من المسؤول عن التوغل التركي في العراق؟
لا شك أن مقولة "السياسة فن الممكن" صارت من البديهيات في عصرنا الراهن. والسياسي العاقل الحقيقي هو الذي يدقق حسابات الربح والخسارة في أية عملية يقوم بها وفق هذه البديهية. أما المغامرات الطائشة التي تقوم بها بعض العصابات هنا وهناك فهي مجرد عصابات تبنت قضايا عادلة لتناضل في سبيلها بطرق خاطئة وديماغوجية، وبذلك تشوه صورة وسمعة هذه القضية العادلة وتجلب الكوارث على نفسها وعلى الشعب الذي تدعي الدفاع عنه. هذا ما تقوم به منظمة "حماس" في غزة التي جلبت الكوارث على الشعب الفلسطيني، وكذلك ما يقوم به حزب العمال الكردستاني في تركيا.كتبت قبل أشهر مقال عن سلوك هذا الحزب واستغلاله الفوضى في العراق وانشغال الحكومة العراقية في مواجهة الإرهاب البعيثي-القاعدي، وتعاطف الشعب الكردي في العراق مع قضية أشقائه أكراد تركيا العادلة، فاستغلوا الوضع واتخذوا من المناطق الحدودية العراقية-التركية قاعدة انطلاق لهم ضد تركيا، حيث تطرقنا إلى هذا الموضوع في ذلك المقال بعنوان (عبثية الكفاح المسلح) والذي وصفته بأنه وجه من وجوه اليسار الطفولي والذي أثبت التاريخ فشله في معظم العهود. ولكن مع ذلك، انبرى عدد من الزملاء الكتاب، وبالتأكيد بنوايا طيبة، يدافعون عن حزب العمال الكردستاني، واعتبروا مقالي ذلك معادياً لحقوق الأكراد في تركيا. ولكن ويا للمفارقة، أن معظم رسائل التأييد التي وصلتني كانت من أصدقائي الأكراد الذين شاركوني هواجسي في مغبة سياسات هذا الحزب وما يمكن أن يجلبه من كوارث ليس على أكراد تركيا فحسب، بل وعلى أكراد العراق، وتعريض جميع ما حققوه من مكاسب وإنجازات طيلة عقود من النضال المرير للشعب الكردي في العراق للخطر. وهذه العملية تتكرر هذه الأيام عندما رفض قادة حزب العمال الكردستاني الإصغاء إلى صوت العقل في التوقف عن مواصلة كفاحها المسلح من الأراضي العراقية ضد تركيا، مما دفع القوات التركية إلى معاودة حملتها، وفي هذه المرة بالقوات البرية إضافة إلى القصف الجوي للمناطق الحدودية. فمن المسؤول عن هذا التوغل والتجاوز على سيادة الدولة العراقية، وتعريض أكراد العراق إلى الخطر؟
بعيداً عن العواطف، وفيما إذا كان حزب العمال الكردستاني على حق أو خطأ، يبدو لي ومن قراءاتي لتصريحات المسؤولين من جميع الأطراف، الأمريكان والعراقيين، بمن فيهم قيادة حكومة إقليم كردستان العراقية، أنهم مرتاحون من الحملة التركية ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، ولن ألومهم على ذلك، وإن طالبوا تركيا بالتوقف عن أعمالها العسكرية. ولكن كما يبدو أن هذه المطالبات جاءت على استحياء، لأنهم في الحقيقة يريدون التخلص من مقاتلي حزب العمال الكردستاني بأي شكل كان. ففي هذه الحالة، وكأن لسان حال الحكومة التركية تقول للحكومة العراقية وحكومة الإقليم، إذا كنتم أنتم لا تستطيعون إيقاف مسلحي هذا الحزب من نشاطاته المسلحة ضدنا فلماذا لا تتركوننا نحن نتكفل بهذه المهمة؟
لقد صرح السيد جلال طالباني، رئيس جمهورية العراق، وهو كردي، مرارا وتكراراً أنهم يسمحون لمنتسبي حزب العمال الكردستاني بالبقاء في كردستان العراق مقابل سيادة الدولة العراقية وتسليم أسلحتهم وعدم القيام بأي نشاط ضد تركيا. كما وهناك اتفاقية بين الحكومتين، العراقية والتركية على محاربة الإرهاب والتعاون بين البلدين في حفظ أمنهما. إذ هناك اعتقاد راسخ في تركيا أن تحقيق الأمن والاستقرار في العراق ضروري لأمن واستقرار دول الجوار، كما وأكدت حكومة إقليم كردستان العراق أن قوة الإقليم من قوة العراق، وأن ضعف العراق سيعرض جميع مناطق العراق بما فيها كردستان إلى الخطر. هذه هي الحقائق التي لا ينكرها إلا جاهل أو مغرض.
لقد أكدنا مع غيرنا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما كتبه الصديق عزيز الحاج، وهو كردي، وقيادي سياسي سابق، يمتلك خبرة عملية ونظرية واسعة في هذا المجال، أكد في مقالات عديدة له بهذا الخصوص، عدم جدوى الكفاح المسلح، خاصة في ظروفنا الراهنة حيث يمكن تحقيق الحقوق القومية بالوسائل السلمية.
كما وهناك تحول إيجابي في الموقف الأمريكي من هذا الصراع لصالح حقوق أكراد تركيا، إذ كما نقلت وكالات الأنباء تصريحات روبرت غيتس، وزير الدفاع الأمريكي، ودعواته لتركيا إلى إنهاء التوغل العسكري التركي لشمالي العراق في اقرب وقت ممكن، وتأكيده على أن العمل العسكري لن يحل مشاكل تركيا مع حزب العمال الكردستاني. وهو لا يعني بذلك إجراء تفاوض مع حزب العمال الكردستاني، لأن هذا الحزب في نظر أمريكا ودول الإتحاد الأوربي وتركيا، هو تنظيم إرهابي لا يمكن التفاوض معه، بل حث انقره على بذل جهود لحل مشكلات الأقلية الكردية في تركيا للحد من تأييد حزب العمال في أوساط هذه الأقلية، حيث أشار إلى انه من خلال خبرة الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، فإن مثل هذه الجهود تكمل ما بدأه العمل العسكري.
وهذا يعني أن روبرت غيتس لا يدعو الحكومة التركية إلى المصالحة مع حزب العمال الكردستاني، ففي العراق مثلاً، شجعت أمريكا المصالحة الوطنية، وما نتج عنها من الصحوة في المناطق الساخنة وانحياز العشائر العربية التي كانت موالية للقاعدة، فانقلبت عليها وانضمت إلى القوات الحكومية وقوات التحالف لضرب عصابات القاعدة. فأمريكا لم تتفاوض مع القاعدة في العراق، بل عملت على كسب المتعاطفين مع القاعدة وسحب دعمهم لها، حيث انقلبوا من دعم للقاعدة إلى محاربتها. كذلك في حالية تركيا، فيمكن للحكومة التركية منح حقوق أكراد تركيا كاملة، وبذلك يمكن سحب تأييدهم لحزب العمال الكردستاني.
والجدير بالذكر أن تركيا تواجه ضغوطاً من الاتحاد الأوربي الذي تسعى للانضمام إليه، وأحد أهم شروط الانضمام هو أن تحترم تركيا حقوق الأقلية الكردية وحقوق الإنسان في تركيا. وعليه فهناك مجال واسع وأمل كبير بأن يسود صوت العقل في هذه العملية، فتقوم الحكومة التركية بمنح حقوق أكراد تركيا كاملة. وفي جميع الأحوال، فلا أعتقد أن تركيا ستقبل بالتفاوض مع حزب العمال الكردستاني في الوقت الذي يمكن فيه حل هذه المشكلة مع نواب أكراد تركيا في البرلمان التركي وبالوسائل السلمية. وبذلك يمكن إنهاء هذه الحركة المسلحة التي جلبت الكوارث على نفسها وعلى تركيا وعلى العراق.
مرة أخرى نقول، وبعيداً عن العواطف والغوغائية والشعبوية الرخيصة، على العقلاء توجيه النصح لقيادة حزب العمال الكردستاني بالتخلي عن الكفاح المسلح الذي أثبت عدم جدواه، ومطالبتها بتبني الوسائل السلمية في تحقيق الحقوق. كما وعلى هذه القيادة احترام الضيافة العراقية وعدم تعريض الشعب العراقي وخاصة شعب كردستان العراق إلى الخطر.
25/2/2008