هل ستجتاح ثورات الجوع العالم العربي في 2008 ؟
يقول ميشال سيباد وهنري غونال في كتابهما "الجوع"، إن تاريخ الجوع في العالم هو تاريخ البشرية، وتاريخ البحث عن الغذاء. والتاريخ البشري يمتلأ بلائحة طويلة من المجاعات التاريخية المعروفة، وهي ظواهر مأساوية ومحزنة، اضطرت جزءاً كبيراً من البشر إلى أكل الجيف والروث، وهي الصور الأكثر فظاعة لمدوني أخبار أهوال المجاعة. وكان الكفاح ضد الجوع من أقدم المعارك البشرية. كما أصبح الجوع مشروع البشرية كلها منذ الحرب العالمية الأولى، وبعد انهيار الاقتصاد العالمي عام 1929، ومنذ أن انفجرت أكبر فضيحة في عصرنا في جنيف حوإلى عام 1933، وفي أروقة جمعية الأمم، نتيجة للمجاعة البشرية العامة، حيث مات أكثر من 6 ملايين من البشر، نتيجة لهذه المجاعة في الفترة 1930-1945 في الاتحاد السوفياتي، ومات ملايين آخرون في شتى أنحاء العالم.الصيام كوسيلة لمقاومة الجوع
ويقول هذان الباحثان الفرنسيان في كتابهما، إن الفلسفات والأديان لم تستطع أن تتجاهل أقدم عدو للبشرية، وهو الجوع رغم فرض الصيام. ولكن ليس هناك من صيام يصل إلى درجة تعريض الحياة للخطر.
فالصيام في الأديان السماوية، فُرض على المؤمنين كوسيلة من الوسائل لمقاومة الجوع، وذلك بالاعتياد والتدريب عليه وممارسته كتقرُّب من الله عزَّ وجلَّ. كذلك، فقد فُرض الصيام على مجموعات من البشر، كانت تعيش في بلاد صحراوية قاحلة ليس فيها غذاء كثير، فجاء الصيام لكي يحقق هدفين: التقرُّب إلى الله، والتخفيف من الإستهلاك البشري للغذاء. ولكن المؤمنين قلبوا هذين الهدفين الساميين، فهم لا يتقرَّبون إلى الله في فترة الصوم، حيث نرى البذخ المفرط في الطعام والشراب، ونرى ملء وقت أيام الصيام وليإلى الإفطار، بما لا ينفع ولا يشفع.
التبذير والأديان والجوع
من ناحية أخرى، حضَّت الأديان جميعها على عدم التبذير صيانةً للغذاء البشري، وتفادياً للمجاعات البشرية. وقال القرآن الكريم: ﴿ ولا تُبذِّر تبذيراً إن المُبذرين كانوا إخوان الشياطين﴾ (سـورة الإسراء، الآية 27،26 ). ويقول السيد المسيح لتلاميذه: "التقطوا الفتات الباقي لئلا يضيع شيء". وتقول أحد النصوص البوذية: "إن الفكرة الأساسية للحياة الرهبانية هي عدم تبذير أي شيء، والقيام بأفضل استعمال ممكن للأشياء كما أُعطيت لنا"
كذلك، نقرأ على "مسلّة الجوع" المُكتشفة في مصر، كواحدة من أقدم الوثائق الفرعونية في التاريخ البشري التي تؤرخ للجوع البشري على لسان أحد ملوك الفراعنة:
"إنني أنوح من أعلى عرشي المرتفع، بسبب البؤس الشامل الذي شاء ألا تأتي مياه النيل طوال سبع سنوات في أيامي. إن الحبوب نادرة، وكل فرد اصبح سارقاً لجاره. ويريد الناس أن يركظوا ولكنهم لا يستطيعون. الأطفال يبكون، والشبان يترنحون كالشيوخ، فقد تحطمت نفوسهم، وأيديهم تظل على صدورهم. ومجلس كبار البلاط مقفر. والخزائن فُتحت، ولكنها لا تحتوي على شيء سوى الهواء. لقد نفذ كل شيء".
ليس معروفاً بالضبط زمن هذه المسلَّة، ولكنها بالقطع تعود على الأقل إلى خمسة آلاف سنة سابقة. وهي تصوّر بدقة حال بعض البلدان العربية. وقد سبق للكاتب الأردني أحمد الزعبي أن صوّر هذه الحالة بسخرية مريرة مرعبة بقوله:
" أصبحت مهنتي الرئيسية هذه الأيام الخوف والخوف فقط من الأسعار.
بعبع النفط قادم، وبعبع البرد قادم، وبالتإلى بعبع الفقر قادم، رجاءً اختاروا الطريقة التي تناسبكم في تطميننا: لقاء صحفي، تصريح صحفي، برنامج تلفزيوني: ستون دقيقة، 12 دقيقة، يحدث إلىوم، يحدث أمس، وجهاً لوجه، وجهاً لقفا، خبر مصوّر، خبر مكتوب، مصدر مقرّب، مصدر مسؤول.. أي شيء.
المهم أن يطمئن هذا المواطن المسكين الذي يلوك الخوف ليل نهار على أمنه المادي والحياتي والاجتماعي .
شخصياً أنا مرعوب.. هل تسمعون صرير حجابي الحاجز؟'
الديمقراطية والجوع
لم تعد اشكإلىة الديمقراطية، أو معضلة النظم السياسية في العالم العربي هي الشغل الشاغل للشارع العربي، بل أصبحت مشكلة الغلاء وما يتبعها من مشاكل الجوع والفقر هي الشغل الشاغل الحقيقي لكثير من أقطار العالم العربي. ومن هنا نرى أن المثقفين والنُخب المثقفة في البلدان العربية الغنية والتي يصل معدل دخل الفرد فيها إلى أكثر من عشرة آلاف دولار، لا تتحدث عن الديمقراطية إلا من باب الترف الفكري، ذلك أن أحد أهداف الديمقراطية في أية دولة من الدول، وفي أي شعب من الشعوب هو تأمين دخل لا يقل عن عشرة آلاف دولار سنوياً. أما وقد تحقق مثل هذا الهدف، دون الوصول إلى رحاب الديمقراطية، وقبل تطبيق استحقاقاتها، فذلك خير وبركة في رأي الكثير من هذه النخب. وقد سبق وقلنا في مقالات عدة، بأنه كلما ارتفع دخل الفرد السنوي في أي دولة من الدول انخفضت المطالب السياسية والعكس بالعكس.
وقد لاحظنا في دول الخليج عموماً – مثالاً لا حصراً – أن المطالبات الشعبية المختلفة للقيام بالإصلاحات السياسية، تخفُت في زمن الرخاء والوفرة، وتتعالى في زمن الشقاء والنُدرة.
خُرافة الجوع والنُدرة
هل سيجوع العالم العربي في 2008 وما بعدها، ونشهد ثورات الجوع في هذا الجزء من العالم؟
وهل الجوع ونُدرة الموارد الطبيعية خُرافة أم حقيقة، تهدد الوجود العربي مستقبلاً؟
أم أننا نملك من الموارد الطبيعية ما يكفل لنا محاربة شبح الجوع، ولكن الجوع سوف يهلكنا فيما لو لم نستغل مواردنا الطبيعية استغلالاً حسناً؟
تقول إحصائية لعلماء جامعة "أيوا" الأمريكية، أن سبب الجوع الذي يهدد العالم يعود إلى إنه لا يُزرع الآن سوى 44% من الأرض الصالحة للزراعة في العالم. وفي كل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية، لا يزرع سوي أقل من 25% من الأراضي التي يمكن زراعتها، ويمكن لمحاصيل الحبوب في الدول النامية، أن تفوق الضعف مما هي عليه الآن. كما أنه بحسب الدراسة ذاتها ـ التي تعتمد علي الأرقام أيضاً ـ ليس هناك سبب فيزيائي يحول دون إنتاج الفدان في معظم بلداننا النامية بالمقارنة بالدول الصناعية، بل على العكس، فإن الدول النامية يمكن للأرض التي تقدم محصولاً واحداً في السنة، أن تقدم محصولين أو أكثر بدلاً من محصول واحد.
القنبلة السكانية والجوع
تعتبر القنبلة السكانية وتزايد سكان بعض أجزاء من العالم العربي كمصر والمغرب من أخطر الأسباب المؤدية إلى الجوع وثوراته مستقبلاً. لذا، فعلينا أن نولي تجنّب الانفجار السكاني في العالم العربي أهمية بالغة. وأن نربط تفادي هذا الانفجار بتحسن ظروف التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فمن الملاحظ مثلاً، أن من أكثر بلدان العالم العشرة غنىً وارتفاعاً في الدخل القومي السنوي GDP لا يزيد سكانها على خمسة ملايين نسمـة، ما عدا اثنتان هما: سويسرا (7 ملايين) والولايات المتحدة الأمريكية (260 مليون).
إن علاقة الرفاهية بحجم سكان الدولة، كان نقاشاً مطروحاً منذ أيام أرسطو الذي نادى بتقليص حجم المدن الإغريقية. وقال، إن التجربة أثبتت أن الدول ذات التعداد السكاني الكبير من الصعب - إذ لم يكن من المستحيل - أن تُسيّر تسييراً مرضياً. وهذا المفهوم هو عكس ما كان يراه الآباء المؤسسون الأمريكيون. فقد رأى جيمس ماديسون (1751-1846) الرئيس الرابع الأمريكي، أن تعداد الدولة السكاني الكبير سوف يساعد على تحقيق الديمقراطية، من حيث أنه يُقلل من احتمالات سيطرة فئة على أخرى، وهضم حقوقها. ولقد أثار موضوع الانفجار السكاني وأثره على رفاهية الدولة مؤخراً، اثنان من كبار الأكاديميين الاقتصاديين الأمريكيين هما البيرتو آلاسينا الاستاذ بجامعة هارفرد، وإينريكو سبولور من جامعة براون، في كتابهما (حجم الأمم). وقد أشارا في هذا الكتاب إلى أن نصف دول العالم الآن، لا يتجاوز حجم سكانهـا ولاية ماساشوستيس (6 ملايين). ويرى هذان العالمان، أن الدول الصغيرة أسعد حظاً في أوقات السلام، بينما تظل تكإلىف الدفاع أرخص في الدول العملاقة، حيث تتوزع تكإلىف الدفاع على أكبر حجم من دافعي الضرائب. ويرى هذان الكاتبان أن الدول الكبيرة تستطيع أن تُجبي مبالغ هائلة من الضرائب. ولكن لكل هذا ثمن باهظ. وأنه ينطبق على الدول الغنية أصلاً. أما الدول الفقيرة كدول الشرق الأوسط والعالم العربي بصفة خاصة، فلا مجال لها لتحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية غير تحديد النسل، والتقليل من عدد السكان، كما فعلت تونس على وجه الخصوص.
لا ديمقراطية للجياع
لم تقطع الديمقراطية دابر التداول العنيف على الحكم، ولم تقلص العنف السياسي الجماهيري إلى أدنى تعبيراته إلا بفعل الحداثة الاقتصادية؛ أي تفوق معدلات النمو الاقتصادي على معدلات النمو الديمغرافي، حيث يُشكِّل الفقر عائقاً لتحقيق الديمقراطية. ففي معظم سكان البلدان العربية الكبرى، يعيش أكثر من 50٪ تحت خط الفقر. والفقراء تعاملوا حتى الآن مع الانتخابات الديمقراطية إما بالاستنكاف عن التصويت (مصر) ، وإما ببيع اصواتهم (المغرب والأردن ولبنان) ، وإما بالتصويت الاحتجاجي لأكثر الحركات تعصباً وعنفاً (الجزائر). فالديمقراطية لا تتأصل إلا في مجتمعات الوفرة، إلى درجة أن أحد رؤساء البنك الدولي يقول أن بلوغ متوسط الدخل الفردي السنوي عشرة آلاف دولار، هو الشرط المناسب لتوطين الديمقراطية. عندئذ تتضاءل إمكانية التصويت الاحتجاجي والعنف السياسي، ويختفي بيع الأصوات. فالفقراء هم عادة - في معظمهم - ضحايا الأميّة والجهل. وهذا لا يساعدهم على وعي أهمية الديمقراطية كعامل استقرار سياسي، يساعد على التنمية الاقتصادية باستقطاب الاستثمارات الخارجية، وباقناع الرساميل الداخلية بعدم الفرار. ولا يساعدهم فضلاً عن ذلك، على وعي أهمية حقوقهم المدنية، وهم الذين لم يترك مطلب توفير لقمة العيش في رؤوسهم مكانا لأي مطلب سواه. فالفقر لا يدع لضحاياه الذين يستغرقهم النضال إلىومي لمجرد البقاء على قيد الحياة، ترف الاهتمام بالرهان الديمقراطي الغريب عن اهتماماتهم وتطلعاتهم الفورية وعالمهم الذهني، كما يقول المفكر التونسي العفيف الأخضر.
الطفرة البترولية والجوع
مما لا شك فيه أن عصر الطفرة البترولية التي اجتاحت العـالم العربي (1974-1985) قد ساهمت في تعطيل مشاريع عربيـة كثيرة، منها مشاريع الوحدة والديمقراطية والعَلمانية، وكذلك الأخذ بإلىات الحداثة. و بعد هذا التاريخ بدأت صدمة انكماش الطفرة البترولية والمإلىة بسبب الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت ثماني سنوات (1980-88) واستنـزفت أكثر من أربعمائة مليار دولار من الأموال النفطية العربية، إضافة إلى انخفاض أسعار البترول. وسوف تتكرر هذه الطفرة على ما يبدو الآن بعد وصول أسعار البترول في شهر يناير 2008 إلى 100 دولاراً للبرميل، مما أتاح للدول العربية المنتجة للنفط تسديد فواتير حرب الخليج الأولى والثانية الطائلة اللتين كلفتا مبالغ كبيرة مقدارها ستمائة مليار دولار تقريباً، حسب بعض المصادر. وبذا يكون العرب قد دفعوا من أموال النفط خلال عشر سنوات (1981-91) حصتهم الكبرى من الألف مليار دولار ثمناً لحربين مجانيتين مجنونتين.
ومع بدايـة التسعينات، وفي ظل الفقر العربي الذي عاد إلى العالم العربي، وإفلاس الخزائن المإلىة العربية، وتدني أسعار البترول، وزيادة نسبة البطالة، بدأ الخطاب العربي الحداثي يشق طريقه من جديد في الفكر العربي، فصدرت أكبر كمية من البحوث والكتب التي تعالج موضـوع الحداثة في فترة التسعينات، وعُقدت أهم الندوات الفكرية حول موضوع الحداثة في تلك الفترة . وكأن العقل العربي في هذه الفترة التي انحط فيها الوضع الاقتصادي العربي قد عاد إلى وعيه، وأصبح يبحث عن البدائل لتلك الطفرة المإلىة العابرة، وعن حل لذلك التدهور الاقتصادي. وها هي الطفـرة البترولية تعود من جديد مع بداية القرن الحادي والعشرين. فهل سينغمس العالم العربي مرة أخرى في الجنون الاستهلاكي، ويدع الحديث عن الحداثـة جانباً بانتظار انحسار مإلى جديد، وفقر قادم، حيث تكون الآذان صاغية لخطاب الحداثة الواعد بالخروج من الضيق والنفق؟ وهو ما تمَّ التعبير عنه في بدايـة التسعينات من أن "التنوير العربي سقط في أسطرة التنمية كإجهاض منظَّم لمولد النهضة. ذلك أن التنمية العربية ارتبطت عضوياً بالثروة النفطية الطارئة، وطمست تحت بيارقها حقيقة التحدي التاريخي الذي كان على المشروع العربي الثقافي أن يتصدى له. وقد كان الفكر العربي قد شرع تنويره الحديث عندما عاجله منطق الثروة الهابطة من الفراغ، غير المشروعة، كبديل عن اكتشاف قوة الإنتاج النهضوي الحقيقية" كما قال المفكر السوري مطاع صفدي.
هل سيشعل شبح الجوع الثورات؟
تقول التقارير أن 13% من سكان العالم العربي يعانون من سوء التغذية؛ أي أن هناك 39 مليون شخص في العالم العربي يعيش هذه المعاناة، وفقاً لاحصاءات منظمة "الفاو" العالمية. هذا رغم كون البلاد العربية غنية بمواردها الطبيعية وطاقاتها البشرية، فلماذا يخيم الجوع على كثير من المجتمعات العربية؟
وهل ارتفاع الأسعار، وخيبة أمل الناس في تغييرات سياسية انتظروها وتدني الأحوال الاقتصادية، هي أسباب نزول المواطنين إلى الشارع كما يقول الكاتب المصري سلامة أحمد سلامة.
فكثير من المراقبين يخشى أن يكون الجوع – كما كان في فرنسا في القرن الثامن عشر – سبباً لثورات سياسية عارمة. والدليل على ذلك أن ما يجري الآن من نزول الناس إلى بعض الشوارع العربية في مصر ولبنان والأردن والسودان والمغرب العربي مطالبين بسد الأفواه الجائعة، هو البدء بالمطالبة بالحقوق المادية والاجتماعية والانتهاء بالمطالبة بالحقوق السياسية وهو ما حصل في الثورة الفرنسية عام 1789. مع وجود بعض الاستثناءات كالشعب المصري مثلاً، الذي يرى سلامة أحمد سلامة أنه ليس شعباً ثائراً بطبعه ما دام يجد لقمة عيشه. وهذا لا ينطبق على الشعب المصري وحده، وإنما ينساق على معظم الشعوب العربية، التي يخفُت صوتها بالاحتجاج والإصلاح السياسي في زمن الطفرة والوفرة، ويرتفع في زمن الجوع والندرة.
والسؤال هنا:
من يضمن أن تستمر الطفرة والوفرة بشكل عام في العالم العربي إلى ما لا نهاية، ولا ينتظر الجوع هذه الملايين من الأفوه الجائعة، خاصة في ظل انفجار القنبلة السكانية في كثير من الأقطار العربية الفقيرة، والتي تلتهم معظم نسب التنمية المتواضعة التي تحققها؟