نظرة في الدين على ضوء ممارسات ودعوات البطريرك ساكو والبابا فرنسيس
قلت في مقال سابق إن الخطر الذي تواجهه الأفكار النيرة والأديان التي تدعو إلى المحبة والتسامح، التي يربطها أصحابها بالسماء وغيرها، يكمن في خطفها من قبل المنفعيين الذي يشكلون مؤسسة خاصة بهم ويمنحون بموجبها أنفسهم حق التفسير وحق القضاء والتنفيذ والتشريع.
والخطر يداهم الدين والفكر النير عندما تغرس المؤسسة في أذهان أتباعه ألفاظا محددة حيث يصبج الفكر النير والدين مسألة قل ولا تقل. بمعنى أخر يتباهى الناس بخطابهم ويشمئزون لا بل يدينون من يخالف خطابهم ويتهمون من يستخدم خطابا خارج نطاق مداهم اللفظي شتى الإتهامات.
والخطاب بمفهومه العلمي والأكاديمي يضم اللغة نطقا وكتابة والصورة الثابتة والمتحركة والإيقونة والتماثيل والمزارات والطقوس وما يعده أتباع الأديان والأفكار بمثاية القديسين او ائمة او صالحين أحياءا كانوا او اموات. وهذه ليست ظاهرة دينية وحسب. بعض العقائد السياسية والمدنية تكون لنفسها خطابا يشابه في كثير من تفاصيله ما لدى الأديان.
بين اللفظ والممارسة
يفقد الدين والفكر النير ماهيته وجوهره في اللحظة التي يتم إختطافهمها مؤسساتيا وتحويلهما إلى ألفاظ وطقوس وإحتفالات وتجمهرات ظاهرها التشبث بالفكر النير وباطنها رفع شأن المؤسسة ورجالاتها.
ورغم الأبهة والبهرجة اللفظية والخطابية التي ترافق المؤسسات الدينية والمؤسسات العقائدية برمتها، ترى الناس في واد وجوهر الفكر النير والدين في واد أخر. لماذا؟ لأن اول الناس بعدا عن ممارسة الفكر النير سماويا كان او غيره على أرض الواقع هم المستفيدون من وجود المؤسسة التي تحاول، وتفلح في أغلب الأحيان، التشبث خطابيا ولفظيا – حسب المفهوم أعلاه – بكل ما يعزز مكانتها وأمتيازاتها.
البابا فرنسيس والمؤسسة
لا يخفى أنني منبهر بهذا الرجل ومتابع بشكل يومي تقريبا لكل أفعاله وأقواله. إنه هبة من الله لأنه أدخلنا في عالم الممارسة الحميدة والأعمال الصالحة ويريد أخراجنا من عالم المؤسساتية وعالم اللفظة والخطاب. أي لا يهم ماذا تقول، ولا يهم ماذا تكتب، ولا يهم إن قلتَ أنا من الدين الفلاني او المذهب الفلاني ولا يهم إن قلتَ أن كتابي هذا افضل من كتابك. الحكم هو افعالك، أي الإتكاء هو على الممارسة والأعمال الصالحة وليس على الألفاظ والخطابة.
وهو رغم منصبه الرفيع كحبر أعظم بدأ بنفسه وثم بمن حوله وثم بكل المؤسسة المهولة التي يقودها – الفاتيكان رغم صغره مساحته يعد واحدا من أكبر مؤسسات الدنيا.
لا اريد الغوص في تفاصيل ما يمارسه هذا الرجل إلا أنه صار منارة وبفترة وجيزة ليس لأتباعه من الكاثوليك بل للدنيا بأديانها ومذاهبها المختلفة وحتى لغير المتدينين لأنه يرفض ان يجعل من خطابه وألفاظه نبراسا وهداية كي يمنح نفسه أسبقية على الأخرين. الخطاب مهما كان جميلا او قبيحا يبقى خطابا. المهم الأعمال الصالحة والممارسة الحميدة. هذه يقوم بها البابا يوميا ويدهشنا يوميا. إنه حقا أدخل المسيحية في عهد جديد تماما.
واخر ممارسة قام بها كان موقفه من الأوضاع في سوريا حيث دعا إلى الصوم والصلاة كي يجنب الله البلد حربا مدمرة. ولأنه يؤمن ان العمل الصالح من أي كان بغض النظر عن الدين والفكر الذي يتبعه هو المحك والمعيار وليس الالفاظ شاركه في الصلاة أتباع كل الأديان والمذاهب وشاركه في توجهه الإنساني هذا حتى العلمانيين.
البطريرك سأكو والممارسة
البطريرك ساكو ادخلنا أيضا نحن المسيحيين المشرقيين في عهد جديد. وإنني شخصيا أرى ان هناك تبدلا في نظرتنا إلى كثير من الأمور التي تخص حياة شعبنا الواحد من الكلدان والأشوريين والسريان في الفترة الوجيزة التي تسنم فيها منصبه وقد يحتاج هذا إلى مقال منفصل لتبيان مداه.
ولكن ما يدهشني عند متابعتي له أنني أرى تركيزا كبيرا جدا على الممارسة، أي أن الخطاب و اللفظة تفقد معناها وتصبح عديمة القيمة ما لم ترافقها الممارسة الحميدة والعمل الصالح. وهنا لن أدخل في مواقفه من حوار الحضارات والأديان والرصيف الفكري الذي يستند إليه – في المقدمة يأتي الإنجيل ومن ثم إرث كنيسته المشرقية المجيدة - لأن هذا الرصيف بدأ يأخذ مداه ودوره في توجيه بوصلة الكنيسة الجامعة وليس كنيسته المشرقية الكلدانية كونه واحدا من أبرز لاهوتيي العالم.
ولكن دعنا نركز على اخر نداء له والذي وجهه لأتباع كنيسته لمد يد المساعدة لسكان القرى والقصبات من أبباء شعبنا من الكلدان وغيرهم في شمال العراق.
اين نحن من هذه الممارسة؟
نحن بصورة عامة صرنا رهائن الالفاظ والخطاب وغادرنا الممارسة. لأن إن كنا حقا مسيحيين – وأتكلم عن نفسي اولا – لكنا اخذنا نداء البطريرك للتبرع من أجل إخوتنا في العراق محمل الجد لأنه الرئس الروحي المباشر لنا نحن الكلدان الكاثوليك.
كان يجب ان يحدث فورا ما حدث عندما طلب الرئس المباشر للكاثوليك في إسكندنافيا – وهو بدرجة أسقف وليس جاثاليق – مد يد العون للمحتاجين في العالم لا سيما ضحايا الحروب والمهاجرين وضائقيي اليد والروح.
عندما وصل التوجيه – وكان للتو تم إنتخابي كعضو في مجلس إدارة كاريتاس في السويد – ودون تدخل مباشر من الأسقف تحول الكهنة والشمامسة وأعضاء الكاريتاس إلى شعلة عمل وممارسة فتم تخصيص صينية اول احد من كل شهر للأعمال الخيرية – كاريتاس – وتم الإعداد لممارسات يتم جمع المال فيها للفقراء والمحتاجين مثل الأسواق الخيرية وتقديم الشاي والقهوة والحلويات وغيرها بعد كل قداس لقاء تبرع محدد من قبل المؤمنيين.
ووردنا مالا غفيرا وكان لكاريتاس في السويد مثلا دور كبير في مساعدة المحتاجين ومنهم ابناء شعبنا. واخر نداء من المسؤول الكنسي المباشر كان جمع تبرعات لأطفال سوريا ووضعنا صندوقا من الزجاج امام المذبح في كل قداس وكنا نطلب بعد قراءة الإنجيل من الحاضرين لا سيما الأطفال وضع ما يودنه من مبالغ لمساعدة الأطفال السوريين.
لم أرشح هذا العام لإدارة كاريتاس لكثرة مشاغلي وتركت منصبا خدميا أمضيت فيه اربع سنوات تعلمت منه الكثير كإنسان اولا وكمسييحي ثانيا.
أين نحن من هذا؟
كنت أتوقع ان الكدان الكاثوليك سيهبون فورا لتنفيذ نداء بطريركهم كما فعل الكاثوليك في الدول الإسكندنافية. وكنت أتوقع من الأبرشيات الثلات المتواجدة في الخارج وبعضها يطفو على المال ان تقوم فورا بإعداد خطة متكاملة كما فعل الكاثوليك في إسكندنافيا لتنفيذ دعوة رئسهم الروحي المباشر. حسب معلوماتي لم وأخشى لن يحدث هذا رغم أن أي مال سيتم جمعه سيذهب إلى إخوتنا وأشقائنا في العراق أي بني قومنا بينما الأموال التي جمعناها في السويد كانت كلها تذهب إلى غير السويديين.
كاريتاس كلدانية؟
آن الأوان ان يكون لكنيسة المشرق الكلداينة كاريتاس – جمعية خيرية – خاصة بها اي جمعية خيرية تساعدنا على الخروج من حكم الألفاظ والخطاب الذي خطف مسيحيتنا ويدخلنا في عالم الممارسة والأعمال الصالحة تشبثا بالبابا فرنسيس وتنفيذا لدعوة رئس كنيستنا البطريرك ساكو.
وعند تواجدي في كاريتاس كنت قد حصلت على موافقة رسمية من السلطات الكنسية على إنشاء كاريتاس كلدانية خاصة بنا في السويد ولكن مع الأسف الشديد لم يرى المشروع النور لأسباب لا أريد الدخول فيها.