مغامرات دكتاتور العصر دفع ثمنها غالياً الشعب العراقي
منذ تأسيس الدولة الملكية في عام 1921، كان العراق في مقدمة العديد من دول المنطقة في ميدان تحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والصحي بعد أن عاش قرونا من التخلف والجهل والفقر على أثر سقوط بغداد في القرن الثاني عشر. لقد استطاع العراقيون في العهد الملكي وعلى مدى 37 عاما انجاز الكثير من المنشآت الصناعية والزراعية وتشييد البنى التحتية والمرافق الخدمية والمستشفيات والمدارس والمراكز العلمية والثقافية.. ولغاية 1958 أقيمت في العراق العديد من الشركات الصناعية النسيجية والزيوت النباتية والغذائية والمواد الانشائية وتكرير النفط، وعلى الرغم من كون عجلة التنمية كانت تسير ببطء بحكم المواد المتاحة، إلا أنها لم تتوقف حتى في العهد الجمهوري، حيث أضاف حكم الرئيس الراحل "عبد الكريم قاسم" وخلفه الأخوان "عبد السلام وعبد الرحمن عارف" العديد من المشاريع الانمائية واكمال تنفيذ خطط مجلس الاعمار التي وضعت في العهد الملكي، وشهدت الفترة من عام 1958-1968 توسعا كبيرا في مجال العمران وانشاء المرافق الخدمية والبنى التحتية وتعزيز القاعدة الصناعية حيث شهدت ولأول مرة اقامة الصناعات الثقيلة في الاسكندرية وبناء أول مفاعل نووي للأغراض السلمية وظهرت في العراق مدنا عصرية جديدة على أنقاض بيوت الطين التي كانت احياؤها منتشرة في بغداد والمدن العراقية.
تعد الفترة بين أعوام 1970-1980 من اكثر العقود ازدهارا في العراق، إذ نفذت خلالها خطتين خمسية أسفرت عن انشاء العديد من المشاريع العملاقة مثل مجمع البتروكيمياويات في البصرة ومجمع الفوسفات في عكاشات وميناء البكر ومصفى البصرة ومشروع الورق في ميسان والألمنيوم في ذي قار وتوسيع القاعدة الصناعية في الاسكندرية فضلا عن عشرات المصانع الانتاجية في مجالات الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية والبلاستيكية والغذائية والإنشائية وجرى تحديث السكك الحديدية والخطوط الجوية العراقية وأرصفة الموانئ وبناء السدود والخزانات واصلاح ملايين الهكتارات من الأراضي للأغراض الزراعية فضلا عن رفع مستوى التعليم والصحة والقضاء على الأمية واقامة المختبرات البحثية والعلمية الى جانب كل ذلك جرى انشاء بضعة مئات من المعامل العسكرية أو ذات الاستخدامات المزدوجة.
لقد ساعد على إحداث هذه النهضة السريعة توفر مستلزماتها من الثروات والخبرات والكفاءات العلمية المحلية ولا سيما ارتفاع أسعار النفط التي قفزت من 3 دولار للبرميل الواحد الى 10 دولار في عام 1973 ثم واصلت ارتفاعها لتصل عام 1979 الى أعلى معدل لها 36 دولار للبرميل الواحد، أضف الى ذلك زيادة العراق لانتاجه من النفط الخام ليصل الى أكثر من ثلاثة ملايين برميل يوميا في نهاية عام 1979 وكان يتوقع له أن يصل الى 6 ملايين في منتصف الثمانينات بعد استثمار حقول الرميلة الجنوبية.. وأثمر الاستثمار في مجال النفط مد شبكة خطوط لنقل النفط عبر تركيا والسعودية وشراء عدد من الناقلات لتضاف الى اسطول السفن التجارية وسفن الصيد.
آمال العراقيين تتبدد
ولو بقي العراق مواصلا تنفيذ خططه التنموية الخمسية لغاية عام 2000 لكان اليوم يتصدر دول الشرق الأوسط من حيث التقدم والرفاه الاقتصادي وضمان العراقيين مستقبل زاهر لأجيالهم القادمة. هذه التنمية كانت تسير بنجاح رغم ان جزءا لا يستهان به من موارد النفط خصص لدعم الميزانية العسكرية التي أرهقها شراء المعدات والآلة الحربية حتى أصبح للعراق آنذاك قوة عسكرية قوامها أكثر من 600 طائرة حربية و 6000 دبابة وما يزيد عن 10000 مدفع متنوع وحجم هائل من المعدات العسكرية الأخرى، رغم أن معظمها لم يكن متطورا ويفتقر الى التكنولوجيا الحديثة، لكنها حققت نوعا من التوازن في منطقة الشرق الأوسط. ولو وظفت تخصيصات وزارة الدفاع للتنمية لشهدنا عراقا يحلم به الجميع، فعلى سبيل المثال كان سعر طائرة "الميراج 1" التي اشترى العراق منها 128 طائرة بلغت كلفة الواحدة منها 48 مليون دولار فيما بلغ سعر "الميغ 29" بحدود 30 مليون دولار.. في حين إن بناء المجمع السكني في الصالحية الذي يضم 2350 شقة سكنية مع كافة أبنيته الخدمية لم تتجاوز كلفته 180 مليون دولار أي بسعر 4 طائرات حربية تحطمت على الأرض أو في الجو.
لقد صرح الدكتور سعدون حمادي بعد انتهاء حرب الخليج الثانية في عام 1991 بأن خسائر العراق من المعدات العسكرية تقدر بحوالي 120 مليار دولار ناهيك عن الخسائر المدنية والبشرية المنظورة وغير المنظورة. أما خسائر العراق بسبب فرض الحصار الاقتصادي عليه للفترة من آب 1990 ولغاية نيسان 2003 فقد كانت ثقيلة جدا على الاقتصاد العراقي في حاضره ومستقبله، حيث قدرت خسائرها من عائدات النفط السنوية فقط ما يربو على مئتي مليار حسب ما جاء في أحد بيانات مندوب العراق أمام لجنة حقوق الإنسان في جنيف عام 2001.
لقد تحطم مستقبل الأجيال القادمة وتبددت ثروات العراق
يصعب على المواطن العادي أن يتصور ويدرك حجم الخسائر المادية التي تعرض لها العراق في 24 سنة تقريبا من حكم الطاغية ومغامراته الطائشة التي بددت أحلام العراقيين، يكفي القول أنه وبسبب مغامراته بالحرب مع إيران كلف الاقتصاد الوطني حسب تقديرات أولية ما يزيد عن 300 مليار دولار كخسائر مادية غير بشرية إضافة الى ديون بذمة العراق بلغت لغاية عام 2003 حوالي 125 مليار دولار مع فوائدها التي اضيفت على أصل مبلغ الدين البالغ 76 مليار دولار، ثم اخيرا جاءت الطامة الكبرى التي أطلق عليها رئيس النظام "بأم الحواسم" والحقيقة إنها كانت أم الكوارث إذ قصمت ظهر العراق وزال ما تبقى للعراق من مشاريع انتاجية وتراجعت بشكل خطير جميع الميادين الاقتصادية والتربوية والصحية والقيم الخلقية والسمات النبيلة التي اشتهر بها الشعب العراقي.. أما تصدير النفط فقد هبط الى أدنى مستواه ليصل الى 1.5 مليون برميل يوميا.. كما فقدت البلاد الاستفادة من مواردها الأخرى كالفوسفات والكبريت والغاز والزئبق الأحمر علاوة على فقدان 18 مليون نخلة تمروبضعة ملايين من الهكتارات من الأراضي الزراعية التي عادت الى حالتها السابقة أرضا جرداء بور لا تصلح للزراعة.
منذ تولي الدكتاتور للسلطة والعراق يفقد كل عام رموزا من معالم تقدمه بفعل القصف الجوي والبري خلال الحروب وفترة الحظر الجوي التي خلالها تعرضت مشاريعنا الانتاجية للتدمير الواحدة تلو الأخرى.. انجازات عظيمة دفع ثمنها بالمال والجهد المتواصل الشعب العراقي، بناها العراقيون بدمائهم وعرق جبينهم واقتطع من أجل تشييدها من كل عائلة عراقية جزءا كبيرا من مصدر عيشها، فلو تم توزيع ما خسره العراق خلال حروب صدام حسين على أبناء الشعب لحصل كل فرد على ما يزيد عن ربع مليون دولار ولما أصبحت اليوم ثلاثة ملايين عائلة تعاني من أزمة السكن، وبضعة ملايين آخرين لاجئين ومشردين في دول العالم.
عودة العراق إلى ما قبل تأسيس الدولة الملكية
لقد عاش الشعب العراقي سنين مظلمة جوفاء سببت في زيادة نسبة الفقر وانتشار البطالة والتخلف والجهل وارتفعت نسبة الجرائم وانتشار الفساد الاداري والأوبئة التي تستهدف الانسان والزرع والحيوان وحصدت الحروب وسنوات الاضطهاد وقسوة النظام أرواح ما يزيد عن مليوني إنسان منهم 650 ألف في الحرب مع إيران و250 ألف في حربي الخليج الثانية والثالثة وحوالي 300 ألف ما بعد نيسان 2003 ولحد الآن، فضلا عن مليون عراقي لقي حتفه أبان الحصار الاقتصادي وتأثيرات الاشعاعات يضاف اليها تشريد وهجرة بضعة ملايين من العراقيين الى الخارج بحثا عن ملاذ آمن أو طلبا للرزق بعد أن ضاقت سبل العيش بهم.
لقد اصبحت انجازات شعب على مدى ثمانين سنة مجرد أطلال وأكوام من الخردة، حتى أن الكثير منها لم يكتف بسرقة موجوداتها بل وتدميرها ابتداءا من أسس البناء أي سرقة آخر طابوقة ترتفع عن الأرض من بناية المشروع مثلما هو الحال في مشروع الاسكندرية الصناعي.. لم يعد هناك وجود لمشاريعنا التنموية العملاقة التي كانت تعد الركيزة الأساسية للصناعات الثقيلة العراقية يضاف اليها تدمير حوالي 350 مصنعا بعد انتهاء الحرب في نيسان 2003 صنف على امكانية استخدامها المزدوج المدني والعسكري.
الحالة لم تتوقف عند هذا الحد، فقد دمرت الحروب وقوات الاحتلال وعمليات الحواسم الغالبية العظمى من المعامل والمشاريع الصناعية والزراعية والخدمية والنقل والمواصلات والبنى التحتية وعدد كبير من المدارس والمستشفيات ودور الرعاية الاجتماعية وغيرها من المنشأت التي جرى تشييدها في العهدين الجمهوري والملكي، فالتدمير على سبيل المثال لم يفرق بين معمل لصناعة الأجهزة الكهربائية أو المعدات الهندسية وبين معمل لصناعة الألبان وتعليب الفاكهة أو معمل للستائر، التدمير والتخريب طال انجازات العهد الملكي مثل مصافي النفط ومحطات الكهرباء والصناعات النسيجية أو مصانع العهد القاسمي مثل مصنع التعليب في كربلاء ومصانع الألبان فجميع هذه المشاريع كانت تشكل الدعامة الأساسية للنهضة الاقتصادية وإذا تم احتساب ما أصاب القطاعات كافة من أضرار جسيمة وفي مقدمتها الإنسان لأمكننا القول أن العراق قد عاد الى نقطة الانطلاق الأولى أو قريبا منها عندما تأسست الملكية فيه عام 1921.
فعلا من الصعوبة بمكان استيعاب الكارثة المهولة التي أحدثها النظام ليس فقط في الجوانب المادية منها بل المعنوية والإنسانية فلم يعد نسيج المجتمع العراقي قويا متماسكا كعهده السابق الذي دام قرونا عديدة وفوجئ العراقيون بتراجع خطير في القيم السامية وزيادة أعداد المفسدين والمخربين بشكل ملحوظ، ويتسابق اليوم الخبراء وذوو الكفاءات العلمية والأطباء والأثرياء للخروج من العراق طلبا للأمان بعد أن أصبح بمقدور العراقي ليس ارتكاب جرائم السطو المسلح والاغتصاب والاختطاف وتدمير معالم الحضارة بل ذبح الإنسان كما تذبح الشاة والتمثيل بالجثث والقتل الجماعي للأبرياء مقابل مئة أو بضعة مئات من الدولارات.. عادات بربرية تذكرنا بعصور المجتمعات البدائية.
لقد أدت الحروب التي شنها النظام الدكتاتوري الى تغيير سلوك مئات الالآف من العراقيين تغييرهم من بشر مكافح يسعى الى بناء بلاده والمحافظة على ثرواته الى بشر مدمر لكل شيء بما فيها المنشآت الخدمية التي يستفيد منها العراقيون وأبناؤهم من خدماتها كمحطات توليد الطاقة الكهربائية وتصفية المياه ومصافي النفط ومعامل الغاز حتى وصلت درجة التدمير لتشمل حتى سرقة أغطية قوهات المجاري وسياجات الطرق السريعة وأدوية المذاخر ومفردات الحصة التموينية.
إن الكوارث والمصائب المتواصلة التي حلت بشعب العراق في عهد الطاغية يعجز فعلا الكتّاب عن احصائها ويتطلب لاعادة اعمار ما تم تدميره خلال 24 سنة من حكم الدكتاتور عقودا عديدة وموارد وجهودا طائلة غير محددة خاصة ما يتعلق باعادة بناء أخلاق وقيم الإنسان العراقي الذي يعد الأداة الرئيسة لعملية البناء والتقدم.