Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

ملل ~~~

قصة قصيرة


........ نهضَ مُتأخراً اليوم ...... كانت الساعة قد جاوزت الواحدة ظُهراً ..... ولكن ماذا سيفعل لو نهضَ مُبكراً فلا شئ بأنتظارهِ ...... لا عائلة .... لا أُم ...... لا أب .... لا زوجة ..... لا أخوة .... لا أخوات ...... لا أصدقاء ..... ولا أقارب ..... واليوم هو عطلة الأسبوع ..... تثاقل كثيراً حتى غادر فراشه ثُم اتكأ على أحد جدرانِ شقتهِ ...... بحث في القنوات التلفزيونية ولم يجدْ فيها ما يثيرُ أهتمامه
...... فكلّها مملّة كعطلة نهاية الأسبوع تماماً .... حولّ أهتمامهُ عن التلفاز الى الأشرطة الصوتية ولم يعثر فيها على مايثيرُ رغبتهُ للأستماع
...... جميعها مُملّة ومُكررة ..... لا جديد .... لقد سبق وأن أستمع اليها الآف المرات .... وحتى ذلك المطرب الذي كان يحبّه ويستمعُ اليهِ بشغف بدأ يكرههُ .... في كل مرّة يعذبّه بأغانيهِ المُلتاعة المُتخمة بالحنين الى الآخرين البعيدين والى الوطن
الغائب الحاضر في حياتهِ ..... بل لقد كره هذا المطرب الذي لا يكفُّ عن النوح والأشتياق ..... لن يستمع اليهِ بعد الآن أبداً ...... أعدَّ الأفطار ...... أكل قطعتين من الخُبز الجاف كحياته ورشف بعضاً من الشاي المُرّ كأيامه .....
لم تتقبل معدته المزيد فلا شهية له اليوم على الأطلاق ..... عاد للأتكاء على الأريكة مُسنِداً رأسه الى الجدار الذي خلفهُ ..... ماذا يفعل ؟ ..... كيف سيقضي يومه ؟....... يزدادُ الأمر صعوبةً إِنّهُ لا يعرِفُ الكثير عن هذهِ البلاد ..... أين يقضي أهلها أوقاتهم ..... إِنّهُ يجهلُ أماكنها وخفاياها وحتى لو أكتشفها وعرف أماكن التنزه جميعها فلن يفيدهُ ذلك بشئ ..... هل سيذهب الى هُناك وحيداً .........
ما الفائدة ؟ أية مُتعة سيجني ؟ مع من سيتكلم ؟ ....
مع من سيتجاذب أطراف الحديث ؟ إِنّهُ يعرفُ السوق العام للمدينة ولكنّهُ كلّما ذهبَ هُناك أزداد وحدةً ..... الزحام يؤكد لهُ وحدته عميقاً والضجيج يُشعِره كم هو غريب عن هذهِ البلاد
...... وأن وجد من يجالِسهُ فأنّهُ يُشعِره بغربتهِ أكثر
..... وأكثر ..... هذهِ البلاد في عطلة نهاية الأسبوع تبدو تماماً كمدينة فُرِض عليها حظر التجول .... كل الأبواب مُغلقة ..... كل الطُرقات خالية وفارغة ..... محظورٌ على سُكانها حتى التنفُس تجنباً للضوضاء
..... ليس غير سوق نهاية الأسبوع مفتوحاً لبضع ساعات ليتمكن من يريد التبضع من ذلك ثم تتلاشى الحركة التي توحي بالحياة وتختفي وتموت ولا يبقى غير السكون المخيف الكريهِ والذي يسببُ لهُ الصداع كثيراً ما ..... تعلمّ دائماً أن الضوضاء تُسببّ الصداع لكنّهُ هنا أكتشف الحقيقة الغريبة في تسببّ السكون المُطبق للصداع حدّ التصدع في الرأس والروح ......
كان فيما مضى يُخطط لكل يوم ..... الآن يفعلُ ذلك أيضاً ..... والفرق إِنّهُ لا يُنفِذ ..... فالملل يعدُّ أنفاسه ومع الملل تتسللُ الكآبة الى روحهِ بخُبثٍ غريب وقاتل .....وكُلّما مرّت السنين وتراكمت تزايد مللاً
...... قررّ أن يُحارب هذا الملل..... سيخرجُ الى سوق المدينة ..... هُناك سيرى الناس والزُحام وربّما هذا سيعطيهِ شعوراً مُختلفاً فيصدقُ أن الحياة لا زالت بخير ..... لكن ماذا سيفعل هُناك ؟ ماذا سيكون هدفهُ ؟ ما الذي سيشتريهِ ؟ ..... نعم لديهِ أحتياجات ولكن لا رغبة لديهِ في التسوق على الأطلاق ...... لا رغبة لديهِ في الوقوف في طابور المتسوقين وفتح محفظتهِ وأنتظار دورهِ لدفع ما عليهِ ..... آه إِنّها عملية مُملّة ومُقرفة ..... ثُم أن نزولهِ للسوق هكذا لمُجرد الخروج من المنزل ودون رغبة في التجوال يجعلُ خطواتهِ تائهة في الزُحام وغير مُحددة كما يبدو ذلك في نظراتهِ القلقة المُنزعجة فتغزو نظرات الآخرين علامات الشك والأستفهام عما بهذا الرجل وربّما يظنّه البعض مجنوناً ..... وكثيراً ما يقوده ملله للشرود فيصطدم بالآخرين ويبدو غريباً في سلوكهِ حيالهم ..... وهو لا يُحبّ هذا الموقف لنفسهِ ..... لكن ليس أمامه من بُّدٍ أخر ..... سيخرجُ وسيذهبُ حيثُ الزُحام في السوق ..... حيثُ الآخرين ..... غيرَّ ملابسه وخرج
..... وفي محطة أنتظار الحافلات أنتظر لبعض الوقت حتى جاءت الحافلة .... قررَّ في لحظة ولم يصعد .....فأثار ذلك غضب وأستهجان سائق الحافلة وحقنهُ مسبةً وشتماً ...... لكنّهُ لم يأبه لذلك و أقفل راجعاً بكلِ حمولتهِ من الضيق والملل والقلق والكآبة الى شقتهِ ثانيةً
اتكأ ثانيةً على الأريكة .... وبقي يُفكر .... كيف سيقضي اذنْ يومهُ هذا ؟ .... ولكن ما الذي تبقى من يومهِ هذا غير بضع ساعات .... وغداً يومٌ أخر ....
من بينِ ضجيج أفكارهِ صرخَ الجوع فيهِ ..... إِنّهُ جائع ..... حسناً لديهِ ما تبقى من طعامٍ طبخه البارحة بنفسهِ ..... جهزّه للأكل .... تذوق منهُ قليلاً ..... لم يشعُر بشهية لتناولهِ على الأطلاق ...... ودون تردُد رمى بهِ الى سلة القُمامة
...... لكِنّهُ جائع رغم إِنعدام شهيتهِ ...... في جوفهِ ودواخلهِ فراغٌ واسع وكبير ...... قررّ أن يقوم بتحضير بيتزا منزلية بنفسهِ كسراً للملل وأستغلال الوقت في عملٍ مفيد ومُمتع ...... وبعد بعض الوقت كانت البيتزا جاهزة .... لكِنّهُ لم يأكل منها الا قطعة
صغيرة بحجم سُبابتهِ ..... لا شهية لديهِ ..... تركها كما هي ..... إِنّها غير لذيذة ..... أعدّ الشاي .... لكِنّهُ لم يشربه ..... لا شهية لديهِ ..... إِلا إِنّهُ في دواخلهِ جائع .... جائع جداً ..... يشعُرُ بجوعٍ كبير .... جوعهُ الكبير هذا ساقهُ لأعداد طعامٍ أخر مُختلف ولذيذ .... وحين أصبحَ جاهزاً ..... لم يستطعْ تذوقهُ .... شهيتهُ خانتهُ وخذلتهُ مُجدداً .... قررّ أن يبقى جائعاً طالما أنّه ليس قادراً على الأكل ..... فكرّ أن يزور جارهُ .... إِنّها فكرة جيدة ..... لم يستغرق الأمر ربع ساعة وعاد مُسرعاً لشقتهِ .... لم يكن يتحمل الجلوس ..... كما يكن يتحمل الوقوف .... لم
يكن يتحمل الحديث .... كما لم يكن يتحمل الصمت
..... لم يتحمل جاره ..... كما إن جارهُ لم يتحملهُ ...
ماذا يجري لهُ ؟ إِنّهُ لايتحمل حتى أنفاسه .... إِنّهُ متضايق جداً .... يشعرُ بمللٍ كبير وعميق ...... أقفلَ
باب شقتهِ عليهِ ..... أغلق كل نوافذها ..... وأطفأ كل مصابيحها وكذلك التلفاز ..... أقفلَ هاتفهُ فهو
لا يريدُ أن يسمع رنينهُ ..... واتكأ على الاريكة غارقاً في ذلك الظلام وحتى يجعلهُ ظلاماً دامِساً أسدلَ الستائر ثُنائياً وأخذتهُ الحيرة مع القلق مع الملل مع اليأس مع الكآبة ..... ماذا سيفعل ؟ ......
كيف سيقضي أيامهُ القادمة أن كان قد فشِلَ في قضاء يومٍ واحد ؟ .....كيف سيقضي حياتهُ هنا أن كان قد فشل في قضاء سويعات والتغلب على مللها
.......ملّ حياتهُ اليومية المُكررة ..... عمل في عمل في عمل .... وكأنّهُ ثورٌ مشدودٌ الى رُحى الساقية ...
يدور حولها ويدور .... ويدور .... بلا أمل .... ...
بلا هدف ..... بلا نهاية ...... بلا جديد يحدث ......
الأيامُ مكررةٌ وبلهاء ..... بلهاء لحدّ الجنون ....وهو
يُدرِك جيداً أنّ الجوع الذي يشعرُ بهِ ليس جوعاً للطعام ..... بل جوعاً للحياة .... فكرّ رُبّما أنّهُ بحاجة لبعضِ الهواء النقي في رئتيهِ لتنتعش روحهُ المُتعبة فيهِ ...... غادر شقتهُ ومشى في الشارع وحيداً مُحاولاً التغلب على ضيقهِ ومللهِ ووحدتهِ ....... ثُمّ وجدَ نفسهُ يجري بلا توقف وكأنَّ أحداً ما في إِثرهِ
...... حقاً لقد كانت الحيرة .... كما القلق والملل والضيق في إِثرِ خُطواتهِ ..... لا يدري كم من الوقت مرّ وهو يجري ..... أو يهرب ..... لكِنّهُ كان وقتاً طويلاً ..... حتى نال منهُ التعب أخيراً وخارت قواهُ
فعاد الى شقتهِ غارقاً في ظلامها .... وتحت غطائِهِ
صارَ يئنُ أنزعاجاً ومللاً .... داهمهُ النوم في كوابيس لا تنتهي ...... وأذْ أستفاق صباح اليوم التالي تأفف وهمس لنفسهِ : يا للملل..... يومٌ أخر
....... كم هذا مُقرف !!
بقلم شذى توما مرقوس
2003

مُلاحظة : ( ملل ) قصة قصيرة من ضمن مجموعتي القصصية الغير المنشورة ـــ حكايات جدّ صغيرة ..... كبيرة ــــ عن الغُربة .
Opinions