هل تمّ إسقاط نظامْ حُكم .. أم تمّ إلغاء دولة ؟
استاذ جامعي مستقلبداية أقول انني لا أمثل أحداً ولا أنوب عن أحد ، ولا أرغب في إقناع احد فيما اقول , لكني اتمنى ان نتدرب على التفكير معاً وتحليل ما حدث لأحفاد شعب عاش على ارض كانت مهدا لولادة أولى الثقافات واعظم الحضارات في بابل وآشور . ولكي نصل الى هذا الفهم لا بد اولا أن نحرر عقولنا مما تحمله من ايدلوجيات وتقاليد ومفاهيم شرعت قتل الأخر والغاء حضارته وثقافته , والنظر بجدية الى خطورة ذلك على مسيرة الحياة الإنسانية .
فأنا أرى إن الحركة السياسية الوطنية في العراق شملت جميع المكونات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، سواء من كان في السلطة الحالية او في المعارضة ، وهنا اقول بانه ليس بين هؤلاء من هو أكثر أو أقل وطنية من الآخر، فالأحزاب التي توصف بالوطنية والثورية ليست أكثر أو أقل وطنية من تلك التي توصف بالرجعية او العميلة , بمعنى ان التقدميون اوالرجعيون , حاكمون او محكومون هم وطنيون طالما انهم ينتمون الى العراق ، فجميعهم عراقيون متساوون بانتمائهم إلى الوطن ، ولذلك فاني ارى ان معنى كلمة وطنيين هنا يطابق معنى كلمة عراقيين , فكل عراقي مخلص للوطن والشعب هو وطني شريف مهما كان انتماءه الديني او السياسي او العرقي .
فالوطنية صفة لا تقبل التفاوت والتفاضل , والحكومة التي تنزع صفة الوطنية عن بعض مواطنيها أو عن أحدهم بلا سند قانوني اودستوري إنما تنزع صفة الوطنية عنها ايضا لا بل انها تنزع الوطنية عن احزابها التابعة لها .
إن حالة الإستبداد السياسي التي مارسها نظام صدام وغياب الديمقراطية ، واحتكار السلطة وفرض الوصاية على الشعب وتغييب الآخر وإلغائه ، أدى إلى انهيار وطني شامل تمثل في تمزيق الوحدة الوطنية وضرب قيم المواطنة , فتجسدت حالة من القهر والظلم لدى عموم الشعب , هذا الواقع المأساوي دفع جمعاً من القوى ذات التوجهات الدينية اوالعلمانية العراقية لتأسيس جبهة مقاومة سميت { بالمعارضة العراقية } حيث رعتها وقدمت الدعم لها حكومة اميركا ودول أخرى وخصوصا حكومة ايران ذات الحكم المذهبي , ومنذ اعلان المعارضة العراقية عن وجودها صرّحت بان الهدف الرئيسي لتشكيلها هو لإسقاط النظام الدكتاتوري وبناء دولة ديمقراطية حضارية تمنح لمواطنيها الأمن وحق المشاركة لبناء الوطن في ظل روح التسامح والحوار والتعاون ...هكذا كان خطابهم والذي أيده غالبية الشعب العراقي !
إن العراق موطن اولى الحضارات { الأشورية والبابلية } حيث شكلت هذه الحضارة منهلاً أساسياً لثقافة ووحدة أبناءه حيث تلهمهم الثقة بالحاضر وبالمستقبل , كما إن إنتماء العراق إلى المنطقة العربية والتي احتضنت تلك الحضارات يعتبر الأساس لبناء أيّ استراتيجية سياسية جديدة على ارض العراق , ولذلك ومن الضروري أن يعي ذلك الساسة في العراق وان يعملوا على تجسيد ذلك على ارض الواقع من خلال توثيق الروابط وتعميق العلائق بين كل المكونات الأثنية والعرقية ، وذلك وفق سياسات منضبطة ومدروسة وعقلانية ، حيث لا يجوز السير بالعراق نحو رؤى طائفية او مذهبية من شانها خلق الفوارق والكراهية بين ابناءه .
ان ما اريد ان اشير اليه هو ما حل بالعراق في نيسان من عام 2003 , فالمتتبع للأحداث يرى ان ما حدث هو الغاء كامل لمعالم الدولة العراقية التأريخية والجغراقية وتغيير ثقافة شعبها التي ترسخت في وجدانه منذ الاف السنين من خلال تهديم كل ما له صلة بتأريخه وحضارتة واحلال بدلا عنها ثقافة جديدة وغريبة عبر برامج وممارسات منهجية قادتها الحكومة الجديدة حيث ارعبت المجتمع حتى وصل الأمر للتدخل في اجهزة ومؤسسات التربية والتعليم لتغيير مناهجه الدراسية لتخدم توجهاتها الطائفية والداعية
الى حب الذات والغاء الآخر . نعم ان ما حل بالعراق لم يكن إسقاط نظام حكم دكتاتوري ظلم العراقيين , انما الذي حصل هو اسقاط حكم والغاء دولة دستورية قائمة بذاتها !
وهنا علينا التفريق بين ايدلوجيتين معارضتين لنظام صدام { المعارضة الأولى ارادت تغيير كل ما هو عراقي من تأريخ وثقافة وحضارة , واحلال مكانها ثقافة غريبة تعتمد للإستمرار في بقاءها على العنف الطائفي وقد كان لحكومة إيران ممثلة باذرعتها الممتدة داخل العراق والتي كانت قد اسستها في ايران ودعمتها بالمال والسلاح الى جانب دعم حكومة اسرائيل وبعض الكتل العراقية ذات المصالح الإنفصالية اليد الطولى في تنفيذ اهدافها } اما { المعارضة الثانية فقد تمركزت ايدلوجيتها في اسقاط نظام صدام واستبداله بنظام ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان والتعايش السلمي في المنطقة , دون النظر لإلغاء الدولة العراقية } , لكن الذي حدث وتحقق في العراق هو الغاء الدولة بكامل ارثها الرسمي والشعبي حيث لم يكن ذلك يتوقعه الشعب العراقي الذي ينتظر حكما ديمقراطيا شعبيا ليعيد اليه كرامته وعزته , والسبب كما اعتقد " ربما يكمن في الغباء الأمريكي نتيجة عدم تحليله لما ورد اليه من معلومات كانت قد سربتها له قوى المعارضة العراقية والمدعومة ايرانيا والتي ظهر عدم حقيقتها حول امتلاك نظام صدام للسلاح النووي وعلاقته بتنظيم القاعدة , مضافا لها وربما لعدم فهم الحكومة الأمريكية لخطط ولنوايا وستراتيجية هذه القوى للعمل على تدمير وتغيير ثقافة العراق وتفتيت كياناته الأثنية والعرقية "
لقد أثبتت الأيامُ بان العراق قد دخل مرحلة خطيرة نتيجة لسيطرة هذه القوى على الأمور في البلد حيث قامت ايران بضخ الاف العناصر المسلحة ودعمها ماديا ومعنويا لبسط سيطرتها مستغلة الفراغ السياسي الذي حدث في العراق , فبدء التغلغل داخل اجهزة الدولة والذي بات ظاهرا من خلال ما يحدث من فساد وجرائم الى درجة ان بعض مؤسسات الدولة الخدمية او الإنتاجية قد تحولت الى منابر خطابية تدعو الى نشر وتوسيع الهوة الطائفية لتعميق الخلافات والصراعات , فابتعدت عن واجباتها الأساسية في تقديم الخدمات لعموم الشعب , ان فرض السياسات الطائفية منذ سقوط النظام , والذي كان لإيران الدور الرئيسي في اشعالها كان السبب الأول لرفض العراقيين الشرفاء هذه السياسات , وما نراه اليوم من بداية انهيار الإئتلاف الموحد بانسحاب حزب الفضيلة الإسلامي دليل على ذلك بعد ان تكشفت نوايا الإئتلاف الطائفية سنراه مستقبلا وسيتكرر بانهيار الأخرين ذو التوجهات العنصرية , ان المعارضة التي كانت غايتها تفتيت العراق دولة وشعبا وثقافة قد ظهرت حقيقتها وهذا ما سيزيد من اصرار العراقيين المخلصين لدعم كل جهد عراقي اصيل يتمسك بحضارته وتأريخه وثقافته ولن يتخلى عنها مهما حاول المعارضون اصحاب التوجهات التي من شأنها تقسيم العراق وجره الى الطائفية او المذهبية الغاءه ... العراقيون بحاجة الى حكومة نزيه عادلة تحترم العراقيين وتحافظ على أمنهم وسلامتهم وممتلكاتهم .. ويبقى السؤال هل اُسقط نظام .. ام اُلغيت دولة بكامل ثقافتها وحضارتها ؟