من هو يسوع المسيح / الجزء الخامس
العهد الجديدتناولت في الاجزاء السابقة ( 1- 4 ) النبوات الواردة في العهد القديم عن يسوع المسيح ومطابقتها في العهد الجديد بشخص يسوع المسيح بشكل موجز . وفي هذا الجزء وما بعده سأتناول بالتفصيل عن حياة يسوع المسيح ، ميلاده ومعجزاته وصلبه وقيامته ولاهوته...الخ ، ويبتديء العهد الجديد في اللحظة التي رفع فيها المسيح الكأس للفصح وقال لتلاميذه :" وبينما هم يأكلون أخذ يسوع خبزا وبارك ثم كسره وناوله تلاميذه وقال : خذوا فكلوا ، هذا هو جسدي . ثم أخذ كأسا وشكر وناولهم إياها قائلا :اشربوا منها كلكم فهذا هو دمي ، دم العهد يراق من أجل جماعة الناس لغفران الخطايا" ( متى 26: 26-28 ) .
في هذه اللحظة توقف العهد القديم الذي كان بواسطة سفك دم الذبائح الحيوانية كما وصفها سفر العبرانيين :" وعلى ذلك فإن العهد الاول لم يبرم بغير دم ، فإن موسى ، بعدما تلا على مسامع الشعب جميع الوصايا كما هي في الشريعة ، أخذ دم العجول والتيوس ، مع ماء وصوف قرمزي وزوفى ، ورشه على السفر عينه وعلى الشعب كله وقال : هوذا دم العهد الذي عهد الله فيه إليكم " ( عبرانيين 9: 18-20 ) .
وواضح أشد الوضوح أنه بسفك دم المسيح توقف العهد القديم بدم ذبائح حيوانية وبدأ العهد الجديد بدم ذبيحة المسيح .
ميلاد المجد
ليس أحد من المؤرخين عند ذكر نسب أحد البشر قد ارتقى في ذلك النسب صاعدا بمقدار ما ارتقى الانجيليون عندما حرروا نسب السيد المسيح . فالميلاد بالنسبة للسيد المسيح جاء في إنجيلي متى ولوقا كحدث سمائي ، ينهي تسلسل المواليد التأريخي عن أدم وحواء ، لينطلق بميلاد الانسان الجديد
يسوع من الله رأسا وبواسطة عذراء قديسة حملت به بالروح القدس ، ودعي ابن الله عن حق وأصالة ليصير للبشرية أدم الثاني من السماء فكان بكر الخلقية الجديدة أبا للبشرية ومتبنيها لله ابيــه . فالانجيلي متى بدأ من ابراهيم وحتى وصل الى يسوع المسيح ، وأما الانجيلي لوقا بدأ من يسوع المسيح حتى بلغ الى الله .
فلذلك عند تلاوتك هذا النسب يظهر لك انك تشاهد سلم يعقوب ابي الاباء . فإن سلم يعقوب كانت ملائكة الله يصعدون عليها حتى السماء وينزلون حتى الارض وكذلك فإن أجداد السيد المسيح يصعدون بها حتى يبلغون الى الله وينزلون بها حتى يصلوا على يسوع المسيح نفسه الذي تأنس على الارض .
وعند التدقيق في الفصلين الاولين من انجيل متى نكتشف بأنه رسم وجه يسوع انطلاقا من وجه موسى . فقد رأى يوسف حلما ، مثل عمرام والد موسى ، يبشره بولادة الطفل ، وكما أن فرعون الذي انتابه القلق بعد رؤيته حلما يخبره هو أيضا بهذه الولادة ، جمع مستشاريه ... كذلك يضطرب هيرودس ويجمع أورشليم . وكما فعل فرعون بقتله الاطفال ليضمن إبادة ذلك الطفل ، كذلك أمر هيرودس بقتل اطفال بيت لحم . وعلى مثال موسى نجا يسوع من القتل واقتيد الى مصر ثم منها لكي يستكمل الخروج : " من مصر دعوت ابني ." ( متى 2: 15 )
هذه النبوة " من مصر دعوت ابني " قالها هوشع النبي متخذا من عودة إسرائيل من مصر مصدرا
للتعبير المسياني لدعوة المسيح الابن الوحيد من مصر ، كنقلة مسيانية تكشف وتنطبق على صورتها الاولى لإسرائيل في بداية ميلاده كشعب تغرب وهو صغير :" ما كان إسرائيل صبيا أحببته ومن مصر دعوت ابني " ( هوشع 11: 1 ) . هوشع هنا ليس مشغولا بالتأريخ القديم بل يتكلم عن مسيا القادم وتغربه في مصر اي نبوة عما هو آت ! معتبرا إسرائيل وخروجه من مصر مثالا لخروج الابن الوحيد من مصر . فهوشع طرح مقولته لتجمع تأريخ اسرائيل كله قديمه وجديده .
ومن الجدير بالذكر هروب بني يعقوب ومن قبلهم إبراهيم من كنعان الى مصر إثر المجاعة الشديدة ،
وهرب موسى خوفا من بطش فرعون وتغربه في ارض مديان عند حميه الى أن جاء الصوت من الله ان يعود الى مصر لان الذين كانوا يطلبون نفسه قد ماتوا ، وهي نفس الجملة التي دونها الانجيلي متى عند اعطاء الاشارة بعودة العائلة المقدسة من مصر الى ارض إسرائيل بعد ما مات هيرودس .
والبشير متى أفرد في انجيله نسب يسوع المسيح :" نسب يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم "
(متى 1: 1)، باعتباره عنوان سجل تسلسل أنسابه وبداية ميلاده . وإذ يبدأ بإعطاء لقب " المسيح " ليسوع ليوضح ضمنيا أن جدول الانساب الذي جمعه يضمن إثبات أن المسيح هو : المسيا " ، وهو وريث مملكة داود ، تبرز وظيفة المسيح كملك ومخلص ، لأن الممسوح ممسوح ملكا لعمل الخلاص المزمع أن يكمله . أما تأكيد الانجيلي متى منذ البدء بأنه ابن ابراهيم فهو لتحديد أنه " النسل " الموعود الذي به تتبارك أمم الاض , وبهذا التعريف يكون بميلاد المسيح قد بدأ التأريخ المقدس حسب وعد الله لإبراهيم :" ويتبارك بنسلك جميع أمم الارض " ( تكوين 22: 18 ) .
وإذ يحدد اسم المسيح وعلاقته بداود وإبراهيم يقدم لنا صفته كما تحققت فيه جميع نبوات العهد القديم كملك ومخلص معا . وبعد سرده لجدول الانساب الذي ينتهي بمريم العذراء يبدأ يأخذ واقعه كمولود من الروح القدس ومريم العذراء ليستعلن أنه ابن الله .
فلسفة البشير متى في انتخاب أسماء السلسال الذي انحدر منه المسيح من ابراهيم وداود هم في جملتهم أربعين اسما ، جمعهم معا بأسلوب وفكر وتصميم ليشكل في الحقيقة تعبيرا لاهوتيا عن طبيعة الله نفسه وقد انهاها بالمسيح حيث بلغت طبيعة الانسان ، وتعانقت معها عناق الابد .
إذن ليست هي مجرد أسماء وسلسال منمق من الارقام ، ولكنها تصوير من بعد لما يحمله لاهوت الله من خطط إلهية أزلية تجليها السنين وتكشف عنها الأزمان ، أدركها الانجيلي متى بروحه وكشف سرها بروح الله .
من عادة الانجيلي متى أن يترك تحقيق بعض النقاط الحساسة ويكتفي ان يمر عليها فيكون هذا هو التحقيق عنده (2: 1و2 ) :" ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام الملك هيرودس ، إذ مجوس قدموا أورشليم من المشرق وقالوا : اين ملك اليهود الذي ولد ؟ فقد رأينا نجمه في المشرق، فجئنا لنسجد له ." فهو يذكر هنا امرين كبيرين في شأن ميلاد المسيح : الاول تعيين بيت لحم ، والثاني أن ميلاد المسيح تم في زمن حكم هيرودس الكبير . إذ يتبادر السؤال على ضوء ما جاء عند البشير لوقا : ما الذي أتى بالعذراء ويوسف الى بيت لحم ؟ والسؤال الثاني متى عاش ومتى مات هيرودس ؟
وهنا يتدخل العلماء بحذق ومهارة لتعيين زمان ميلاد الرب يسوع المسيح قبل وفاة هيرودس بقليل من الزمن ، إذ تحدد تأريخيا أنه مات بعد خسوف القمر الذي حدث قبل هذا الزمن بقليل ، والذي رصد أنه كان قبل نهاية شهر أذار أو في بداية نيسان سنة 4 ق م فيكون الميلاد سنة 4 ق م و ربما سنة 5 ق م .
رأى المجوس نجما في المشرق ، وهناك كذلك الشاهد الغريب العجيب الذي يدعى بلعام الذي تنبأ عن هذا النجم منذ من 1400 سنة ، ويقول الكتاب إن بلعام من بين النهرين من ارام بلد ابراهيم من جبل المشرق ، ويبدو انه ايضا من العرافين بالفلك والنجوم . بلعام ينطق بأهم نبوة قيلت عن المسيح وعن نجمه من أممي هكذا : " ثم أنشد قصيدته وقال :
كلام بلعام بن بعور
كلام الرجل الثاقب النظر
كلام من سمع أقوال الله
ومن عرف معرفة العلي
ومن يرى ما يريه القدير
ومن يقع فتنفتح عيناه .
أراه وليس في الحاضر
أبصر وليس من قريب .
يخرج كوكب من يعقوب .
ويقوم صولجان من إسرائيل . "
( عدد 24 : 15-17 )
إذن فما رآه المجوس وهم غالبا بلديات بلعام وزملاء مهنة ورؤيا وعلم فلك ومعرفة القدير ، هو تحقيق لما رآه بلعام منذ 1400 سنة !! وواضح أن الله هو العامل في هذا وفي هؤلاء !
كما ان البشير لوقا قد أجاد في انجيله حين جعلنا نكتشف للحال ، ومنذ البشارة ، بأننا إزاء طفل هو منذ الحبل به : " ابن العلي " ( لوقا1: 32 ) ، وسرعان ما تصبح أمه وقبل الولادة :" ام الرب "
( لوقا 1: 43 ) على لسان اليصابات ، ويبلغ الكشف أوجه عبر بشرى الملاك للرعاة بميلاد
يسوع :" ولد لكم اليوم مخلص ... هو المسيح الرب ( لوقا 2: 11 ) .
فالبشرية قد حَصُلَ في عمقها انفتاح على الله . فلولا أن البشرية أفرزت عذراء مثل هذه ، ما تنازل الله ليجد في ارضنا كيانا يرتاح فيه . فها البشرية تحمل ابن الله لما حملت به العذراء . فإن لزم لزوما شديدا أن تتقدس العذراء ليحل فيها مولود السماء ، إلا انه لما ولدته تقدست به البشرية كلها.
فإن كانت العذراء استضافته تسعة أشهر ، فقد استوطنت فيه البشرية أبد الدهر . فهو ابننا بحسب النبوة :" لأنه قد ولد لنا ولد وأُعطي لنا ابن فصارت الرئاسة على كتفه ودعي اسمه عجيبا مشيرا إلها جبارا ، أبا الابد ، رئيس السلام " ( أشعيا 9: 5 {6} ) .
أما البشير مرقس فقد أدرك عن ايمان ودعى وشهد وسجل أن المسيح هو" ابن الله " وهو جوهر الميلاد الالهي من العذراء ، وصير هذا الايمان والاعتراف والشهادة رأسا لانجيله وألفه ومبتداه ، سجلها أول آية فيه :" بدء بشارة يسوع المسيح ابن الله " ( مرقس 1: 1 ) . لذلك إن غابت في انجيله تفاصيل الميلاد إلا انه لم يغب عنه مضمونها الالهي وجوهرها اللاهوتي .
إن المقدمة التي وضعها البشير مرقس لإنجيله بحسب كلمة " بشارة اي إنجيل " كان أول من استخدمها في العهد الجديد . علما بأن البشير مرقس هو اول من ألف كتابا يحمل سيرة المسيح واعماله وأسماه " البشارة ، الانجيل " وطرحه للكنيسة لتبشر به عن الخلاص .
وكما أختص إنجيل مرقس بصوت المعمدان الصارخ في البرية كبداية لسيرة السيد المسيح .
أما البشير يوحنا فإن مقدمة انجيله تخطت الميلاد الجسدي وتخطت سيرة الخدمة وطارت فوق هامة التأريخ والزمان فيما وراء الاباء والانبياء وادم والارض والسماء وكل الخلائق والاكوان ، لتحط على حضن الله في الازلية في جرأة لا يدانيها جرأة نبي أو ملاك .
وهناك وفي أعماق الله رأى البشير يوحنا وعاين " الكلمة " مصورا فيه كل مشيئة الله من جهة الخلق والخلاص وحتى التجديد :" البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله والكلمة هو الله "
( يوحنا 1: 1 ).
أما الرسول بولس فقد كانت اول معرفته بيسوع المسيح أن رآه في السماء بوجه يشرق بلمعان أقوى من الشمس وقت الظهيرة ، فكان تعبيره عن ميلاد المسيح في هيئة انسان بقوله :" قد اُظهر في الجسد " ( 1 طيموتاوس 3: 16 ) ،اي الله ظهر في الجسد . وعاد ليكمل مفهوم الميلاد كإنسان وقال :" مولودا لامرأة " ( غلاطية 4: 4 ) ، وهو تحديد ميلاد يسوع المسيح بدون رجل ، وهذا فيه كل مفهوم العذراوية للمرأة التي وُلد منها .
ان ميلاد السيد المسيح حدث سماوي بالدرجة الاولى ، حقق حلم الانسان كما جاء على لسان اشعيا النبي مخاطبا الله :" إنك لإله محتجب يا اله اسرائيل المخلص " (اشعيا45 : 15 ) ، " ليتك تشق السموات وتنزل " ( اشعيا 63: 19 ) . وهو حلم كحلم طفل أن تكتمل عين الانسان برؤية الله وهو معنا ، فصمم عن رضى أبيه أن يتراءى لنا في هذه القامة عينها أول ما يتراءى وكأنه نزل حالا من ملكوته . لذلك اختار الله مريم العذراء ليصير الكلمة جسدا في احشائها ووقف الملاك ليبشرها بهذا الحبل الالهي والميلاد الملوكي وأخبرها بالنعمة التي وجدتها أمام الله : " فقد نلت حظوة عند الله "
( لوقا 1: 30 ) ، وملأ قلبها بالفرح قائلا :" افرحي أيتها الممتلئة نعمة " ( لوقا 1: 28 ) ، وكرر باتحاد الله مع البشر إذ قال :" الرب معك " ( لوقا 1: 42 ) . ثم اوضح للبتول أن سر تجسد الكلمة قد اكتمل بحلول الروح القدس عليها :" إن الروح القدس سينزل عليك وقدرة العلي تظللك ، لذلك يكون المولود قدوسا وابن الله يدعى " ( لوقا 1: 35 ) .
ونطق الملاك باسم يسوع قائلا :" وستلدين ابنا فسميه يسوع " ( متى 1: 21 ) . واضاف الملاك : " هذا سيكون عظيما وابن العلي يدعى ويوليه الرب الإله عرش ابيه داود ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر ، ولن يكون لملكه نهاية " ( لوقا 1: 32-33 ) .
وكما سبق الله اعطى لإبراهيم اسم ولده إسحق قبل أن يُحبل به في البطن ، إذ كان منه سيأتي النسل الموعود لبركة الامم ، هكذا أعطى الملاك سر الاسم الموعود للعذراء :" يسوع " الذي يحمل معناه خلاص العالم .
ولم تكن هذه البشارة مجرد إطلاله من السماء على بُعد ، بل انفتاحا سماويا عريضا وعميقا على الانسان . صحيح هي عذراء الله التي اختارها وقدسها لنفسه ، وقد سبق وأشار اليها بالنبوة على فم إشعيا :" فلذلك يؤتيكم السيد نفسه آية : ها الصبية تحمل فتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل ."
( أشعيا 7: 14 ) ، ولكنها بآن واحد عذراؤنا . إذن البشرية قد حصل في عمقها انفتاح على الله . فلولا أن البشرية أفرزت عذراء مثل هذه ، ما تنازل الله ليجد في ارضنا كيانا يرتاح فيه . فها هي البشرية تحمل ابن الله لما حملت به العذراء . فإن لزم لزوما شديدا أن تتقدس العذراء ليحل فيها مولود السماء ، إلا انه لما ولدته تقدست به البشرية كلها .
إن التنوع العجيب في الاحتفاء بولادة الطفل يسوع كان أولا اشتراك الملائكة ممثلي اهل السماء ، ثم الرعاة ممثلي الفقراء ، وكذلك المجوس ممثلي الاغنياء والعلماء والاشراف وممثلي الامم الوثنية ، ثم سمعان الشيخ ممثل الاسرائيليين الاتقياء وحنة ممثلة الانبياء والنجم ممثل الطبيعة غير العاملة .
يتبع الجزء السادس