من الجاثليق شمعون برصباعي وحتى المطران بولس رحو تستمر قوافل شهداء كنيسة المشرق المقدسة
من خلال متابعة الأحداث على أرض العراق منذ الغزو الأمريكي سنة 2003 يبدو أن هناك حملة مبرمجة ضد الحضور المسيحي في بلاد ما بين النهرين. وقد تجلت هذه الحملة الشرسة التي يقودها زمر الجهل والغباوة من خلال تفجير الكنائس والأديار، وإكراه الناس على اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو ترك البيوت والمحلات بما تحتويه قسراً، ومغادرة البلاد إلى مصير مجهول. ناهيك عن خطف الأطفال والشبان والشيوخ والطلب من ذويهم دفع فدية باهظة مقابل إطلاق سراحهم، وإلا وجدوا جثثهم مرمية على قارعة الطريق وآثار العذاب ظاهرة عليها.
كل هذا يجري بحق مسيحيي العراق والعالم يقف متفرجاً على هذا المشهد الذي يندى له الجبين، وكأن من يُقتل في فلسطين دمه أثمن من دم مسيحيي العراق المسالمين. فمع كل خبر عن مقتل فلسطيني نسمع أصوات العرب والمسلمين تعلو من هنا وهناك تستنكر وتدعو للثأر. لكننا للأسف لا نسمع صوتهم عندما تشن حملة إبادة ضد مسيحيي العراق، حتى من الدول الغربية التي يُتهم بسببهم مسيحيو الشرق بأنهم صليبيون. وهذا يعني أنهم محسوبون عليهم لمجرد أنهم مسيحيون. علماً أن هذا التصور لا وجود له في قاموس الدول الغربية. والدليل على ذلك ما نراه من قرارات قبول اللاجئين في الدول الغربية حيث يقبل طالب الإقامة المسلم ويرفض طلب المسيحي. وعليه اكتظت دول الغرب بالجاليات الإسلامية، وأضحوا مواطنين يملكون كل الحقوق.
بينما مسيحيو بلاد ما بين النهرين، سكانها الحقيقيون وبناة حضارتها منذ البدايات وحتى اليوم، لا يملكون حق العيش الكريم على أرض آبائهم وأجدادهم وأصبحوا غرباء عنها، وأضحوا علة على دعاة الدولة الإسلامية في العراق، ووجب تصفيتهم لتبقى أرض الإسلام طاهرة نقية خالية من الأدناس.
لقد حول هؤلاء الأشرار أرض العراق الطاهرة، مهد الحضارات، إلى غابة مملوءة بالوحوش المفترسة، وأضحوا بجدارة، بديلاً لتلك الوحوش الحيوانية، وفاقوهم وحشيةً من خلال ما ارتكبوه من جرائم شنيعة ضد الأبرياء والعزل، مستعملين أبشع الأساليب في التعذيب والقتل.
وتعود بنا الذاكرة إلى بدايات القرن الماضي حيث أبادت السلطنة العثمانية وأعوانها أغلب سكانها المسيحيين، وأجبر المفلتون من سيف الظلم والجور إلى ترك كل ما يملكون، ومغادرة البلاد إلى حيث لا يدرون. كل هذا جرى أمام دول الغرب الذين لم يحركوا ساكناً، بل وقفوا متفرجين مستمتعين بهذا المشهد المشين.
واليوم ينضم إلى موكب الشهداء الحبر النبيل مار بولس فرج رحو رئيس أساقفة الموصل على الكلدان، بعد أن ذاق مرارة الأسر والعذاب فترة أسبوعين على أيدي طغمة الحقد الأعمى. نعم قاسى أشد المرارة، وقاوم بعنفوان وبطولة دعوة القتلى لاعتناق الإسلام حفاظاً على حياته. لكنه خيب آمالهم وصمد ببطولة وشجاعة، وحمل الصليب على منكبية مقتدياً بمعلمه يسوع الذي خلص العالم بصليبه المقدس. كيف لا وقد خطف بعد خروجه من الكنيسة مؤدياً رتبة درب الصليب مع أبنائه المعذبين، وهو يتأمل بآلام معلمه، ومتمعناً بما قاساه من عذابات وإهانات مشينة من قبل عديمي الإيمان والضمير.
أجل لقد اقتدى حبرنا الشهيد بمعلمه السماوي، وانضم إلى قوافل شهداء كنيسة المشرق، التي استحقت أن تدعى بكل فخر كنيسة الشهداء. ولا بد أنه في فترة أسره تذكر أنه ينتمي إلى هذه الكنيسة، وأنه مستعداً ليلحق بقافلة الشهداء بدءاً بالجاثليق شمعون برصباعي والشهيدة مسكنتا والشهيدة فبرونيا النصيبينية ومار قرداغ ومار بثيون والأنبا جبرائيل دنبو والمطران أدي شير والمطران يعقوب أوراهام ومار توما أودو وغيرهم كثيرين، وأخيراً ابنه الروحي الأب الشهيد رغيد كني.
وسوف تبقى صدى كلماته حية في قلوبنا ونفوسنا، في يوم افتتاح كنيسة مار بولس بمدينة الموصل قبل عدة أسابيع، بعد أن رممت إثر تعرضها لانفجار غاشم من قبل الإرهابيين التكفيريين. مشدداً على تعاليم المخلص، داعياً للسلام والمصالحة، نابذاُ القتل والانتقام. طالباً من أبنائه الصفح عن المسيئين اقتداءً بمن غفر للذين صلبوه، داعياً للصلاة من أجل الذين يضطهدونهم، مشدداً على العيش في أرض الآباء والأجداد رغم كل الصعوبات. ودعاهم ليكونوا نوراً في ظلمة هذه المحنة العاتية، مؤكداً على نداء يسوع لتلاميذه: " وتكونوا لي شهوداً ". مذكراً أن لا خوف من الذين يقتلوا الجسد، ولا يستطيعوا أن يقتلوا الروح. لأن الذي يقتلكم يعتقد أنه يؤدي عبادة لله، لا تخافوا وثقوا بأنني غلبة العالم.
لقد خاب ظن المجرمين عبر العصور، لأنهم فكروا بأن قتلهم لهؤلاء الأبرياء سوف يقتلع مسيحيي المشرق من جذورهم، متناسين أن دماء الشهداء هي بذور صالحة لثبات إيماننا بمن خلصنا بدمه الثمين. وأن هذه البذور سوف تنبت لنا ثمار يانعة مملؤة بالإيمان والرجاء والمحبة. وأن دماء الشهداء سوف تزيدنا إصراراً على البقاء في هذه الأرض التي ارتوت بدماء شهدائنا الثمينة. ولنا الثقة بأننا سوف نغلب الشر بالخير، كما غلب معلمنا يسوع العالم بصليبه المقدس.
اليوم تفرح السماء وتتهلل باستقبال هذا الحبر الجليل، الذي أرهق دمه جزاء إيمانه بيسوع المخلص. وكنيسته الكلدانية المقدسة تفتخر بأنها لا زالت كنيسة الشهداء، وستبقى كذلك إلى منتهى الدهر.
تحية إجلال وإكبار إلى روح مطراننا الشهيد مار بولس فرج رحو، الذي حمل صليبه بثقة وثبات، وكنيسته تستعد للاحتفال بأسبوع آلام فادينا ومخلصنا يسوع. طالبين من روحه الطاهرة التي تتنعم بالمجد السماوي أن تتشفع لنا عند القائم من بين الأموات، لتقوم هذه الكنيسة الشهيدة والمتألمة والمعذبة معه في يوم قيامته المجيدة، وتبقى شاهدة للمسيح أمين. المسيح قام حقاً قام هللويا.