من هو يسوع المسيح جزء 6
تابع ميلاد المجد" وفي تلك الايام ، صدر أمر عن القيصر أوغسطس بإحصاء جميع أهل المعمور. وجرى هذا الاحصاء الاول أذ كان قيرينيوس حاكم سورية . فذهب جميع الناس ليكتتب كل واحد في مدينته . وصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى مدينة داود التي يقال لها بيت لحم ، فقد كان من بيت داود وعشيرته ، ليكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملا . وبينا هما فيها حان وقت ولادتها ، فولدتِ ابنها البكر، فقمطته وأضجعته في مذود لأنه لم يكن لهما موضع في المضافة. وكان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البرية ، يتناوبون السهر في الليل على رعيتهم . فحضرهم ملاك الرب وأشرق مجد الرب حولهم ، فخافوا خوفا شديدا . فقال لهم الملاك : لاتخافوا ، ها إني أُبشركم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كله : ولد لكم اليوم مخلص في مدينة داود ، وهو المسيح الرب . وإليكم هذه العلامة : وستجدون طفلا مقمطا مضجعا في مذود . ... وجاؤوا مسرعين ، فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعا في المذود . ولما رأوا ذلك جعلوا يخبرون بما قيل لهم في ذلك الطفل . "
(لوقا 2: 1-17 )
أوغسطس قيصر كان أول امبراطور روماني ، اسمه الاصلي غايس أوكتافيوس ، وكان ابن أخت يوليوس قيصر . و " أوغسطس" كلمة لاتينية تعني " الجليل والمهاب والرفيع القدر" ،
وتقابلها في اليونانية سباسطس ( اعمال 25: 21 ) . مجلس شيوخ الدولة اخترعوا لقيصر اسم أوغسطس ، وكانت تفيد وضعا دينيا قريبا من التأليه ، وكان يعني الحاكم الاعلى للامبراطورية الرومانية ، وصار اول امبراطور . وكلمة إمبراطور أصلا لقب حربي ، فكل جنرالات روما كان لهم هذا اللقب ، ثم الغيت من الجنرالات جميعا واحتكرها قيصر . وبرزت الامبراطرية الرومانية بدلا من الجمهورية الرومانية تحت قيادة أوغسطس قيصر سنة 30 ق.م. وفي عهده توقفت جميع الحروب وأخضعت الدول جميعا لسلطان روما وتم ضبطها ليسود السلام على العالم أجمع ، وُلد المسيح .
إذ بهذا الامر الامبراطوري تسجل يوسف ومعه مريم في سجلات العالم المدني باعتبارهما أبوي يسوع رسميا وبموافقة السماء . سخر الله الحوادث وأخضع تأريخ العالم ليسجل ميلاد المسيح في سجلات أعظم دولة !! إذ اصبح العالم يؤرخ منذ ذلك اليوم لميلاد المسيح :" بعد الميلاد " .
فكما سبق وبينت في الجزء الخامس إنه تأكد للمؤرخين المشتغلين بقصة ميلاد المسيح أنه وُلد في ايام حكم هيرودس الكبير ( متى 2: 1 ) . فإن كان موت هيرودس قد تسجل سنة 4 ق.م ، وكان قيرينيوس قد تولى الحكم على سورية مرتين ، الاولى منها كانت سنة 6-4 ق.م . فبهذا استطاع الانجيلي لوقا أن يحصر تأريخ ميلاد المسيح بدقة الى أقرب سنة بين 6-4 ق.م . وقد أُضيف من الابحاث والبراهين التي تمت بواسطة علماء الفلك الكبار مثل كبلر وزملائه ، أن ظهور النجم العظيم في السماء بملاحظة علماء الفلك الكلدانيين الذين دُعوا بالمجوس ، أمكن رصد تحركاته الثابتة ، والتأكيد من ظهوره في نفس هذا التأريخ أي من 6-4 ق. م .
يقول الشهيد يوستين (150 م ) إن يوسف ومعه القديسة مريم لما بلغا بيت لحم لم يكن لهما فيهما
احد ، إذ كانا قد استوطنا الناصرة منذ زمن بعيد . فاتجها الى الخان ولكن لم يجدا مكانا ، فالتجآ الى المغارة المخصصة للحيوانات وباتا فيها . وهناك ولدت ابنها البكر وقمطته وأضطجعته في المذود .
ويقول العلامة فارر إنه كانت هذه المغارة مزارا باعتبارها مكان ميلاد المسيح . وقد شيدت الملكة هيلانه كنيسة فوق هذا المكان المقدس سنة 330 م . وبعدها قام الامبراطور جوستيان الاول
( 483- 563 م ) وبنى كتدرائية كبرى على هذا المكان ، ويقال ان الكنيسة الحالية هي بقاياها وأُعيد ترميمها .
ليس من السهل على البشر ان يفهم ميلاد المسيح في مذود للبهائم !! ما هذا أيتها السماء ؟ أهكذا لم يكن بين البشر في الدنيا قاطبة مكان يستقبل جسد المسيح الغض إلا مذود للبهائم !! نعم ، حتى يتأهل الجسد منذ اللحظة الاولى لدخوله العالم ، لكي يسند ظهره في النهاية على خشبة الصليب كآخر مكان . ليس من فراغ يقول المسيح :" ثقوا أنا قد غلبت العالم " ( يوحنا 16: 33 ) ولا كان تجاوزا منه لما قال :" أنا لست من العالم " ( يوحنا 17: 16 ) .
فليفرح كل فقراء العالم ، فلهم نصير وصديق في السماء عاش ومات فقيرا مثلهم ، ليعد ملكوته للذين غلبوا العالم ( 1يوحنا 5: 4 ) .
يبين الانجيل المقدس ان اول بشرى تلقاها رعاة ساهرون . يقول العلامة إدرزهايم اليهودي المتنصر الذي كتب حياة المسيح بالتفصيل إنهم فئة من الرعاة مختارين بشروط خاصة من جهة الطهارة والتطهير ، يحرسون قطعان الغنم المخصصة للذبائح الهيكلية . وهناك نبوة على المسيح منصبة على مجيئه من قِبَل بنت صهيون تعبيرا عن ميلاد المسيح من العذراء وهذه النبوة قالها ميخا النبي 4: 8 :" وأنت يا برج القطيع يا عوفل بنت صهيون إليك يأتي ويعود السلطان الاول ، ملك بنت أورشليم ." ( عوفَلَ هي حي القصر الملكي – اشعيا 32:14 و 2 أخبار 27: 3 - ) .
ولكن لايمكن ان يفوت على القاريء الملهم ، العلاقة السرية ذات المغزى والمعنى ، أن اول بشارة بميلاد " حمل " الله الذي يرفع خطيئة العالم " ( يوحنا1: 29 ) يفوز بها رعاة ذبائح الهيكل من الحملان ! بل ويولد " حمل " الله في مذود ؟ إنها تحسب صرخة من الوحي المقدس في أُذاننا ، بل ولا يخلو هذا الحبك الإلهي في الرواية ذات الأسرار ، لماذا " للرعاة " يستعلن " الحمل " ؟
ولا تفوتنا الاشارة ان الكنيسة أسمت كهنتها بـ " الرعاة " ، وكأنهم المؤتمنون على سر الحمل يقدمونه كل يوم على المذبح ليشبعوا الرعية !
قال الملاك للرعاة :" أُبشركم بفرح عظيم " ( لوقا 2: 10 ). أليس هذا هو الانجيل أي البشارة المفرحة ؟ أول من فسره ملاك ، واول من سمعته آذان رعاة ! واللغز هنا بديع ، فالبشارة للرعاة ، والفرح للشعب ، وما على الرعاة إلا البلاغ .
لقد دخل الرعاة شهود سماع ورؤيا وتحقيق لميلاد المسيح ، فكانوا علامة تأريخية محققة في رواية الانجيلي لوقا . وبذلك أدخلوا ضمنا قصة الميلاد الى شهادة تأيخية وجغرافية وسماوية معا لها وزنها .
ولكن نقطة التركيز في هذه الآية أن البشارة بالميلاد " فرح عظيم " ، وكم مرة عيدنا للبشارة ولم
نفرح ؟ بل وكم مرة قرأنا وسمعنا البشارة لم نفرح ؟ أن في هذا إشارة الى عطل في السمع والفكر في تقبلنا لاعمال الله وأسراره ، لنا آذان لا تسمع !
وهكذا صار الرعاة أول الشهود . ولكن كان الملاك باديء كل ذي بدء عاطفا أشد العطف على تلك العذراء الوالدة ، فأراد أن يفرح قلبها بأعظم شهادة تجيئها في منتصف الليل من فم الرعاة ، كما
رأوا في السماء وسمعوا أن الذي في حجرها تسبحة الملائكة ، وهو حقا المسيا والمخلص .
أما فرحة الرعاة بالحمل المولود ، فلأنه سيعفيهم من رعي الغنم لحساب الهيكل ومن سهر الليالي في شتاء بيت لحم القارس ، فقد قدم نفسه عوضا عن جميع خرافهم مرة واحدة لخلاص العالم كله.
ينضم الى الملائكة جمهور من الجند السماوي مسبحين الله :" المجد لله في الاعالي ، وعلى الارض السلام ، وبالناس المسرة ". ثلاث تسبيحات بحسب اللاهوت : إعلان واستعلان إلهي معا . أما الاعلان فبيد ملاك هو " ملاك الرب " الخاص حاملا إعلانا من الله للرعاة ، وأما الاستعلان فهو استعلان الله نفسه الذي سبق وعبر عنه الانجيلي لوقا بأن " مجد الرب أضاء حولهم " . بهذا نفهم
الفرق بين الملاك وجمهور الجند ، فالملاك مرسل من الله ، أما جمهور الجند السمائي فهم خدام العرش المحيطون بالرب يظهرون لحظة استعلان أو ظهوره ، وهنا استعلان في السماء وظهور على
الارض !
يتبع جزء 7