Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

هل كان إسقاط البعث يستحق كل هذه التضحيات؟

والآن نأتي إلى السؤال العاشر من سلسلة الأسئلة المفترضة التي تدور في أذهان أبناء الشعب العراقي وغيرهم، حول الأزمة العراقية، وإسقاط حكم البعث، وما نجم عنه من تداعيات، ومضعفات، وصراعات، وفضح المستور من عيوب المجتمع العراقي، فنأتي هنا للإجابة على السؤال التالي: هل ما تحقق بعد إسقاط حكم البعث كان يستحق كل هذه التضحيات التي دفعها الشعب العراقي من أرواح أبنائه وممتلكاته، وتخريب مؤسساته الاقتصادية والخدمية؟ أما كان الأفضل الانتظار ليسقط حكم البعث بطريقة وأخرى أقل خطراً مما حصل؟

وربما يبرز سؤال آخر هو: هل كان نظام البعث سيئاً إلى درجة أنه كان يستحق التخلص منه حتى ولو كلف ذلك احتلال العراق بقوات أجنبية؟

لنبدأ بالجواب على هذا السؤال الأخير، وهو: نعم، كان النظام يمثل الشر المطلق للشعب العراقي ولشعوب المنطقة، وأكثر خطراً وشراً من الاحتلال الأجنبي، وذلك للأسباب التالية:

أمعن حكم البعث الصدامي بإضطهاد الشعب العراقي إلى حد الإبادة الجماعية، وفرض عليه دكتاتورية الحزب الواحد، والشخص الواحد، وأشعل الحروب الداخلية والخارجية، وتسبب في قتل نحو مليونين من الشعب، وشرد نحو أربعة ملايين منهم في الشتات، وترك ملايين الأرامل واليتامى والمعوقين، وبدد ثروات البلاد على الحروب وعسكرة المجتمع، واستدان عليها أكثر من 120 مليارا من الدولارات، ليس للتنمية، بل لسباق التسلح والحروب العبثية المدمرة التي ألزمت الشعب دفع مئات المليارات أخرى كتعويضات لهذه الحروب، كما ونشر المقابر الجماعية، والسجون، وتسبب في فرض الحصار الاقتصادي الجائر الذي أذل العراقيين أشد الإذلال، وأحدث ردة حضارية أعادت العراق إلى ما كان عليه في العهد العثماني.

وكما ذكرنا وأثبتنا في مقالات سابقة، أنه لم يكن بإمكان الشعب إسقاط حكم البعث أو العبث، لأنه حاول في انتفاضته الكبرى عام 1991، ولكنه قوبل بحرب الإبادة، لأن هذا الحزب كان مستعداً لإبادة الشعب عن آخره في سبيل بقائه في السلطة. ولو بقي البعث في الحكم عشر سنوات أخرى، لفرغ العراق من شعبه، لذلك فما حصل من تدخل خارجي كان أهون الشرين، ولا بد منه، ولو لم يحصل عام 2003، لحصل في وقت آخر، وبذلك كان تجنب الحرب مجرد تأجيلها إلى وقت آخر، أو إلى جيل آخر.

كان التخلص من حكم البعث حلماً يراود مخيلة العراقيين و فوق قدراتهم، لأن صدام وحزبه قد خططوا لحكم العراق إلى مئات السنين، ووضعوا في روع الشعب أن حكمهم باق كالقدر المكتوب، وما عليهم إلا أن يقبلوا به ويتكيفوا معه، وإلا فخيارهم العزلة، أو الهلاك أو الهجرة.

أما القول بأن بوش وبلير قد رتبا إسقاط صدام على الكذب، بامتلاك صدام أسلحة الدمار الشامل، وأنه لم يكن لسواد عيون العراقيين، أو لإقامة نظام ديمقراطي، بل لنهب نفط العراق وخدمة إسرائيل...الخ، ويرددون القول: "ما بني على باطل فهو باطل"، وهو منطق لا ينطبق على القضية العراقية أبداً. على أي حال، فالجواب على هذه الاعتراضات كالآتي:

أولاً، مسألة عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل

صحيح، لم يعثر المفتشون الدوليون بعد إسقاط حكم البعث على هذه الأسلحة، ولكن هذا لا يعني أن صدام ما كان يمتلكها قبل سقوطه، وقد دمرها أو أخفاها في رمال الصحراء الواسعة، أو لم يكن قد خطط لامتلاكها، فقد بدد الطاغية ثروات البلاد على برنامجه النووي، وذلك بشهادة الخبراء العراقيين في الفيزياء النووية الذين عملوا في هذا المجال. كذلك سلاح الدمار الشامل لا يعني القنبلة النووية فقط، بل والأسلحة الجرثومية والغازات السامة. وصدام استخدم الغازات السامة ضد شعبه في حلبجة، وفي الأهوار، وضد الجيش الإيراني في حربه مع إيران. وهذه حقائق مثبتة لا جدال فيها. وحتى لو سلمنا بعدم وجود السلاح النووي، فصدام هو الذي جعل العالم يعتقد بامتلاكه له، حيث كان يتباهى أمام الإعلام العالمي مهدداً بحرق نصف إسرائيل بالسلاح النووي، وإذا تبين فيما بعد أن تهديداته كانت زائفة، ولتخويف إيران كما أدعى أتباعه فيما بعد، فالذنب يقع عليه هو وليس على من صدق بتهديداته التي كانت تعامل بمنتهى الجدية.

أما أمن إسرائيل فهو جزء من إستراتيجية أمريكا وكل الدول الغربية، وهذا ليس سراً يخفونه. ولكن، هل حقاً، كان صدام حسين يهدد أمن إسرائيل؟ الحقيقة المرة هي أن سياسات صدم الطائشة قد خدمت إسرائيل وأضرت بالقضية الفلسطينية وذلك عن طريق إدعاءاته الزائفة بحرق إسرائيل، ودعمه للمتطرفين الفلسطينيين من أمثال عصابة أبو نضال وغيره، ودوره التخريبي في لبنان إثناء الحرب الأهلية اللبنانية.

ثانياً، أمريكا لم تسقط حكم البعث لسواد عيون العراقيين.
هذا الاعتراض صحيح، ولم ينكره أحد، وقد أكدناه مراراً بالقول أن في السياسة لا يوجد شيء اسمه (سواد عيون)، بل مصالح، إذ كما يقول الإنكليز: لا توجد وجبة مجانية (There is no free lunch). وكعراقي، لا يهمني أن ما قام به بوش وبلير لسواد عيون العراقيين، أو لوجه الله، أو لمصلحة بلدانهم، أو لدمقرطة العراق والمنطقة، وإنما الذي يهمني هو: أن إسقاط حكم البعث كان أكبر خدمة للشعب العراقي، فلأول مرة في التاريخ تتطابق مصلحة الشعب العراقي مع مصلحة الدولة العظمى بعد انتهاء الحرب الباردة. لذلك، فمن الجنون والعبث تفويت الفرصة وعدم الاستفادة منها، بغض النظر عن أغراض الآخرين من هذه العملية. فالعراق كان محتلاً من قبل حزب البعث الذي ألحق به أشد الدمار الشامل وأذل شعبه.

ثالثاً، جاءت أمريكا لنهب النفط العراقي.

هذه الحجة هي الأخرى لم تصمد أمام أية مناقشة منصفة ومنطقية. وهل حقاً منع صدام النفط عن أمريكا؟ الجواب: كلا وألف كلا، فاغتصاب حزب البعث للسلطة لم يتم إلا بمساعدة الاستخبارات الأمريكية، ودعم أمريكا لصدام معروف في الحرب العراقية- الإيرانية. وحتى لو سلمنا جدلاً، بأن أمريكا جاءت من أجل النفط، فما الضير في ذلك؟ إذ نحمد الله أن وهب العراق شيئاً يجذب أمريكا لتحريره من طغيان حكم البعث الصدامي. وهل أمريكا تريد النفط مجاناً، فإذا لم نبعه على أمريكا وغيرها، فماذا عسى أن يعمل الشعب العراقي بنفطه، خاصة وقد عانى الشعب أشد المعاناة إثناء الحصار؟.

كذلك هناك مبالغة في دور النفط، إذ، صعدت أسعار النفط بعد سقوط حكم البعث أرقاماً قياسية خلقت أزمة اقتصادية لأمريكا وللعالم، وهذا يؤكد الحقيقة أن أسعار النفط لا تتحكم بها أمريكا، بل يقرره قانون العرض والطلب. كما وأثبتت صفقات استثمار النفط التي وقعتها الحكومة العراقية مؤخراً، أنها تمت مع شركات تابعة لدول وقفت ضد الحرب على صدام، (روسيا والصين)، أما الشركات الأمريكية فكانت هي المتضررة. وهذا يدحض جميع الإدعاءات القائلة أن أمريكا أسقطت صدام من أجل نهب ثروات العراق النفطية، كما ويدحض القول بأن الحكومة العراقية الحالية هي عميلة، نصبها الاحتلال وتأتمر بأوامره!!. والفارقة أن آخرين يدعون أن هذه الحكومة نصبتها إيران، عدوة أمريكا، وتأتمر بأوامرها، وهنا التناقض في أقوال أعداء العراق، ومعظمهم من سجناء كهوف الأيديولوجيات الشمولية المظلمة التي فضلت إبقاء الطاغية صدام في الحكم يضطهد الشعب العراقي على تحريره من قبل أمريكا.

إذَنْ، لماذا أقدمت أمريكا على إسقاط حكم البعث؟

السبب واضح، وهو كون صدام، حتى وإن لم يتم العثور على أسلحة الدمار الشامل، إلا إنه هو الذي أشاع هذه الفكرة، وبالتأكيد كان يعمل على امتلاكها، وهذا خط أحمر لا يسمح به لأية دولة مارقة في المنطقة، وفي هذا الخصوص ذكر صموئيل هانتنغتون، أنه لو أجَّل صدام حسين احتلال الكويت لثلاث سنوات، لما استطاعت أمريكا إخراجه منها، لأنه كان سيمتلك السلاح النووي نهاية في هذه المدة، وعندئذ، لم يكن بمقدور أمريكا مواجهة محتل يمتلك مثل هذا السلاح، ولأقدم صدام على احتلال كل الدول الخليجية بما فيها السعودية، وعندها يكون قد هيمن على كل نفط الخليج، وهذا ما يعرفه واضعو إستراتيجية الدول الغربية، ويعتبروه كابوساً لم ولن يسمحوا لحصوله. كذلك لا ننسى دور عملية 11 سبتمبر 2001 الإرهابية في تغيير موقف أمريكا من الأنظمة المستبدة، والمنظمات الإرهابية التي كانت تدعمها وترعاها إبان الحرب الباردة، فصارت هذه الدول والمنظمات وبالاً على أمريكا نفسها، حيث انقلب السحر على الساحر، وفي هذه الحالة، فالشعوب المضطهدة هي المستفيدة من هذا التحول، وهذا هو حكم التاريخ العادل.

ما هو ثمن الخلاص من حكم الطغيان؟

لا شك أن ثمن إسقاط حكم البعث كان باهظاً، ومازال الشعب يدفع، وفي هذا الخصوص يسأل توني بلير في مذكراته: "هل كان من الأفضل ترك صدام يحكم العراق ويضطهد شعبه، ويشكل خطراً على شعوب المنطقة؟" فيجيب قائلاً: "كنا نعرف أن إزالة حكم صدام لها عواقب، ولكن عواقب عدم إزالته أوخم."

وقد ذكرنا آنفاً عواقب عدم إسقاطه، فلو بقي حكم البعث عشر سنوات أخرى لهلك هذا الشعب وأغلب الاحتمال لفرغ العراق من سكانه عن طريق الإبادة، والحصار والهجرة. وبذلك فخسائر عدم إسقاطه تفوق خسائر إسقاطه. إذ تفيد الإحصائيات المعتمدة من منظمة (Body count)، وهي مناهضة للحرب على صدام، وكذلك الأرقام التي نشرتها وزارة الصحة العراقية، وجهات أمريكية، أن أرقام الضحايا في العراق بلغ لغاية 2009 نحو 100 ألف. ولكن نشرت وكالة ويكيليكس وثيقة اعتبرتها سرية، أن أمريكا حاولت إخفاء 20 ألف ضحية أخرى، وبذلك يكون عدد الضحايا نحو 120 ألفاً. وهذا بالطبع رقم كبير وكارثة على الشعب العراقي بكل المقاييس، ولكن أين هذا الرقم من مليون ونصف المليون الذي يروج له الإعلام المعادي للعراق الجديد، ويدعي أنهم قُتِلوا على أيدي القوات الأمريكية؟

إن الغرض من تضخيم الأرقام، وإعفاء المجرمين الحقيقيين من الجريمة، وإلقائها على قوات التحالف، ليس لتعاطفهم مع الشعب العراقي وحرصهم على سلامته، بل لاتخاذه وسيلة للتأليب، ولتحريض الشباب العرب ودفعهم للانضمام إلى المنظمات الإرهابية، والذهاب إلى العراق لقتل المزيد من العراقيين، وفي نفس الوقت إلقاء الجريمة على القوات الأمريكية والحكومة العراقية، بينما الحقيقة الساطعة تؤكد أن أكثر من 95% من الضحايا العراقيين تم قتلهم على أيدي الإرهابيين البعثيين وحلفائهم من أتباع القاعدة الوافدين من السعودية وغيرها من البلدان العربية.

وفي المحصلة النهائية، لو قارنا الأعداد الهائلة من القتلى، والمصابين والمعوقين والأرامل والأيتام في العراق، التي حصلت في عهد حكم البعث، نراها تفوق عشرات المرات ما حصل بعد إسقاطه، خاصة وأن البعث كان قد خطط في سبيل بقائه في السلطة حتى ولو كلف العراق الدمار الشامل. فالبعث قد مارس إرهاب الدولة يوم كان في الحكم، ويمارسه الآن وهو خارج الحكم وبأسماء منظمات إسلامية وهمية، ومنظمة القاعدة الإرهابية، علماً بأن أتباع القاعدة هم تحت سيطرة وقيادة فلول البعث.

وقد يعترض القارئ الكريم، فيقول: أنت لا تهتم بما يدفعه الشعب في الداخل من تضحيات، لأنك تعيش في الخارج، وهل توافق أن تكون من بين الضحايا؟ جوابي هو كالتالي: إن فلسفتي في الحياة أن أعيش حراً، وأني أؤمن إيماناً عميقاً بأن حياة الذل والعبودية لا تستحق أن تعاش، فالعبرة ليست في بقاء الإنسان حياً لأطول فترة، بل لنوعية الحياة التي يعيشها. ولذلك أقسم بكل مقدساتي، أنه لو كان لي الخيار بين العيش تحت حكم البعث الصدامي عبداً ذليلاً، أو الموت، لفضلت الموت، سواءً عن طريق الانفجارات أو غيرها. ومن المؤكد، أني لو لم أخرج من العراق عام 1979، لكنت واحداً من الذين قتلهم حكم البعث.

كان الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت Kant قد رحب بالثورة الفرنسية عام 1789م، وحينما نقلوا له صور الرعب والرؤوس المتطايرة على المقصلة، أجابهم قائلاً: "إن كل هذه الفظاعات لا تقترب بشيء من استمرار حكم الطغيان؟". علماً بأن الملك لويس السادس عشر كان أقل ظلماً من جميع أسلافه من ملوك فرنسا، وجميع ملوك أوربا في زمانه، ويعتبر ملاكاً مقارنة بصدام حسين.

نعم، كل ما يواجهه الشعب العراقي من فظاعات على أيدي الإرهابيين، هو ثمن كان عليه دفعه ليتخلص من حكم الطغيان البعثي الصدامي، وكان يدفعه في جميع الأحوال حتى في عدم إسقاطه، لذلك فإزالته تستحق التضحية، فالشعب الآن عرف طعم الحرية، ولن يتخلى عنها، ومستعد لبذل المزيد في سبيلها، إذ كما قال الشاعر التونسي الخالد، أبو القاسم الشابي:

ومن يتهيب صعود الجبال... يعش أبد الدهر بين الحفر


Opinions