هل من جديد في تجربة القوى الديمقراطية – العلمانية في العراق؟
(1)حين يمر الإنسان بتجربة معينة, وحين تكون هذه التجربة لا تمسه وحده بل تمس جمهرة كبيرة من البشر أو شعباً بأكمله, عندها, وحين يمتلك الثقة بالنفس, سيسعى بكل جدية ووعي بالمسؤولية إلى معرفة عناصر ومراحل التجربة من بدايتها إلى نهايتها ومروراً بتفاصيل التحضير لها والحوارات مع الآخرين بشأنها ومسيرتها ومن ثم نتائجها. هذا هو طريق البحث في التجربة, طريق البحث العلمي المسؤول الذي يقف عند دراسة التجربة بكل تفاصيلها من موقع الحياد الفعلي بهدف الوصول إلى استخلاص الدروس منها والتمعن في سبل الاستفادة منها في قادم الأيام. وبغض النظر عن مدى نجاح أو فشل تلك التجربة الذي يمكن أن يتجلى بنتائج الجهد, فلا بد من تقييمها وتقويمها لصالح المستقبل. وبدون هذه المراجعة الصادقة مع النفس لا يمكن التقدم خطوة إلى أمام. وهذه هي مسؤولية كل فصائل التيار الديمقراطي العراقي على امتداد الساحة العراقية ومن جميع القوميات, ولا يمكن إعفاء أي فصيل عن هذا التقييم والتقويم.
خلال الأعوام المنصرمة مرت القوى الديمقراطية والعلمانية العراقية بتجربة الانتخابات ثلاث مرات, التجربة الأولى 2005 (انتخابات برلمانية عامة) والتجربة الثانية 2009 (انتخابات مجالس المحافظات) والتجربة الثالثة 2010 (انتخابات برلمانية عامة).
والتجارب الثلاث غنية بالدروس والعبر لمن يريد أن يتعلم منها ويستفيد في قادم الأيام منها. يدعي البعض أحياناً بأن النجاح في أي عمل يخوضه الإنسان لا يقاس بالنتائج, ولكن هذا القول ناقص, فالنتائج لها أهمية كبيرة حين يرتبط الأمر بالمجتمع وقضاياه الأساسية والتحولات المنشودة في البلاد. النجاح ليس وحده, ولكنه مهم جداً للمسيرة اللاحقة. ولكن الفشل يفترض أن لا يخلق الإحباط والعجز عن التفكير بوضوح وطرح الأخطاء والنواقص بجرأة ومحاسبة النفس قبل محاسبة الآخرين أو وضعها على شماعة الظروف الموضوعية وحدها.
خاضت القوى الديمقراطية, وهي قوى كثيرة وليست قليلة في العراقً حقاً ولها ماضٍ مشرف, الانتخابات بصورة منفردة عموماً ومبعثرة على قوائم صغيرة وضعيفة. وكان البعض الكثير يعرف منذ البدء أن الحظ في فوزه ضعيف, إذ أن نشاطه لم يكن بالمستوى المطلوب. وهكذا كان, إذ توزعت القوى والعناصر الديمقراطية في العراق لا على قوائم منفردة وصغيرة حسب, بل وتبعثر بعضهم ليدخل في قوائم كبيرة, ولكنها من وجهة غير وجهته التي ناضل ويناضل من أجلها وفي قائمة ليست من طبيعة فكره وسياساته ومقاصده, بل هي من طبيعة فكرية وسياسية وأهداف أخرى. هذا التبعثر والتشتت وركوب الرأس والعناد من جهة, وهذه الرغبة في التفرد والشعور بالقوة والقدرة على تحقيق ما لا يستطيع غيره تحقيقه وأن مهمته أن يترأس قائمة حتى لو كانت من عدة أفراد ولو لم يكتب لها الفوز من جهة أخرى, قد أعطى أكله المُرة لجميع القوى الديمقراطية دون استثناء. التجربة ضرورية والتعلم منها ضروري أيضاً, ولكن الوقوع في فخ التجارب المتكررة ليس عيباً حسب, بل وإساءة للمجتمع الذي يراد تمثيله أو النيابة عنه والدفاع عن مصالحه. ويفترض التعلم من قول المؤمنين: "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين", فكيف والحال حين يلدغ الإنسان الديمقراطي والعلماني أكثر من مرتين. فهل ستتعلم قوى التيار الديمقراطي من تجاربها المنصرمة؟ هم وحدهم قادرون على الإجابة عن هذا السؤال, هم الذين يعملون ويتحملون مسؤولية عملهم.
لم تكن هذه المعركة الانتخابية حاسمة قطعاً, بل كانت مجرد دورة انتخابية مهمة لم يستعد لها الديمقراطيون والعلمانيون كفاية ولم يجدوا سقفاً يجتمعون تحته ويتفقون على قواسم مشتركة تمس حياة ومصالح الشعب كله ويمارسون دورهم النضالي من خلال البرنامج المشترك. كما لم تكن هذه الانتخابات تحدياً ديمقراطياً للقوى الإسلامية السياسية ولا لغيرها, فميزان القوى كان منذ البدء واضحاً, ولم يكن يحتاج الإنسان إلى عبقرية استثنائية ليقدر نتائج هذه الانتخابات. لم تكن هناك مفاجئات كبيرة, وقد حاولت الإشارة إلى ذلك في مقال لي نشر في الأسبوع المنصرم في جريدة المدى الغراء.
السؤال هو: ماذا تحتاج قوى التيار الديمقراطي للمنازلة السلمية والديمقراطية في الدورة الانتخابية القادمة؟
يبدو لي أن القوى الديمقراطية والعلمانية بحاجة أولاً إلى ثلاثة أسس للعمل المشترك:
** الاعتراف المتبادل بالوجود والحق بالعمل المستقل والتواضع الجم في التعامل المتبادل في ما بين قوى هذا التيار وسعيها للتقارب في ما بينها.
** الاعتراف بأن الانفراد لا يساعدها على تحقيق نتائج إيجابية بل يشتت قوى التيار وأصواتها ويباعد بينها ويضعف تدريجاً حماس العاملين والناخبين.
** أهمية وضرورة الإدراك بأن الفرقة تضعف الجميع والتجمع يعزز الجميع ويساعدها على تشكيل فريق عمل يعتد به ويسمع رأيه ويحقق للناس مكاسب مطلوبة.
إذ اتفقنا على ذلك عندها نحتاج ثانياً إلى عدة مسائل أخرى:
1 . تعبئة كل قوى التيار الديمقراطي للعمل في صفوف الشعب, وخاصة تلك الفئات الاجتماعية التي تسعى قوى التيار الدفاع عن مصالحها وإرادتها وحقوقها, وهي فئات واسعة وكثيرة في المجتمع العراقي ببنيته الاجتماعية الراهنة. إذ أن علاقة هذه القوى بالشعب ضعيفة وتأثيرها على فئاته المختلفة معطلة إلى حدود بعيدة. وخلال العقود المنصرمة حلت قوى أخرى محلها لا يمكن إزاحتها إلا بالعمل الدءوب والكفاح من أجل كسب ثقة هؤلاء الناس.
2 . الإدراك بأهمية دور المرأة في المجتمع ومعاناتها اليومية وكذا الشباب, وبالتالي ضرورة التوجه صوبهم والسعي لتأمين تأييدهم من خلال نشاطات وفعاليات وأعمال تضامن في ما بين فئات المجتمع.
3 . عقد ندوة مشتركة لمناقشة نظام عمل وبرنامج نضالي سلمي وديمقراطي خلال السنوات الأربع القادمة يطرح منذ الآن وليس قبل الانتخابات بفترة قصيرة بحيث لا يصل إلى عيون وأسماع الناخبات والناخبين إلا في فترة متأخرة جداً.
4 . العمل المسؤول والموضوعي, سواء أكان في المجلس النيابي أو من خارجه, كمعارضة وطنية ديمقراطية تزن الأمور بمنظار مصالح المجتمع وسيادة الوطن واستقلاله وإنهاء وجود القوات الأجنبية وفق الاتفاقيات المعقودة, إضافة إلى مساندة كل جهد يبذل من أجل إنهاء وجود ونشاط قوى الإرهاب.
5 . الاتفاق على أن نجاح أي مرشح في الانتخابات القادمة من أي فصيل في التيار الديمقراطي يعتبر مكسباً للجميع, وبالتالي إبداء المرونة والاستعداد للقبول بمختلف المرشحين وبشكل موضوعي من أجل إنجاحه في دائرته الانتخابية وليس التنافس معه بحيث تضيع أصوات ناخبي هذه الكتلة أو تلك في التيار. ولا بأس في اختيار عناصر ديمقراطية مستقلة, سواء أكانوا من بين المثقفين أو الكسبة والحرفيين أو العمال, لكي يصبحوا مرشحين لكل قوى التيار حين تكون لهذه الشخصيات سمعتها الطيبة ومقبولة من الأوساط الشعبية ويقدر نجاحها.
6 . ومن النافع حقاً أن تبذل الجهود للحصول على إمكانية فتح قناة فضائية تعمل لصالح كل قوى التيار الديمقراطي وتقاد من هيئة تنتخب أو يجري اختيارها من قوى التيار, إذ أن هذا التيار هو بحاجة ماسة إلى صوت إعلامي يجسد رؤية قوى التيار لمستقبل العراق ويمكن وصوله إلى الكثير من الناس في الداخل والخارج.
لا شك أن وعي دروس التجربة شيء والتعلم منها وممارستها شيء آخر. ولكن لا بد من النضال من أجل أن يلتقيا الوعي والممارسة ليحققا ما هو منشود, إذ لا طريق آخر غير هذا الطريق من أجل أن يُسمع صوت التيار الديمقراطي وأن يساهم في رسم سياسة البلاد وتحقيق مصالح الشعب واحترام أرادته. ولا بد أن تتحرك قواعد قوى التيار الديمقراطي والمؤيدين لها ومن يريد أن يراها في المجلس النيابي أو أن تشارك في الحكم لصالح الشعب, أن يلعب دوره في الضغط على كل قيادات قوى التيار لدراسة التجربة وتعميم دروسها بكل وضوح ومسؤولية وبعيداً عن التبرير بأي شكل كان, فالتبرير لن يسهم في الاستفادة من دروس التجارب المنصرمة.
16/4/2010 كاظم حبيب
نشر في جريدة المدى البغدادية: العدد (1774) الاثنين 19/04/2010