Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

من بشير الى بيار .. حكاية وطن موجوع

وجع مؤلم جداً لكنه غير قاتل مهما فاضت دماء الشهادة على ضفاف بحرك وسبحت فيها كل الأمهات وتدفقت شلالاتها من جبالك الشامخة وسالت أنهرها في وديانك وسهولك ...
لا .. ما أكتبه "مش حكي عواطف"، ما أكتبه هو نابع من الحقيقة التي أوصانا بها بشير الجميل عم الشهيد الجديد (ولنا في كل يوم مجدٌ جديدٌ بالشهادة) "لازم نقول الحقيقة مهما كانت صعبة"، فيوم رفض بشير العمليات العسكرية الفلسطينة في لبنان رفضها بصوت عالٍ ويوم عارض الإحتلال السوري للبنان عارضه بصوت عالٍ ويوم استوعب دور إسرائيل في أن تقضي على الوجود الفلسطيني المسلح القاتل والمدمر للبنان دون أن يخشى اللوم ولا العداء، إستوعبه بصوت عالٍ وكان صوته يصدح عن أصوات كثيرة لجبهات عديدة كانت معارضة له في العلن، وضمنياً مؤيدة لهذا الحل لكنها لم تكن تجرؤ يومها على إعلانها ذلك.
إن كل ما نادى به بشير الجميل فيما مضى، بالرغم من كل الأخطاء التي أُقترِفت، نادى به كل الذين اغتيلوا من بعده من مسيحيين وغير مسيحيين فكل من اغتيل كان بشكل أو بآخر، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مؤيداً لما طالبَ به بشير سابقاً والذي يُختصر بتحرير لبنان من أي وجود عسكري غريب على أرضه وبفرض رموز سلطة الدولة على مداخله وحدوده.
حتى كمال جنبلاط الذي اغتيل قبل بشير كان معارضاً لدخول الجيش السوري الى لبنان بالرغم من تأييده "للجهاد الفلسطيني المسلح" ولمواجهة إسرائيل من لبنان. أُزيحَ جنبلاط لأنه أدرك أن أطماع النظام السوري لن تحدها حدودٌ وان سرطان أجهزتها الإستخباراتية أخبث مما كان يتصوره البعض آنذاك ولن يوقِفَ إنتشاره في جسد لبنان أي علاج.
كل الذين اغتيلوا منذ إستشهاد رفيق الحريري الى اليوم أرادوا تحقيق ما قاله بشير سابقاً "نحن ما بدنا مزرعة بدنا وطن"، فكان ايمانهم كبيراً بالوطن وأحلامهم أوسع من حدود مساحته الصغيرة والكبيرة جداً بدوره وبوجوده كمرتع ٍ للمسيحيين في كل المنطقة العربية.
في الواقع أن كل اللبنانيين على إختلاف إنتماءاتهم السياسية والدينية قد دفعوا ثمن حروب الغرباء على أرضهم. حتى الفئات التي عارضت "الجبهة اللبنانية" المسيحية في الماضي وحملت السلاح في مواجهة عسكرية ضدها وضد مطالبتها بسيادة لبنان وإستقلاله هي اليوم مع تلك المطالب التي لم تتغير ولم تتقنَّع على مر السنوات بالرغم من كل الضغوطات والمغريات.
لهذا أقول أن من راهن على إنقسام المسيحيين في لبنان وخاصة الموارنة قد فشل إذ بالرغم من إنشقاق الزعماء الموارنة اليوم لجبهتين متضادتين فقد فازت الجبهة الوطنية المنادية بحرية لبنان بأصوات جهات عديدة كانت عدوة لها في الماضي، والجبهة المسيحية الوطنية غير الموالية لأي نظام غريب أصبحت جبهة لبنانية شاملة تضم كل المؤمنين بلبنان الوطن وبعمق جذوره وتاريخه الذي لا نستطيع الا أن ننحني أمام صلابته بعذباته وأوجاعه وبانتمائه الى أسماء شهدائه الخالدين.
كان ولا يزال لبنان رمزاً للبقاء المسيحي في الشرق. كان ولا يزال الموارنة وبقية الطوائف المسيحية يمثلون تحديات ذلك الوجود بعد أن عُلقت كل الآمال على بقائهم وصمودهم أمام مراهنات البعض على انكسار"شوكتهم" وتخويفهم وترحيلهم وانقراضهم في لبنان.

يوم اغتيال بشير الجميل إنحدرت أحلام المسيحيين الى الحضيض وغاص الموارنة في بحر من التشتت لكنهم لم ييأسوا. تقاذفت الأمواج مراكبهم وراهن الكثيرون على فشل خلاصها لكن اعتياد مسيحيي الشرق ومنهم الموارنة بالتمسك "بالقشة" قد أنقذ موارنة لبنان من الطوفان وقد تنقذهم تلك القشة-الإرادة اليوم من الغرق في بحر الأحزان والإنجراف في تيار الحقد بعد الإصطياد الجبان الذي طال بيار الجميل أحد رموزهم القيادية في عمق منطقته مثلما أغتيل عمه بشير في عقر داره.
كل عمليات الإجرام نُفِذت في مناطق الشهداء أنفسهم عن قصد وتحدياً لعنادهم، والجريمة التي قتلت رفيق الحريري نُفِذت في المدينة-الحلم "بيروت" التي طالما عشق جمالها وآمن بدورها الرائد فمات على صدرها لتضمه بأحضانها.
تراكمت رسائل الموت على صفحات أيامنا بحجم خيبات وأحقاد المخططين والمنفذين لتلك الجرائم. هم لم يروا بعد أنه مع كل سقوط ضحية ولادة جديدة وصرخة وعد جديد للبنان أكبر من المستحيل، أطول من قصر نظرهم وأعمق من كل جرح يفتحونه في خاصرتنا من جديد.
إن عداءهم لسيادة لبنان على حدوده ال 10452 كلم سيواجه مع كل طلقة مصوبة الى صدرنا بإنضمام أصوات جديدة لأصوات الحق والحقيقة التي نصرخها دون خوف ومهما كان الثمن غالياً. إن عملية تفريغ لبنان من المنادين بحريته تخطيطٌ فاشل لأن شعار جبران التوني لم يرحل معه بل كُرِّس باستشهاده .. فليصمت من يُبشر بحرب أهلية جديدة وليحل مشاكله في داره وليرحل "من عنا" من لا يعجبه العيش تحت مظلة الحرية وليبحث عن وطن آخر غير لبنان الذي لا يصلح أن يكون "تبعية" فنسيجه وتكوينه يختلفان عن كل جيرانه و"أصدقائه" القريبين والبعيدين.
هنا تخطر على بالي مقولة لبنانية "من يحشر نفسه بين المرأة وزوجها كالذي يدخل بين البصلة وقشرتها" .. فنصيحة مجانية للذين لا زالوا يسعون الى الشقاق بين الأخوة، أن يرموا مخططاتهم في سلة المهملات وليكرسوا "ذكاءهم" لحل مشاكلهم الداخلية وصراعاتهم الإقليمية والدولية لأن الآتي إليهم أعظم مما يتصورونه سهلاً...
إن من آمن بلبنان لم يمت .. من آمن "بالله وبالوطن وبالعائلة لم يمت أيضاً.. ومن آمن بأن "المجتمع المسيحي هو فوق كل إعتبار" في الأيام الصعبة وفي المواجهات القاتلة لوجودهم كمسيحيين وكأحرار في تقرير مصير وطنهم، لا يمكن أن يموت فلا بد لعدالة السماء أن تصدر أحكامها على الباطل وأن تنصر الحق.

من هذا المنبر أنحني لوجعك يا وطني ولا يجوز إنحنائي الا لدموعك .. اني قد تألمتُ لتمزيق جسدك أيام القصف والحروب الشرسة التي ضربت كل أراضيك دون أي استثناء .. وأتألم في كل يوم مع كل جريمة تهز كيانك وتطعنك بالغدر.
يومَ هَجَرتُكَ (عام 1990) في آخر مطاف حربٍ فُرِضت على شعبكَ لتكون "أهلية" أيقنتُ ان ضعفي قد فاق تمسكي بالبقاء ولكني هاجرتُ وأنا مؤمنة بك وببقائك أنتَ وبصمود كل الذين لم يرحلوا كي "يكملوا المسيرة" .. اني أعترفُ لكَ بأني يومها شعرتُ بالخجل بسبب ضعفي ولكني أقنعتُ نفسي بمشيئة الرحيل قبل الإنهيار .. فعسى إعترافي هذا ووجودي في الغربة اليوم يعطيني بعض الحق في أن أنادي وأن أكتب بإسمك التي ترتجف لمجرد همسه الدول الصغرى والكبرى، تارةً لجمالكَ ولسعة صدركَ الرحوم وتارةً أخرى لوجعكَ وللنار التي تحرق أحلامك وترمدها لتحقيق ولتسطير ملاحم خلودك على درب الشهادة والقيامة.
من بشير الى بيار .. خضت يا وطني أبشع المعارك وعاش شعبكَ مسلسلاً من فواجع مكتوبة بحبر أحمر ومختومة بأسماء شهداء أحياء وأموات.
من بشير الى بيار .. نَقَشَت أحداثُ تلك الفواجع حكايةَ وطن ٍ ستبقى عبر كل العصور في ذاكرة المجتمع اللبناني في الداخل وفي مغترباتنا.
"حكاية وطن" نُرويها لأطفالنا في كل مساء ونكررها كل يوم "كالمسحبة" ونرسم إشارة الصليب "بالثلاثة وبالخمسة" مؤمنين كنا أو ملحدين ونردد باسم الآب والإبن والروح القدس مصرين على ما تعلمناه في الصغر وفاءً منا لإنتماء مكمِّلٍ لوجودك ولهويتنا مهما بعدنا وتغربنا.
من هذا المنبر .. أيضاً أقول "ما تخاف يا بيار"، إن أباك وأمك وعائلتك الصغيرة والكبيرة المنتشرة في أرجاء لبنان وخارجه يفخرون بك وبشجاعتك في قول الحقيقة "مهما كانت صعبة" حتى الموت.



ليلى كوركيس
مونترال – كندا
22 تشرين الثاني 2006
Opinions