال امام غيره ليأخذ فرصته ، فربما كان اكثر حراكا واخلاصا ونشاطا وجرأة وقوة ..
ضرورات مجتمع الموصل
ان مجتمع الموصل اليوم بحاجة الى ضبط وربط من نواح عديدة ، وارجع الى السيد رئيس الوزراء لأذكره بالاجراءات التي اعلن عنها قبل اشهر ، وتلك التي وعد بها .. ماذا حصل لها ؟ ان اهل الموصل يطالبونه بتطبيق ما وعدهم به ، ليكونوا مؤهلين للظروف القادمة , وخصوصا ازاء الانتخابات . ان هناك من يعتقد ـ والحق معه ـ ان الموصل ستشهد موجات ارهابية كبيرة من اجل زرع الرعب مرة اخرى ازاء الانتخابات القادمة . ان من الضرورات ، ومن اهم معالجات الوضع : تأسيس قوات امن وقوات درك وقوات شرطة من ابناء المدينة كي يفرضوا الاستقرار ويستأصلوا كل العصابات ومظاهر التسلح في كل شبر من ارض الموصل .. وان يعود كل النازحين والمهجّرين الى بيوتهم آمنين مطمئنين ، وتلك " ضرورة اساسية كي يشعر ابناء المجتمع كلهم بأن الدولة المركزية هي ظهيرهم وسندهم . ان " مشروع الدولة الحقيقية " لا يمكنه ان يعيش الا قويا وليس ظالما ، وان يكون فوق ميول الناس واتجاهاتهم السياسية ، وان لا يتحّزب مع هذا الطرف السياسي دون ذاك .. ان كانت " الدولة " فعلا تخدم المجتمع الذي أتى بها الى السلطة .
ان ارادت الدولة ان تزرع ثقتها لدى ابناء المجتمع ، فعليها عدم اخفاء اية معلومات سياسية او امنية مؤكدة وردت من خلال تحقيقات قضائية .. لكي يعرف كل المضطدين في العراق من يقتلهم ومن يدمّر مصائرهم ، سواء كانوا مسلمين ام مسيحيين .. عربا ام غير عرب ، اي من ابناء كلّ الطيف العراقي .
الموصل القديمة
الموصل : اسمى تعايش ديني حضاري
ان على المجتمع مسؤوليات جماعية من نوع معين لا يعرفها العالم من دون التكاتف والتعاضد والمشاركة .. انني اناشد كل ابناء الموصل واهلها ان يكونوا كما هو دأبهم في الماضي ، حماة لاخوتهم المسيحيين المسالمين ، وان محنتهم واحدة ، وحياتهم واحدة ، ومدينتهم واحدة كما كانوا كذلك دوما منذ مئات السنين . ان اهل الموصل يعرفون حق المعرفة كم ان المسيحيين منهم ، وقد عرفهم الجميع : ابناء مخلصين ليس لهم الا حرصهم على اعمالهم ، وتفانيهم في خدمة بلادهم ، وجملة ابداعاتهم ومهاراتهم ، واعتزازهم بمدينتهم ام الربيعين .. لقد اشترك كل من المسلمين والمسيحيين الموصليين في التعايش الحضاري المشترك وابدعوا في مختلف الصناعات والعلوم والمهن والزراعة والتجارة والصحافة والفنون وكل ميادين الحياة .. كما كانوا معا على امتداد التاريخ في الوقوف صفا واحدا ازاء كل التحديات التاريخية التي عرفوها منذ قرون طوال من الزمن .. وليسوا بحاجة الى ان اّذكرهم بوقوفهم صفا واحدا ايام الحصارات والحروب والكوارث التي تعرضوا لها منذ القرن السادس عشر الميلادي وحتى اليوم . كما انهم ليسوا بحاجة الى ان أذكرهم كيف حمى ابناء الموصل كل النازحين المضطهدين من الارمن ، وجعلوهم جزءا منهم .
واخيرا .. ليقف كل ابناء المجتمع جنبا الى جنب
في مثل هكذا كوارث ونكبات تلم بالمجتمع ، على ابناء ذلك المجتمع ان يكونوا صفّا واحدا في مواجهة كل التحديات والمخاطر .. وان يكونوا اذكياء جدا في التعامل مع الازمات .. وان يقف كل الاقوياء الى جانب كل الضعفاء في المجتمع . ان المسيحيين الذين نزحوا من قلب مدينتهم الموصل لابد ان يصبروا ويثبتوا حتى يرجعوا بسلام ومحبة الى بيوتهم وشوارعهم وكنائسهم ومدارسهم وكلياتهم واسواقهم ودوائرهم في مدينة الموصل .. وان عليهم هم انفسهم وبمعيتهم كل من يعايشهم من اهلهم وجيرانهم المسلمين في الموصل ، ان يفوّتوا الفرصة على كل من يترصدهم ، او من يريد العبث بهم واللعب بمصيرهم .. وان يكونوا يدا واحدة لتجاوز هذه التحديات .. مع تحقيق كل الامنيات المشتركة.
www.sayyaraljamil.com
ايلاف ، 14 اكتوبر 2008