هل نتحاور كأشقاء أم نستمر في الصراع كغرماء ؟
وأنا أتابع هذه الأيام تزاحم الأحداث السياسية على الساحة القومية في خضم الصراع المؤسف الدائر بين أحزاب وممثلي شعبنا المسيحي، والمحاولات المستميتة المبذولة من قبل البعض منذ سنوات لتهميش شريحة واسعة من أبناء هذا الشعب العريق بغية سلب كامل حقوقه الشرعية وإستحقاقاته الدستورية بكافة السبل وشتى الوسائل إضافة إلى تسخير إمكانيات مالية هائلة لإبعاده عن المسرح السياسي ثم الإستحواذ على مقدراته بحجة العمل على وحدة شعبنا ، تعود بي الذاكرة إلى عقود مضت ، الى تلك الأعوام القلائل المليئة بالأحداث والتي حكم فيها العراق الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم ، ذلك القائد النزيه ، والإنسان المتواضع الأمين المخلص لمبادئه الأصيلة التي حملها معه منذ إستلامه مقاليد الحكم وحتى الساعات الأخيرة من حياته . كان كتلة متجانسة من الوفاء والتسامح والعطاء المتدفق لسعادة ورفاهية أبناء العراق وفي شرايينه كانت تجري مشاعرالخير لوطنه ومصلحة شعبه ، ومع نبضات قلبه الكبيركانت تنساب ينابيع المحبة والخير للعراقيين كافة دون تمييز وتفضيل ، بينما كانت أفكاره مثقلة بمسؤوليات جسام وهموم ومعاناة المواطن العادي حيث كان يتابع كل صغيرة وكبيرة حتى وهوعلى سريره البسيط في غرفته داخل وزارة الدفاع . في مخيلة ذلك الزعيم الوطني الغيور تراكمت أحلام غير منظورة ضمن خارطة الوطن لإحداث نقلة نوعية كبيرة لتطور ورفاه المجتمع والإرتقاء بالعراق إقتصادياً وصناعياً وعلمياً وزراعياً وثقافياً الى مصاف الدول المتقدمة ، فأصدر الكثير من القوانين الإصلاحية والتشريعات الجريئة في فترة وجيزة ووضع خططاً لمشاريع إستراتيجية عملاقة لتنفيذ تلك الطموحات المشروعة التي لم تتح له الأحداث الدموية المتعاقبة التي واجهته والعراقيل التي وُضعت في طريقه من تنفيذ معظمها ، ولم يفسح أعدائه المجال لتلك الأمنيات أن ترى النور. كان يبدو لبعض الكبار كعزف منفرد نشاز ضمن سمفونية متناسقة جميلة تعزف ألحاناً كلاسيكية . لذا بدأت تُقرع نواقيس الخطر مُعلنة دخول زائرغير مُرحب به في المنطقة المحرمة وأُطلقت صافرات الإنذار وهي تُحذر من إختراق الخطوط الحمراء والأجواء الأمنة ، فصدرت التعليمات الى الَّذين تعهدوا بمهمة تقطيع تلك الأوتار الأصيلة وإسقاط ذلك الطيرالذي بدأ يغرد خارج السرب ، ليستمتع الحاضرون بمتابعة الحفل الموسيقي المُنَسَق البهيج . فإنطلقت أبواق الدعايات الأجيرة ودارت ماكنة الحملات الإعلامية المظلِلة التي شرعت بتنفيذ حلقات ذلك المسلسل الذي بدأ هجومه بالتشكيك بهويته الوطنية وأهدافه والطعن بتاريخ حياته ونزاهته والإستخفاف بسياسته وطموحاته . فأطلقواعليه شتى الإشاعات المغرضة والنعوت الوضيعة : " الإنفصالي ، المنشق ، قاسم العراق ، عدو الوحدة ، مفرق الصفوف ، وإنتقادات ظالمة وإتهامات باطلة ما أنزل الله بها من سلطان ، لانه لم ينفذ مطاليبهم ويعلن الوحدة الفورية مع " الشقيقة الكبرى مصر" في أوضاع إستثنائية وظروف غير مستقرة وقبل التأكد من أهدافها الحقيقية وحسن نوايا المطالبين بها ومصلحة الشعب فيها ، إضافة الى عدم ظهور أي تقبل في الشارع العراقي أو تجاوب لدى المواطن العادي لطريقة طرح تلك الأفكارالوحدوية وأساليب تطبيقها . ثم أثبتت التجارب والأيام بعدها بأن ذلك القائد كان على صواب في موقفه وحكيماً في قراراته ، وأنه كان ينظر الى المستقبل بمنظارأوسع من أصحاب المبادئ القومية المتصلبة ، دعاة الوحدة الفورية غير المتوازنة والمشيدة على أسس هشة . فقال عبارته الساخرة ": نحن نؤمن بأننا جزءاً من الأمة العربية ، ولكننا جزءُ من كل ولسنا جزءاً من جزءٍ". وتعاقبت بعدها أحداث فشل كل تجارب الوحدة وما أعقبها من ردود أفعال ومواقف سياسية سلبية على تلك الدعوات التي ما زالت أثارها ونتائجها باقية لحد اليوم لتثبت وضوح الرؤية لدى ذلك القائد الشجاع الذي لو... كُتِب له البقاء في الحكم لفترة طويلة كغيره ، لما عانى الشعب من المأسي والويلات والحروب ، ولما قُتل وشُرد وهُجّرالملايين ، ولما أُستُبيحت حدود العراق ونُهبت خيراته وحتى أثاره ، ولما أُغتُصبت أرضه ومياهه وسُرقت ثرواته وأُحرقت مؤسساته ، ولما إجتاحته موجات التطرف المذهبي والإصطفاف القومي ولما عُرض الوطن للمقايضة في دكاكين السياسة , ولكان موقعه في الصدارة بين الكبار لما يمتلكه من ثروات هائلة وموارد طبيعة غزيرة وسياحة متنوعة وذكاء موروث ، والعراقي بوضع أخر يُحسد عليه ويتمناه الغير.وأنا أستعيد تلك الذكريات كفلم سينمائي وثائقي قديم ، تترأى لي صورة الزعيم المتفائلة بخطبه الإرتجالية وحركاته العفوية التي كانت توحي للمقابل بعمق تعلقه بشعبه ووفائه لمبادئه وتسامحه حتى مع أعدائه . لذا لا يمكن الظن أن قائداً بتلك الاخلاق الإنسانية الراقية كان مسؤولاً عن الدماء البريئة التي سالت في قصر الرحاب عام (1958) إنطلاقاً من مبادئه الرفيعة ومقولته الشهيرة التي كان يؤمن بها ورددها وهو على فراش المعالجة في المشفى بعد محاولة إغتياله في شارع الرشيد : (عفى الله عما سلف) ، ذلك المبدأ الرباني الذي إستخدمه أعداؤه في إعادة تنظيم صفوفهم ورفع شعارات مبطنة وإتباع أساليب خبيثة لتنفيذ مخططاتهم الماكرة لعزله عن المنظمات والقيادات المساندة له والمدافعة عنه بإستغلال طيبته وتسامحه. فتمكنوا أخيراً بقوة عسكرية محدودة وبضعة ضباط من الجيش بقيادة من تأمر عليه وعفى عنه، وبالخداع والتمويه من إختراق دفاعاته البشرية لذبح ثورة 14 تموز الفتية وإسقاط حكمه الوطني بأحداث مأساوية ستبقى في ذاكرة الشعب العراقي لعشرات لا بل لمئات السنين .
وما أشبه اليوم بالأمس ، يبدو أن البعض من أشقائنا الذين يعملون بدوام كامل وساعات إضافية بإصرار غريب وحماس منقطع النظير ، أخذوا يتصفحون أوراق تلك الفصول المطوية بألم ، من تاريخ العراق الحديث ، فإستنبطوا منها فقط تلك الإتهامات الجاهزة لينعتوا بها الكلداني بأنه "غير وحدوي ، منشق ، مُفرّق الصفوف وليس (أمثنايا) " . ولكن يبدوا أنهم لم يكملو قراءة تلك الميلودراما التاريخية والتمعن بتفاصيل أحداثها ومتابعة النهاية المحزنة والمشهد المبكي الأخير ليقتبسوا العبر ويتعضوا من ذلك الدرس البليغ الذي دفع وما زال يدفع الشعب العراقي ثمنه باهضاً من دماء أبنائه وخيرات وطنه . ففي الوقت الذي نعلن فيه عن قناعتنا المطلقة بأن الأشوريين والكلدانيين والسريان هم أشقاء وبقايا شعوب تلك الإمبراطورات العظيمة التي تعاقبت في أزمنتها وإختلفت في تحالفاتها وإحتدمت مع بعضها في صراعات لقرون طويلة ، مما أدى الى سقوط الأولى على يد الثانية ، نؤكد بأننا اليوم شعبٌ واحدٌ يجمعه الواقع الحالي والرؤية المشتركة والمصير الواحد ، ولكن ليس مقبولاً من أجل تمرير تلك الأجندات السياسية وخدمة بعض المأرب الشخصية ، أن نكون جزءأً مهمشاً من جزءٍ دون إرادتنا ومصلحة شعبنا ونوقع على بياض في إختيار مستقبلنا ونساوم بحفنة دولارات من إجل إنكار قوميتنا .
ومع إحترامي وتقديري لكافة ممثلي شعبنا ، فليسمحوا لي بطرح السؤال التالي على بساط النقاش المثمر والنقد البناء من أجل توضيح الموقف وتصحيح المسيرة : من خول أي من قادة شعبنا ليكون وصياً على شقيقه الكلداني في تقرير مصيره ورسم مستقبله دون إرادته ورغم أنف كافة أحزابه السياسية ومؤسساته الثقافية ومنظماته الإجتماعية ومراجعه الدينية ، ويفرض عليه بالإكراه تسمية فيها مخالِفة لرأيه ولكافة المواثيق والإتفاقيات الدولية التي تمنح الأقليات حق تقرير مصيرها وإختيار رموزها وممثليها بإرادتها دون تدخل أو فرض وصايا عليها من غيرأبنائها . تلك النصوص التي تؤكد أيضاً على حريتها بالتمسك بهويتها والإعتداد بقوميتها والمحافظة على خصوصيتها . إن إسلوب بعض المسؤولين من أبناء شعبنا والذين يرفعون شعار المصير المشترك وينادون بوحدتنا ويدعون الكلدان الى التكاتف والتعاون الأخوي ، يشبه مع إحترامي لهم ، إسلوب الذي يقول لشقيقه بسخرية وهو يحاول الإستيلاء على الميراث الكامل لوالديهما : نحن اليوم على أرض الواقع إثنان ، ولكن... أنا أنا... وأنت أنا ، ولا فرق بيننا لأنك أنا ، لك الحرية المطلقة وكل الحقوق في إختيار مستقبلك ، ولكن أنا سأقرر مصيرك بدلاً عنك لأن ماضيك في الحقيقة وهمُ وخيال وحاضرك بالنسبة لي محض سراب ، ولا وجود لك بغير تسميتي وخارج وصايتي . أي حكم عادل هذا وقضاء ؟ ومن أي شريعة أو سلطة وقوانين أُستُنبطت هذه الصلاحيات ؟
ومن أجل تثبيت الحقائق لابد هنا من تذكير بعض أشقائنا ، بأن الكلدان هم أول الداعين إلى توحيد كلمة شعبنا حتى النخاع ، ولكن وحدة لا تُبنى على إنكار تاريخ وحضارة وأمجاد شعبهم ولا تُشيّد على حساب تشتيتهم وسلب قوميتهم , بل يجب أن يسود بين الطرفين مبدأ المساواة في الحقوق والإعتراف بالأخر من قبل الذي بدأ الصعود الى القمة ومن المتسلق الجديد الذي يلحق به بهمة عالية ليدعمه ويؤازره وهو يتطلع الى المستقبل دون الإلتفات الى الماضي بكل سلبياته ومأسيه .
وبالرغم من كل ما حدث ويحدث أيها الأشقاء ، فليس أمامنا اليوم غيرالتلاحم المصيري لتوحيد موقفنا وتحديد مستقبلنا للخروج من عنق الزجاجة الذي يحتضر فيه شعبنا منذ سنين والوقوف بوجه زحف تلك القوى الظلامية التي تخطط منذ زمن لإستئصال ما تبقى من أبناء شعبنا الذين ما برحوا يتراجعون منذ قرون وعقود الى الحافات الاخيرة من وطنهم . وبعد صفاء القلوب وإستقرار النفوس ونكران الذات، ينبغي على كافة الأطراف الدخول في حوارهادئ مخلص بنّاء تحت خيمة واحدة أعمدتها ثابتة لا تهزها التقلبات السياسية المتوقعة ولا تنال منها عواصف الأحداث المفاجئة لرسم خطوط عريضة لجمع شملنا وتوحيد كلمتنا وإختيار بحرية أهدافنا ومستقبلنا لما فيه خير شعبنا ، وليس عن طريق إجراء مناورات في الخفاء للتأثيرعلى مجلس النواب في بغداد لإقصاء الكلدان من الدستور المركزي بعد نجاح عملية الإلتفاف عليهم في دستورإقليم كردستان ، ولا بإستمرار الحملات الإعلامية ضد كل من يرفع راية قوميته الكلدانية ويدافع عن كنيسته المضطهدة المحاصرة ومحاربة كل من يرفض السير في ركاب من يعتقد بأنه يمتلك المفاتيح السحرية الى الفردوس الموعود . وأذّكر البعض بعبارة ناقدة لفيلسوف شهير حين قال :" من وضع المال تحت قدميه رفعه ، ومن توُّجهُ فوق رأسه خذله ".