نص كلمة رئيس الجمهورية في المؤتمر التأسيسي الأول لتجمع قوى وشخصيات التيار الديمقراطي
22/10/2011شبكة اخبار نركال/NNN/
ألقى ممثل رئيس الجمهورية جلال طالباني المستشار السياسي د. جلال الماشطة كلمة رئيس الجمهورية في المؤتمر التأسيسي الأول لتجمع قوى وشخصيات التيار الديمقراطي،الذي عقد في بغداداليوم السبت 22-10-2011، وفي ما يأتي نص الكلمة:
"بسم الله الرحمن الرحيم
الأخوات والإخوة الكرام
السلام عليكم
على امتداد عقود طويلة ظلت الديمقراطية حلماً يراود أبناء شعبنا وهدفاً للغالبية الساحقة من القوى السياسية العراقية التي آمنت بأن الديمقراطية هي السبيل الوحيد لبناء دولة المؤسسات الدستورية الضامنة لتكافؤ المواطنين أياً كانت مراتبهم الاجتماعية أو انتماءاتهم القومية أو الدينية أو المذهبية، دولة تؤمّن ظروف ومستلزمات التحديث والنهوض الاقتصادي كشرط لابد منه لتوفير الرفاه والعدالة الاجتماعية.
وفي هذا السياق فان انعقاد مؤتمركم، مؤتمر قوى وشخصيات التيار الديمقراطي هو امتداد لذلك الإرث التاريخي الطويل الحافل بالنضالات البطولية التي قدم خلالها شعبنا التضحيات الجسام في سبيل تحويل الحلم إلى واقع. وفي الوقت ذاته فان اجتماع هذا الحشد النبيل من القوى والشخصيات المؤمنة بالديمقراطية والعاملة في سبيل تثبيت أركانها والتقيد بقواعدها، يعني إن ثمة حاجة ماسة وملحة لمحور ينتظم الأحزاب والقيادات والأفراد الطامحين إلى الإسهام، مع سائر قوى شعبنا الخيرة، في بناء العراق الديمقراطي التعددي الاتحادي.
إن الديمقراطية، كما تعلمون أيتها الأخوات وأيها الأخوة، ليست مجرد صناديق اقتراع يحتكم إليها الناخب بل إنها منظومة متكاملة من الحقوق والحريات وقواعد السلوك، وقبل هذا وذاك فان الديمقراطية هي أسلوب تفكير وثقافة لابد من تنميتها في النفوس منذ الصغر وتنشئة الأجيال الصاعدة على احترام الرأي الأخر، والتعايش مع الفكر المغاير. ورغم إن منطقتنا ظلت طويلاً ترزح تحت حكم الطغاة والمستبدين فان النهضات الشعبية التي تجري فيها أظهرت إن من أهم بواعثها ومحركاتها رفض الاستبداد والطموح إلى الكرامة والإيمان بحق الإنسان في أن يكون مشاركاً في صنع مصيره وتقرير مستقبل وطنه، أي بعبارة أخرى السعي للعيش في ظل مجتمع ديمقراطي.
وتعني التغيرات الراديكالية الحالية انتهاء عصر الواحدية الحزبية أو الفكرية وانقضاء عهود الاستفراد بالسلطة من قبل شخص أو فئة أو حزب. ونحن اذ ننظر بعين التقدير والاحترام والمساندة إلى هبّات الشعوب وطموحها إلى التغيير الديمقراطي، فإننا في الوقت ذاته نجد لزاماً علينا أن نحذر من مخاطر الانزلاق نحو الاحتراب الأهلي والتصدعات والانشطارات المجتمعية والمجابهات القومية أو الدينية أو المذهبية، وهي مخاطر يؤدي تفاقمها أما إلى خسائر فادحة أو إلى تغيير استبداد بآخر لا يضمن احد أن يكون أفضل من سابقه.
إن التحذير من المخاطر لا يعني الدعوة إلى إبقاء الأمور على ما هي عليه، فالتغيير صار عنوان العصر ومطلب الجماهير وحاجة ملحة خاصة في منطقتنا التي لابد لها من بذل جهود خارقة للحاق بركب التحديث ومواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي المعاصر.
الحضور الكرام
لقد كان انعتاق بلادنا من أسار الطغيان أول بشائر التغيير الذي تشهده المنطقة حالياً، وقد سلك العراق منذ ذلك الحين، طريقاً محفوفة بالصعاب والمعوقات التي ما زال يتعين علينا تجاوز العديد منها. فمنذ اليوم الأول جوبهنا بنفور أو حتى رفض وعداء للنظام الجديد من قبل قوى إقليمية فاعلة عملت على مساندة وتعضيد بؤر التخريب والردة المحلية وقامت بتدريب وتسليح وتمويل جماعات وأفراد لتنفيذ عمليات إرهابية أدت إلى سقوط عشرات الآلاف من الشهداء وأحدثت دماراً هائلاً، والأخطر من ذلك إنها استثارت نزاعاً طائفياً مريراً، أخمدنا، بحمد الله، أواره، لكن بعضاً من ذيوله ما برحت تعوق مسيرتنا.
ولم يكن تشكل الكتل والأحزاب السياسية بعيداً عن هذا النزاع، الأمر الذي انعكس على عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية ودفع إلى اعتماد مبدأ توزيع المواقع على أساس المكونات وهو أمر لا يستقيم مع مفهوم دولة المواطن رغم انه قد يكون ضرورياً في مرحلة زمنية معينة.
ويجب إرساء هذا الوضع المرحلي على قواعد واضحة إذ لا بد من الإقرار بان لمفهوم الشراكة الحقيقية وجهين أولهما المشاركة في الحكم وفي صنع القرار والثاني المشاركة في تحمل المسؤولية.
إن الديمقراطية تقوم أساسا على وجود معارضة تقوّم عمل الحكومة وتقدم نفسها كبديل أفضل، ولكن من يقبل الانتقال إلى كراسي الحكم لا يجوز أن يبقى في مقاعد المعارضة.
إن أوضاع البلاد تقتضي توضيح المواقف من دون لبس، وإنهاء التلكؤ في عمل الحكومة واستكمال توزيع حقائبها واستحثاث العمل في معالجة أهم الملفات التي نواجهها حالياً وفي مقدمتها الأمن والخدمات والنهوض الاقتصادي ومحاربة الفساد. وهذه كلها ملفات مترابطة فيما بينها ومرتبطة بتحقيق إجماع وطني على استراتيجيات تشارك في وضعها السلطتان التشريعية والتنفيذية بمساهمة فعالة من الأطراف السياسية غير المشاركة في مجلسي النواب والوزراء وكذلك بمساهمة منظمات المجتمع المدني والخبراء الأكفاء من داخل الوطن وخارجه. وأود التأكيد على إن اختيار الخبراء لوضع الخطط أو لتبوء المناصب التنفيذية ينبغي أن يتم وفق مفاهيم الكفاءة والنزاهة والتنافس الشريف، وفي ظل قناعة بان الهوية المهنية للخبير وليس هوياته الأخرى الدينية أو القومية أو الحزبية هي المحدد والمعيار الأساس.
الأخوات والأخوة الأعزاء
إن المعضلات والعراقيل التي تواجهنا في بناء الدولة العراقية الحديثة هي، في الجزء الأكبر منها، من مخلفات عهد الطغيان والاستبداد. ولا ينطبق ذلك على الشأن الداخلي فحسب، بل على علاقاتنا مع دول الجوار والمنطقة والعالم. فقد خلق النظام الدكتاتوري بؤر أزمات ومشاكل نعمل على تجاوزها وإقامة روابط الجيرة والود والتعاون مع الأشقاء والجيران ومع سائر دول العالم.
وفي هذا السياق تبذل جمهورية العراق المساعي الحثيثة، سواء على الصعيد الثنائي أو على صعيد متعدد أو في الأمم المتحدة، لحل مشكلة الديون والحدود والمياه. وقد أجرينا سلسلة من الحوارات مع الأخوة في الكويت لمناقشة القضايا العالقة منذ بضع سنين أو الناشئة حالياً مثل بناء ميناء مبارك، كما أجرينا اتصالات مماثلة مع إيران وتركيا.
ولا نرى إن التصعيد الإعلامي يساعد في حل هذه المشكلات بل قد يزيدها تعقيداً، وخاصة إذا تعلق الأمر بقضايا شائكة وساخنة. ونحن نرفض كل ما من شأنه تعكير صفو العلاقات مع جيراننا وأشقائنا، وفي هذا السياق نستنكر بشدة استخدام الأراضي العراقية كمرتكز للاعتداء أو التهيئة للاعتداء على أي دولة جارة، كما نأمل أن نجد معاملة بالمثل وتقيداً بالمواثيق وصون أرواح المدنيين.
ومن دون التدخل في شؤون الدول الأخرى فإننا دعونا وندعو دوماً إلى نبذ العنف واعتماد أسلوب الحوار لتحقيق المطالب القومية والاجتماعية المشروعة. إن تطبيع الأوضاع في المناطق الحدودية يؤثر إيجابا في تحقيق الأمن والاستقرار داخل العراق، وهو هدف نسعى إليه دوماً، وخاصة بالارتباط مع انسحاب القوات الأمريكية نهاية العام الحالي.
وقد أجمعت القوى السياسية على ضرورة التنفيذ الكامل للاتفاقية المعقودة مع الجانب الأمريكي في هذا المجال، كما اتفقت على ضرورة الاستعانة بالخبرات الأجنبية في تسليح وتدريب قواتنا المسلحة. ولا بد من إيجاد التوازن في معادلة استكمال عناصر السيادة العراقية الناجزة وضرورة حماية سماء العراق وحدوده البرية والبحرية. وهذه المعادلة الحساسة لا ينبغي أن تغدو عرضة لمزايدات سياسية أو تستغل لكسب نقاط لطرف على حساب أخر، فان العراق وأهله لا يحتمل التسويف في اتخاذ القرارات الصائبة ومصالحه العليا لا تتفق مع الكسب السياسي.
الأخوات العزيزات الأخوة الأعزاء
خلال حقب مفصلية من تاريخ العراق اضطلع التيار الديمقراطي بدور تنويري وسياسي فائق الأهمية، وهو مدعو اليوم إلى المشاركة في صياغة أفكار وأساليب تكفل سلامة عملية البناء الديمقراطي وبلورة هوية وطنية جامعة لا تلغي الخصوصيات القومية أو الدينية لكنها تؤالف فيما بينها، وتجعل التنوع المكوناتي عامل قوة وليس معول هدم. والتيار الديمقراطي مدعو إلى أن يكون هو القدوة الديمقراطية سواء ببنائه الداخلي أو في علاقاته مع القوى الأخرى ومواقفه من الأفكار المغايرة.
أتمنى لمؤتمركم هذا كل النجاح والتوفيق آملا أن يغدو تجمع قوى وشخصيات التيار الديمقراطي دعامة أخرى يرتكز إليها بنيان عراقنا الجديد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جلال طالباني
رئيس الجمهورية"