Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

هل يمكن الجمع بين احترام الكرامة والضمير والترحم على نظام الاستبداد والعهر الصدامي؟

الفهرست
** المدخل 1
** الاعتقال والتحقيق والتعذيب والمحاكمة 3
** التحقيق والمحاكمة 5
** في زنزانات الإعدام 8
** قرار العفو والإفراج والهروب 10

** المدخل
في زيارتي الأخيرة إلى استراليا أجرى الصحفي الديمقراطي الأستاذ غسان مخول من إذاعة SBS الاسترالية لقاءً إذاعياً معي طرح فيه مجموعة من الأسئلة المهمة والراهنية حول العراق وأحوال أهله ومستقبله الديمقراطي وبضمنها السؤال التالي: يقال أن هناك من يترحم على نظام صدام حسين وهو يعيش في ظل الأوضاع الراهنة في العراق, فما رأيك؟
نعم, ربما هناك من يترحم على نظام صدام حسين الدكتاتوري الدموي, بل وربما هناك من يترحم على النظام الملكي. ولكن كل الموقفين خاطئ جداً وخطير في آن واحد ويعبران عن ثلاثة احتمالات:
1 . إما عن كون هؤلاء من جلاوزة وأتباع النظامين المقبورين؛
2 . أو أنهم لم يعرفوا العراق وأهله وما جرى فيه من كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية وإنسانية عامة وشاملة؛
3 . أو أنهم قصيرو الذاكرة ونسوا طبيعة هذين النظامين الفكرية والسياسية.
فالنظام الملكي هو الذي أسس لما نشأ بعد ذلك من استبداد وقسوة وخراب في العراق حين شوه في التطبيق العملي واليومي الدستور العراقي الديمقراطي لعام 1925 وزور بفظاظة ووقاحة الانتخابات العامة ورهن العراق بسياسة بريطانيا ومصالحها وأحلافها العسكرية واستغل الشعب لصالح فئات الإقطاعيين وكبار الملاكين والكومبرادور المحلي وضد مصالح الفلاحين والعمال والكسبة والحرفيين والمثقفين وأصدر القوانين الرجعية المخالفة لروح ونص الدستور العراقي ولائحة حقوق الإنسان الدولية التي وقع عليها العراق بل وساهم في وضعها في العام 1948, كما أصدر المراسيم الاستبدادية في العام 1954/1955 بما في ذلك إسقاط الجنسية العراقية عن مجموعة من المناضلين الديمقراطيين الأحرار.
كما أن هؤلاء الذين يترحمون على حكم حزب البعث والدكتاتور صدام حسين ينسون الكوارث المأساوية البشعة التي ارتكبها نظام الجريمة الصدامي خلال 35 عاماً من تاريخ العراق الحديث, ينسون حروبه الداخلية والخارجية المدمرة للعراق وعلاقاته الإقليمية والدولية وعمليات الأنفال العنصرية والإجرامية في كردستان العراق وضرب الشعب الكردي بالسلاح الكيمياوي في حلبچة وبادينان وغيرها وتجفيف الأهوار وتشريد سكانها وترحيل الكرد الفيلية والعرب الشيعة من الوسط والجنوب بتهمة التبعية لإيران, ينسون هؤلاء ما فعله نظام المقابر الجماعية المنتشرة في سائر أنحاء العراق والتي ازداد عددها عن 300 مقبرة مكتشفة إلى الآن ثم الضربات القاسية التي وجهها لقوى الانتفاضة الشعبية في العام 1991 والتي تجلت في الزحف المليوني لشعب كردستان نحو تركيا وإيران أو الهروب إلى السعودية من منتفضي جنوب ووسط العراق, ينسون عواقب سياساته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية المدمرة, ينسون قرار تصفية السجون العراقية الذي اتخذه النظام في العام 1984 وإعدام ما يقرب من 5000 إنسان عراقي خلال أسبوع واحد فقط, ينسون سياساته التي تسببت في فرض الحصار الاقتصادي الدولي على العراق والخراب الاقتصادي والجوع والحرمان والموت والتهجير والتشريد والتعريب القسري, ينسون إن ضحايا النظام بمختلف السبل يزيد عن 1,5 مليون إنسان منذ وصول البعث للمرة الثانية إلى الحكم في العام 1968, دع عنك جرائمه البشعة جداً والفاشية في القفز الأول على الحكم والإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم, وأخيراً وليس أخراً ينسون هؤلاء عدد المهاجرين والمهجرين قسراً من العراق في فترة الحكم الصدامي والذي بلغ إلى ما يقرب من أربعة ملايين إنسان.
لا يمكن أن يترحم الإنسان العاقل القادر على التفكير السوي على نظام صدام حسين, إلا أولئك الذين فقدوا القدرة على التفكير السليم, رغم أن ما يجري في العراق اليوم يعتبر واحدة من المآسي الكبيرة والجديدة التي حلت بالعراق بعد سقوط الدكتاتورية على أيدي قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية في ربيع العام 2003, إذ أقامت على أنقاض ذلك النظام الهمجي نظام المحاصة الطائفية والتمييز الديني والطائفي وثقافة القسوة والمحرمات. وتم التراجع الشديد عن مبدأ المواطنة العراقية لصالح الهويات الفرعية القاتلة, التي تساهم اليوم في تمزيق النسيج الوطني للمجتمع العراقي. وهي حصيلة منطقية لسياسات النظام السابقة وتركة ثقيلة من تركاته الكثيرة الضاغطة على, والتي لا تزال فاعلة في, المجتمع العراقي. إن إدانة ما يجري اليوم في العراق, وخاصة دور القوى الظلامية في فرض المزيد من المحرمات على المجتمع ومصادرة حقوق الإنسان وحرياته العامة لا تسمح لنا أن نترحم على نظام كان رأسه مسؤول عن عصابة مجرمة ومافيا قذرة دمرت البلاد وقتلت الكثير من الناس الأبرياء ودفعت بالبلاد إلى ثقافة العنف والقسوة والتمييز والعنصرية والطائفية وتعميق واشتداد ظاهرة ازدواج الشخصية لدى الفرد العراقي. ومع ذلك فأن الأجواء السائدة في العراق حالياً واستكلاب القوى الظلامية ضد الثقافة الديمقراطية والفنون والتراث الشعبي العراقي كالموسيقى والغناء والرقص والرسم والنحت والتمثيل ...الخ, يمكن أن تجعل جمهرة من الناس ممن لم يكن يعمل في السياسة أن يرى بأن أوضاع العراق الراهنة هي اسوأ من فترة حكم البعث وهم يشيرون إلى أن فترة النظام البعثي كنا نعرف أن قوى الأمن وأجهزته الأخرى هي التي تعتقل وتغيب أو تقتل, فهي جهة واحدة, ولكننا اليوم لا نستطيع أن نعرف ونحن من هو القاتل, فالجهات عديدة, منهم قوى الأرهاب المتطرفة, ومنها الميليشيات الطائفية المسلحة, سنية كانت أم شيعية, ومنهم قوى البعث التدميرية, وكذلك المجرمون السائبون, إضافة إلى البعض ممن يعمل ضمن العملية السياسية ولكن لديه ذراع تمارس مهمة القتل ويحتمي بغطاء العملية السياسية.
إن رفض ما يجري اليوم في العراق من تجاوز فظ ومرير ومدمر على الحريات العامة وحقوق الإنسان وحقوق المواطنة الحرة, وما يفرض على المجتمع من طائفية مقيتة ومحرمات قاتلة, وما يطبق من إساءات وقحة على ثقافتنا الوطنية والديمقراطية, وأن النضال ضد هذه السياسات والعمل من أجل وضع العراق على طريق الحرية والديمقراطية والدولة المدنية, لا يتطلب بأي حال الترحم على نظام فاشي أصفر مثل نظام صدام حسين, إذ هو الآخر مسؤول تماماً عما يجري اليوم في العراق.
ومع ذلك ولكي نقطع الطريق على أي تفكير سقيم بالترحم على نظام دموي واستبدادي صدامي مقيت, سأورد هنا مضمون لقاءٍ أجريته مع أحد مناضلي الحزب الشيوعي العراقي المقيم حالياً في ميلبورن والذي اعتقل في العام 1983 بذريعة "الهروب من الجيش والتعاون مع المخربين والتحريض على الهروب منه والإساءة للسلطة" وحكم عليه من المحكمة المركزية الخاصة لمحاكمة العسكريين بالإعدام رمياً بالرصاص في 14 تموز 1984, ثم صدر العفو العام عنه وعن 109 أخرين, في حين أعدم 5000 سجين سياسي وغير سياسي في العام 1984 تحت شعار "تصفية السجون العراقية" التي كانت قد امتلأت ولم يعد فيها مكان للمحكومين الجدد بالإعدام حينذاك. وهذه الحالة وحدها تكفي للبرهنة على طبيعة نظام البعث وأهمية الخلاص منه ومن رأسه المستبد بأمره صدام حسين وليس الترحم عليه وعلى نظامه. إن ما جرى في العراق أبشع بكثير من هذه الجرائم, فجرائم الأنفال التي قتل وغيب فيها أكثر من 182 ألف إنسان في إقليم كردستان العراق وحدها تكفي للبرهنة على عنصرية وفاشية وهمجية النظام الصدامي, على الجرائم التي ارتكبها ضد الإنسانية, وتكفي لا لعدم الترحم عليه, بل وإنزال ألاف وملايين اللعنات عليه وعلى من تسبب في وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في العراق.
** الاعتقال والتحقيق والتعذيب والمحاكمة
تبدأ قصة المناضل الشيوعي كفاح صليوة بيتون (أبو جيفارا), من مواليد 1960 ببغداد, بعد عودته من حركه الانصار والتحاقه بدائرة التجنيد بأربيل بعد صدور قرار العفو عن الهاربين من الخدمة العسكرية وبناء على اتفاق مع المسؤول الحزبي لقاطع أربيل في حركة الأنصار الشيوعيين حينذاك, حيث كان كفاح نصيراً, الرفيق ثابت حبيب العاني (أبو حسان).
أرسل من قبل مديرية التجنيد إلى القطعات العسكرية العراقية في قلعة دزه لكونه مسجلاً ضمن تجنيد أربيل. ولكن لم يمض أكثر من شهر واحد على التحاقه حتى اعتقل من قبل جهاز الاستخبارات للفرقه الرابعه والعشرين في قلعه دزه وأرسل إلى استخبارات المنظومه الشماليه في كركوك ومنها إلى الشعبة الخامسة ببغداد للتحقيق معه. وكان يطلق على هذه الشعبة حينذاك بـ "الحوتة", إذ كان من يدخلها لا يخرج منها سالماً. يقول المناضل أبو جيفارا ما يلي:
"نقلت ومعي ثمانية أشخاص في حافلة صغيرة يطلق عليها بـالكوستر, (وهي نصف منشأة تستوعب حوالي 15 شخصاً, والمنشأة تعني حافلة كبيرة تستوعب 30 شخصاً أو أكثر), إلى بغداد وقد غطيت عيوننا بقطة قماش سوداء كما قيدت أيدينا إلى الخلف. وصلنا إلى وزارة الدفاع وبقينا في معتقلها ثلاثة أيام, حيث نقلنا بعدها بسيارة أشبه بناقلة قمامة حيث كبست علينا من الأعلى, وبعد فترة قصيرة نقلنا إلى عربة أخرى كانت تدور وتقذف بنا من جهة إلى أخرى كما تفعل خباطة الإسمنت. ثم أخيراً وضعنا في سيارة أخرى مكتوب عليها "مرطبات" نقلتنا, كما علمنا فيما بعد, إلى الشعبة الخامسة حيث جرى توزيعنا على قسمين, قسم خاص بالمعتقلين المدنيين, وقسم آخر مخصص بالمعتقلين العسكريين.
حال وصولنا إلى الشعبة الخاصة خلعت عنا ملابسنا وأصبحنا عراة تماماً عدا القيود التي على ايدينا والأقنعة التي كانت تمنع النور والنظر عن عيوننا حيث بدأت جولة من الضرب المبرح بالصوندات والركلات والكفخات والصفعات من جانب حرس المعتقل, إذ لم نكن نعرف كيف يمكن التخلص من تلك الضربات ولا ندري من أين تأتينا ونحن لا نبصر شيئاً سوى الظلام. لقد كانت جولة مريعة تركت ألاما مبرحة والكثير من الرضوض والجروح في الجسم وفي النفس معاً. ويبدو أن البعض منا قد سال الدم من رأسه بسبب تلك الضربات القاسية والحقد الأعمى الذي حرك الجلادين القساة بأمر من سيدهم الدكتاتور الأهوج صدام حسين. بعد أن تعبوا من ضربنا, سلموا بعضنا ما يستر أجسامنا وبطانية واحدة ودفعونا إلى الزنزانات. البعض منا كان بالالبسه الداخليه والبعض الآخر كان عارياً تماماً.
لم تفتح عيوني إلا بعد أن إدخلت إلى زنزانة مظلمة قدرت مساحتها بحدود 1,5 مترX 1,5 متر تقريباً, وهي من الحديد الأملس وعالية السقف, وفيها فتحة لدخول الهواء دون دخول أشعة الشمس أو النور ولا يوجد فيها مصباح كهربائي. ويبدو أن عددنا أصبح ثمانية أشخاص حتى بعد توزيعنا, إذ كان بعض المعتقلين موجوداً قبل ذاك في الزنزانة. لم يكن في مقدورنا النوم على الأرض وبطولنا, بل كنا نتبادل الجلوس والنهوض أو رفع الساقين ووضعها على اكتاف الآخرين حيث نتبادل المواقع كل ساعة. كان الحرس يقدم لنا وجبتين من الطعام يومياً, كل وجبة مكونة من صمونة واحدة صغيرة ومتخشبة وكوب صغير من الرز وقطعة جبن كرافت وكأس واحد من الماء لكل ممعتقل, وهي بمثابة الفطور ووجبة الغداء معاً, ثم كانت حصة كل منا في العشاء صمونة صغيرة واحدة ومتخشبة أيضاً وصحن صغير فيه شوربة عدس, وكأساً واحداً من الماء.
كان الخروج إلى المرافق الصحية مرتين في اليوم يعتبر عملية تعذيب مريرة إضافية, إذ كان لا يحق لكل شخص أن يبقى فيها فترة تزيد على العد من 1 إلى 5 من قبل الحراس, وأحياناً من 1 إلى 10 حين يكون مزاج الحراس طبيعياً! وحين لا يخرج المعتقل خلال هذه الفترة القصيرة, يدخل عليه الحراس مستخدمين الصوندات والكفخات والركلات ويتم سحبه سحباً. وكان بعضهم ما زال لم يستكمل تغوطه. كان الضرب والشتائم والبصاق هي التقاليد اليومية المرافقة للخروج النهاري. ولم يكن الخروج المسائي بأفضل منه وأحياناً أكثر قسوة. لقد كان الخروج للبول والتغوط بمثابة عملية تعذيب شرسة ومرعبة. كانت توجد في الزنزانة تنكة لأغراض التبول وكان البعض يجبر على التغوط فيها, وكانت الروائح الكريهة والنتنة تمنع عنا النوم أحياناً غير قليلة.
كان الشك وعدم الثقة هما السمتان الغالبتان على العلاقة بين المعتقلين في هذه الزنازين, إذ لم يكن بعضنا يعرف البعض الآخر, خاصة وأن الإدارة كانت قد اعتادت أن ترسل بعض العيون إلى هذه الزنزانات في محاولة منها للحصول على معلومات يمكن أن يتحدث بها المعتقلون وتفيد المحققين. كان الحديث نادراً في ما بين المعتقلين, إلا حين يتعرف البعض على البعض الآخر ويثق به تماماً, إذ عندها يبدأ الهمس الليلي أو النهاري. كان الظلام دامساً فيها لا يمكن لبعضنا أن يرى بوضوح البعض الآخر, فالزنزانة ليل دائم لا يعرف الإنسان ليله من نهاره حتى حين يخرج إلى المرافق الصحية وعيونه مشدودة بقناع أسود أو بكيس أسود. كان هذا الجو القاتم يلحق أضراراً فادحة بأوضاع المعتقلين النفسية والحسية.
كان التحقيق يتم بالنسبة لبعض المعتقلين مرتين في اليوم الواحد, وأحياناً مرة واحدة كل شهر, ولا يعرف الإنسان أسباب ذلك. وكان البعض يعود إلينا بعد التحقيق والبعض الآخر لا يعود ولا نعرف ما حصل له. وحين يعود يتآكلنا الشك حول موقفه, هل من مهمة أسندت إليه للتجسس على الآخرين؟ هل صان أسراره أم اعترف على أصحابه, اياً كانت الجماعة التي ينتمي إليها؟ وكان حين يخرج البعض منا, يجلبون آخرين إلى زنزانتنا, وكذا الحال مع الزنزانات الأخرى. كان البعض يعود وقد جرى تعذيبه بشراسة مرعبة, حتى أن أحدهم كان قد أحرق جسمه بالكامل تقريباً من خلال إطفاء السجائر المشتعلة في كل بقعة من جسمه. كان يئن طوال الليل من شدة الألم, وكان البعض يعاني من تقيح في تلك البقع المحترقة ولم نكن قادرين على مساعدته, ولم يجلبوا لأي من مرضانا طبيب معالج.
** التحقيق والمحاكمة
جرى استدعائي لأول مرة للتحقيق. كانت عيناي مشدودتان بقناع أسود ويداي مقيدتان إلى الخلف. ثم جرى ربط أسلاك كهربائية بأذنَّي ومعصمَّيَ وقدمَّي وبخصيتي. ثم بدأ الاستجواب وقوفاً:
- أين كنت حين هربت من الخدمة العسكرية؟
- كنت هارباً وأعيش في قرية في كردستان.
- ما اسم هذه القرية؟
- آلانه.
- ألم تكن خارج العراق؟
- لا, لم أكن خارج العراق.
- على من تعرفت وأنت خارج العراق.
- لم أغادر العراق.
- من تعرف من سكان القرية
- لا اعرف غير الذين هم من الهاربين من العسكرية, لا يستخدمون اسماؤهم الفعلية وأسم المختار الذي كان متداولاً في القرية .
لاحظ المحقق أني أحاول أن أنظر من تحت العصابة إليه, فجائتني لطمة قوية وصفعة أخرى مفاجئة وقاسية جداً على وجهي من شخص كان مع المحقق, وكان كما يبدو يقف بجواري دون أن استطيع رؤيته, كما بدا من جهة الضربة, سقطت من جراء ذلك على الأرض وكانت يداي مشدودتان إلى الخلف ولم يكن بمقدوري النهوض, فانهضوني جرَّاً. سألني المحقق: هل كنت تريد أن ترى صورتي يا أبن ...؟ هل رأيتها؟ هل تريد ان تنتقم مني بعد ذلك يا ...؟ وما أن انتهى من شتائمه البذيئة حتى أذهلتني صعقة كهربائية جديدة هزت كل كياني وافقدتني توازني وأسقطتني أرضاً.
جروني جراً للنهوض من الأرض. تكررت الأسئلة. سؤلت عن المناضل الشيوعي حنا عزيز, وهو قريب لعائلتنا, فقلت لا أعرفه, وكان علي أن أقول أني أعرفه لأنهم ربما يعرفون بأنه قريب لي وأرادوا امتحان موقفي العام من الإجابة عن أسئلتهم. هزتني صعقة كهربائية مفاجئة جديدة وهدت كل كياني واسقطتني أرضاً مرة أخرى. ثم أوقفوني ثانية. وعادوا إلى السؤال وكان الجواب مماثلاً للمرة الأولى فجاءت صعقة كهربائية ثالثة. كانت هذه الصعقات الكهربائية تأكيداً بأنهم كانوا يعرفون وجود قرابة بين عائلتي وعائلة الشهيد حنا عزيز. وتكرر الضرب والركل والشتم بقسوة بالغة. ثم أعادوني إلى الزنزانة ثانية بعد أن أصبحت لا أقوى على الوقوف.
خلال وجودي ستة شهور في هذه الزنزانة المعتمة تكرر استدعائي للتحقيق مرة أخرى فقط. لم أسؤل عما إذا كنت شيوعياً أم لا طيلة وجودي في المعتقل, ولكن سؤلت عما إذا كنت مع المخربين أم لا, وكانوا يقصدون بذلك قوى البيشمركة الكردستانية. كان الإنكار مرافقاً لإجاباتي على امتداد التحقيقين. علمت فيما بعد أنهم كانوا يحققون مع آخرين ويسألون عني. كان بعضهم يعرفني ولكن دون أن يعرف هويتي السياسية أو وجودي في حركة الأنصار أو عضويتي في الحزب الشيوعي العراقي.
خلال الأشهر الستة التي قضيتها في هذه الزنزانة وقبل أن أساق إلى المحاكمة, فقدت حقاً إحاسيسي الإنسانية, فقدت الإحساس بالليل والنهار, لم عد اعرف الأيام وتاريخها وتوقف الخيال عن العمل, وحين يأتي معتقل جديد يعلمنا باليوم والتاريخ, ولكن سرعان ما أنسى وينسى الآخرون ذلك لاستمرار الظلام والعتمة الأبدية, والخشية من الاستدعاء والتعذيب. لم أعد قادراً على رؤية أي شيء داخل الزنزانة, كنت أتناول ما يأتون به من طعام دون أن أحس بأي طعم فعلي لطعام أدمي. بدأت أشعر بتناقص وزني وتردي مناعتي وقدرتي على التفكير المركز والهادئ, كنت أحس بالدوار أحياناً بسبب التعرق المستمر وتراجع مقدار الملح في الجسم وقلة الماء الذي اتناوله ويتناوله الآخرون. كان القلق والعذاب النفسي يوحدني مع الآخرين, إذ لا يعرف الإنسان متى سوف يساق إلى المحاكمة لينتهي من هذا العذاب اليومي في هذه الزنزانة الحديدية المعتمة. كان التفكير بالأهل يعذبني لأني كنت أشعر بعذابهم. سعوا لمعرفة مكان اعتقالي, توسطوا لإطلاق سراحي, هذا ما عرفت به حين أنكرت معرفتي بأحد المتوسطين لمعرفة مكان وجودي وما إذا كنت لا أزال على قيد الحياة. لم أكن أعرف الوسيط حقاً, وكان العقاب صعقة كهربائية قاسية وطويلة افقدتني صوابي. كان الوسيط عميداً في القوات المسلحة العراقية وصلت إليه عائلتي عبر معرفة سابقة به. كنا نتعذب يومياً حين يعود إلينا أحد الممعتقلين وهو غارق بدمائه بسبب التعذيب الهمجي الذي تعرض له, نشعر بذلك من خلال صراخه والدماء التي كانت تسيل منه على الأرض ومن دبك جسده. كنا نعتقد بأنه لن يستطيع البقاء ليلة واحدة أخرى على قيد الحياة بسبب ما كان يعانيه. لقد كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. كنا نتعذب معه. ولكن هكذا هو الإنسان, كان يبرهن باستمرار بأنه قادر على تحمل كل ذلك العذاب الذي ينزله به الجلادون القساة بأرادة البقاء على قيد الحياة وكسر شوكة الجلادين ودحرهم. لقد ترك التعذيب النفسي والجسدي جراحاً عميقة في نفسي ولا شك في نفوس جميع الذين تعرضوا للتعذيب النفسي والجسدي. لا أزال أعيش عواقب تلك الفترة في حياتي اليومية الراهنة رغم مرور أكثر من 26 عاماً على ما تعرضت له من عذاب مرير على أيدي أشرار البعثيين وعصابات الأمن العراقي. أحيانا توقظني زوجتي وهي تسمع صراخي ليلاً أو أستيقض بعد أن أكون قد عشت كابوساً ثقيلاً في تلك الزنزانة أو في زنزانة الإعدام. أعيش حياة السجن كثيراً وأشعر بالقهر كلما أسمع بتعرض سجناء إلى التعذيب, أياً كان ذلك الإنسان, فالتعذيب الجسدي والنفسي جريمة كبرى لا تغتفر, لإنها تحط من كرامة الإنسان وتصيبه بأمراض كثيرة نفسبة وجسدية. رغم مرور 26 عاماً لم استطع حتى الآن هضم ما تعرضت له وتعرض له الآخرون من المعتقلين ويسبب لي الأرق والأحلام الكابوسية.
بعد مرور ستة شهور على وجودي في زنزانات الشعبة الخامسة التي كانت تجسد الجحيم بعينه, قدمت إلى المحاكمة ونقلت مع أخرين في عربة إلى محكمة الثورة. كنت فرحاً بخروجي من تلك الزنزانة, حيث رفعت عن عيوننا داخل معتقل المحكمة تلك الأقنعة أو الأكياس السوداء. سألني أحد المعتقلين عن سبب فرحي أو سروري ونحن في معتقل المحكمة. قلت له ألا ترى الشمس والنور؟ ألا تحس بهما؟ ألا تعيش الفرق بين الزنزانة وهواؤها الفاسد والنتن, وبين هذا الهواء النقي الذي نتنفسه؟ لقد حرمنا من ذلك طيلة الفترة المنصرمة وأنا سعيد بهذه الشمس المشرقة التي تعيد لنا الأمل بالحياة وهذا الهواء النقي ولو لفترة قصيرة, إنها الحياة ذاتها. هذا هو سبب فرحتي وسروري, رغم كل الآلام والعذابات التي عشناها معاً في هذا المعقتل الجهنمي الذي كان يراد منه إذلال كرامتنا كبشر وإسقاطنا كسياسيين مناضلين في سبيل حياة أفضل ومستقبل أكثر إشراقاً لشعبنا الجريح.
في المحكمة سؤلت عن أسمي ومكان ولادتي وأسباب اعتقالي, ذكرت لهم اسمي ومكان ولادتي وقلت بأن المحققين يقولون بأني "هارب من الجيش وحرضت آخرين على الهروب منه والتعاون مع المخربين والإساءة للسلطة". فقال الحاكم: تدعي أيها الكلب أنهم يقولون ذلك, ولا تريد أن تقول أنهم قالوا الحقيقة في ما كنت تقوم به وأنت هارب من الخدمة العسكرية. أرفق ذلك بكمية كبيرة من الشتائم التي تنسجم مع طبيعة هؤلاء الأوباش القساة. بعدها قرر عواد البندر, الحاكم بأمر سيده, أحالتي إلى المحكمة المركزية الخاصة, وهي محكمة شكلت لمحاكمة العسكريين, ومنهم الهاربون من الخدمة العسكرية, وكنت أحد المتهمين بذلك.
نقلت إلى المحكمة الأخرى في نفس اليوم. كان الحكام هذه المرة يرتدون الزي العسكري. كان ذلك في الرابع عشر من تموز 1984 يوم ذكرى ثورة تموز 1958, حيث وجهت لي ذات الأسئلة وذات التهم بعد أن طلب مني رئيس المحكمة الوقوف واحترام المحكمة, بعدها قرأ قرار الحكم القاضي بإعدامي رمياً بالرصاص على وفق المادة الأولى فقرة أ, ب وج. على أن ينفذ حكم الإعدام بعد المصادقة عليه بمرسوم جمهوري. لم تستغرق المحاكمة الشكلية حقاً والمعدة سلفاً سوى دقائق معدودات, كان الحكام قبل ذاك قد أصدروا حكمين بالإعدام رمياً بالرصاص على شخصين آخرين أيضاً وجهت اليهم نفس تهمتي وهما كل من عبد الرحمن محمد امين پيشمرگه من الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) من أهالي كركوك, وحسن علي حسن من أهالي بغداد, كما جرى بعد صدور الحكم عليَّ بالإعدام, إصدار مجموعة كبيرة أخرى من أحكام الإعدام على آخرين من الأشخاص ولأسباب كثيرة كلها لا تبرر إصدار مثل هذه الأحكام الشائنة ولا حتى الاعتقال.

** في زنزانات الإعدام
بعد صدور حكم الإعدام على عدد كبير من الذين كانوا معي نقلنا مباشرة إلى سجن رقم 1 , ولكن بعد يومين نقلت بمفردي إلى سجن الاستخبارات العسكرية في قلعة دزه في إقليم كردستان, ثم حولت إلى سجن خاص يضم المحكومين بالإعدام في كويسنجق. وبعد عدة أيام نقلت إلى سجن أبو غريب ببغداد وكانت عيناي طيلة فترة النقل مشدودتين بقطعة قماش سوداء. حال وصولي إلى هذا السجن خلعت كل ملابسي وأعطوني سروالاً وقميصاً خاكيين ووضعت في المحجر. وجدت في هذا السجن ثلاثة أنواع من الزنزانات يطلق عليها بالخاص والانفرادي والمحجر. وهي على العموم غرف صغيرة متلاصقة وعلى طابقين, حشرت في محجر مع 13 آخرين من المحكومين بالإعدام. كان جميع من معي في المعتقل من العراقيين المسلمين وكنت المسيحي الوحيد بينهم, ولكنهم كما يبدو كانوا من اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة. كان بعضهم من حزب الدعوة الإسلامية. بذل هذا البعض منذ البدء محاولات من أجل أن استبدل ديني بالدين الإسلامي. كانت المحاولات في البداية هادئة وتوضيحية. إلا أن رفضي ذلك بكل أدب, دفع هذا البعض إلى تطويقي وتهديدي! قلت لهم أنا محكوم بالإعدام مثلكم وليس هناك أكثر من حكم الإعداك فعلام هذا التهديد. ثم لا يمكنكم دخول الجنة بتحويلي إلى الإسلام بالقوة. لقد كانوا يعتقدون بأن إقناعي بالانتقال إلى الدين الإسلامي سيمنحهم ثواباً يلجون بموجبه جنات النعيم والتمتع بحور العين بعد إعدامهم. ولكنهم تراجعوا بعد أن أدركوا بأني شيوعي ومسيحي ولن أغير ديني, ولكنهم واصلوا سياسة العزل. كانت الزنزانات جحيماً, وكان هؤلاء بسلوكهم يزيدون من جحيم الزنزانة.
إذا كان هذا سلوك هؤلاء الناس من قوى الإسلام السياسي وهم في زنزانات الإعدام وفي طريقهم إلى الموت, فكيف الأمر معهم وهم على قيد الحياة أو في السلطة, لك قارئ وقارئة أن يتصور ذلك. وما يجري اليوم في العراق يعبر بوضوح عن هذه الحالة المريرة.
كان جلاوزة النظام من الحرس, وهم لا يختلفون أبداً عن الحرس القومي لعام 1963, يأتون في فترات مختلفة إلى زنازيننا ليبلغوا بعضنا بوقت الإعدام. كان ابو وداد, الجلاد والمسؤول عن تنفيذ أحكام الإعدام شنقاً, يتلمس ويمسد رقاب السجناء ويبشرهم بقسوة الإعدام. كان بعض السجناء يطلب تسريع أمر إعدامه للخلاص من واقعه الراهن ويطلب منه الاتصال بأهله للحصول على مال لقاء تلك "الخدمة" بتقريب وقت إعدامه! كان "أبو وداد" يقوم فعلاً بالاتصال بالعوائل ويلتهم منهم مبلغاً كبيراً من خلال إقناع تلك العائلات بأنه سيرحم ابناؤهم باستخدام حبال أرق بحيث لا يعاني الضحية الآم الإعدام شنقاً بالحبال الخشنة, أو أنه سيحاول إلغاء حكم الإعدام عنهم, علماً بانه لا يستطيع بأي حال التحكم بإلغء أو إبقاء حكم الإعدام أو بموعد تنفيذه.
** في ساحة تنفيذ أحكام الإعدام في بسماية
في يوم عيد الضحى المصادف 4/9/1984 دخلت علينا مجموعة من الجلادين مصحوبة بمدير السجن. أوعد المدير السجناء بمكرمة كبيرة من "السيد الرئيس صدام حسين حفظه الله ورعاه!" وأن مجموعة ستأتي لتبشرهم بذلك الخبر الطيب. جاءت المجموعة فعلاً مصحوبة بضوضاء وحركة دائبة وطلبوا منا النهوض والاستماع للمكرمة: قرأ أحد المسؤولين أسماء كثيرة, كان ترتيب اسمي الثاني. وصل عددنا إلى 50 محكوماً بالإعدام. شدوا وثاقنا وعيوننا وطلبوا منا الحركة عبر خطين من حراس السجن. طلبوا خفض رؤوسنا وكأنهم أنزلونا إلى سجن مظلم جداً. لا نعرف إلى أين, ولا ما هي المكرمة التي يراد منحنا إياها. كنت وغيري من المحكومين بالأعدام بين مصدق ومكذب لما يجري, هل سيغيرون أحكام الإعدام إلى المؤبد, هل سيطلقون سراحنا بعفو عام, أم أنهم ينظمون لنا حفلة قتل جماعية؟ كان المعتاد في تنفيذ أحكام الإعدام أنهم يأخذوا شخصاً واحداً كل مرة, وليس بهذه الصورة الجديدة. كنا في حيرة من أمرنا والقلق ينهشنا.
كانت هناك مجموعة كبيرة من الحرس الجمهوري وهي تصرخ بنا وتطلب منا الركض من جهة, وعدم النظر يمنة أو يسرة من جهة اخرى. كان البعض يسقط على الأرض, وكان يسحب من شعره أو من قميصه ليقف على قدميه ثانية ويهرول مع الآخرين.
وصلنا إلى فضاء مفتوح, شعرنا بذلك من خلال الهواء النقي الذي بدأنا نتنفسه. ركبنا المنشآت, اي حافلات النقل. وهنا وضعوا على رؤوسنا أكياساً سوداء تصل إلى حدود أكتافنا, وبعضهم كما بدا بقي دون كيس بل بقطعة سوداء غطت عينه, كما كان الحال معي.
سارت بنا الحافلات ونحن لا نعرف وجهتها, ولكن وبعد فترة من السير سمعنا اصوات طائرات سمتية تحلق فوق الحافلات وكذلك مطرسكلات (دراجات بخارية) تسير أمام وبجوار الحافلات. كنت في المنشأة (الحافلة) الثانية وهي تحمل خمسين سجيناً, كانت أجسادنا متلاصقة جداً, ولكن كانت هناك حافلات أخرى تحمل أعداداً مماثلة. وصلنا إلى السجن رقم 1 في معسكر الرشيد. وبدا لنا وكأن الوقت كان بعد منتصف الليل. بقينا في زنزاناتنا حتى الصباح الباكر. وصلت حافلة مدنية, صعدنا فيها وأيدينا مشدودة إلى الوراء وكذا عيوننا. منع الحديث أو الهمس بشكل تام, فأي كلمة من أي منا تكون حصته ضربة من أخمص بندقية في موقع ما من جسده. عرفنا بعد ذلك أن الوجهة كانت صوب ميدان الرماية في (بسماية) على طريق الكوت. عرفنا عندها أن المكرمة الرئاسية الصدامية هي تنفيذ حكم الإعدام فينا! توقفت الحافلات المدنية أمام السدة حيث بلغ عددها وفق أحاديث الحراس في ما بينهم خمس. كل منها يحمل خمسين سجيناً محكوماً بالإعدام تقريباً. كما وصلت شاحنات مليئة بالأعمدة الخشبية التي غرست بالأرض حيث عرفنا من خلال قراءة الأسماء أن عدد ما غرس منها بلغ 25 عموداً.
كانت هناك حمايات في كل المنطقة وكانت الطائرات السمتية تحلق فوق رؤوسنا وفي سماء المنطقة. بدا لنا أن بعض المحكومين قد اغمي عليه, والبعض الأخر بدأ بالبكاء والصراخ والعويل, والبعض الآخر كان يصلي ويطلب المغفرة, في حين رفض البعض الأخر شد عينية وطالب برفع القناع عن عينيه حين تنفيذ حكم الإعدام به. لقد شعر الإنسان بهستيريا فعلية شملت ساحة الإعدام, حيث تراوح العدد كما ظهر من قراءة الأسماء فيما بعد بين 250 -300 سجيناً لتنفيذ الأحكام بهم.
وقف أحد الجلادين وطالب بالهدوء والصمت, ثم بدأ بقراءة الأسماء. قرأ 25 أسماً, لم اكن بينهم. شدوهم إلى الأعمدة المثبتتة على الأرض. عليكم أن تتصورا العذابات النفسية للمحكوم بالإعدام وهو يتابع هذه العملية رغم الغطاء الموجود على عينيه.
بعدها تقدمت مفرزة إعدام يتقدمهم ضابط عسكري. تقدمت المفرزة على شكل ثلاث مجموعات كل مجموعة مكونة من 25 جندياً مقابل 25 سجيناً محكوماً بالإعدام.
أعطى الضابط الإيعاز بصوت مرتفع. إن كنت حاضراً على هدفك .. أرمي!
تم إرسال أول عشر طلقات صوب الضحايا المشدودين إلى الأعمدة. انسحبت لتتقدم المفرزة الثانية. أعطي الإيعاز الثاني بدفعة جديدة, فأرسلت صوب اجساد الضحايا عشر طلقات أخرى, ثم انسحبت إلى الخلف لتتقدم المفرزة الثالثة. أعطي الإيعاز الثالث بإرسال عشر طلقات أخرى صوب أجساد الضحايا التي نخرت أجسامهم بتلك الرصاصات. ساد بعدها صمت مطبق. انقطع بنداء أطلقه الضابط المسؤول عن تنفيذ أحكام الإعدام طالباً تقدم الكادر الطبي لفحص الضحايا وتحديد من مات منهم ومن لا يزال على قيد الحياة لينهوا حياته بـ"طلقة الرحمة!".
فحص الفريق الطبي الضحايا برفقة الحراس الذين صوبوا نيرانهم إلى رأس هذه الضحية أو تلك ممن كان لا يزال بهذا القدر أو ذاك على قيد الحياة.
ثم تقدم أحد شيوخ الدين وبدأ بقراءة الفاتحة على روح الموتى واحداً واحدا. أوقفه الضابط وصرخ بأن ليس لدينا الوقت الكافي وطلب منه قراءة فاتحة جماعية واحدة على أرواح هؤلاء المجرمين الخونة!
بعد ذلك نادى الضابط على فصيل نقل القتلى لنقلهم إلى مجمدات جُلبت إلى موقع الأعدام. تقدم فصيل النقل بنقالاته (سديات) صوب الأعمدة وحل وثاق الشهداء ثم وضعت جثامينهم على النقالات وقذفت وتاحداً بعد الآخر بخشونة إلى داخل المجمدات, ولكن بعضها كا يسقط في المجمدات وبعضها الآخر على الأرض, لييحمل ويقذف من جديد في المجمدات. كانوا يتعاملون مع الضحايا وكأنهم قمامة لا غير!
بعد لعلعة الرصاصات الأولى من مفرزة الرمي الأولى, سمع أهل القرية المجاورة ذلك فخرجوا من بيوتهم رجالاً ونساءً وأطفالاً ليستطلعوا أمر ما يحصل قرب دورهم. إلا أن الحماية قد تحركت صوبهم وكذا الطائرات السمتية التي أجبرت الأهالي بالعودة إلى منازلهم وغلق أبوابهم.
ثم بدأت قراءة اسماء الوجبة الثانية لتحرم عيون الضحايا من النور والرؤية إلى الأبد وترسل بهم إلى المقابر الجماعية.
لم يقرأ اسمي واسم معتقل تبين انه كردي. وفي المحصلة تبين وجود سبعة أشخاص لم تكن اسماؤهم ضمن هذه الوجبات: 2 من الكرد, و 2 من الكلدان, و3 من العرب الشيعة.
تم تنفيذ حكم الإعدام بذات الطريقة بالوجبة الجديدة في حين أعادونا نحن السبعة إلى سجن رقم (1). قيل لنا في طريق النقل بأن من يتحدث بما رأى وما سمع سيقتل فوراً وعلينا الصمت المطبق, ثم أضاف الحراس: لم يحالفكم الحظ بالموت هذه المرة ولكن سيأتيكم الموت قطعاً وليس الأمر بعيداً!!
استمرت هذه العملية سبعة أيام أخرى, إنها ايام عجاف مليئة بالقهر والمرارة والعذابات. وصل عدد المقرر إعدامهم كل يوم إلى أكثر من 300 شخص. وكنت أرسل مع كل الوجبات الأخرى وكذلك السبعة الآخرين. وكان كل مرة يزداد عدد من لم تكن اسماؤهم ضمن قرار تنفيذ الأحكام. وبالمحصلة النهائية أصبح عدد من لم ينفذ بهم حكم الإعدام في نهاية الأيام السبعة 110 محكوماً بالإعدام. أما من نفذ فيه حكم الإعدام فقد بلغ وفق تقديرات من بقي على قيد الحياة بحدود 5000 شخص, والبعض كان يشير إلى أكثر من 3000 شخص. لقد برز اختلاف بين قوائم السجن المعدة للإعدام وبين القوائم التي كان يأتي بها الضباط من الحرس الجمهوريو وهو المسؤول عن تنفيذ أحكام الإعدام. لقد كنا نموت يومياً خلال الأيام السبعة المنصرمة, كنا نتوقع موتنا في كل لحظة, ثم يعاد بنا إلى زنازيننا بانتظار اليوم الثاني لينفذ فينا حكم الإعدام. وهكذا حتى بعد إعادتنا إلى الزنازين وانتهاء حفلات القتل الجماعية لم نكن نعرف ما سيجري لنا لاحقاً.
كان الحراس يتحدثون أمامنا قائلين بأن الشعب العراقي يبلغ اليوم 18 مليون نسمة, فلا مانع من قتل 10 ملايين من الخونة, إذ يكفي العراق أن يبقى فيه من المخلصين 8 ملايين نسمة!!
** قرار العفو والإفراج والهروب
حين أصبحنا 110 سجيناً فقط, أصبح السجن فارغاً تماماً, ولكنه كان ينتظر الجديد ممن يحكم عليه بالموت في ظل النظام الصدامي حينذاك.
بقينا على هذه الحالة أسبوعاً كاملاً بعد تنفيذ عمليات الإعدام دون أن يحصل شيء لنا ويتآكلنا القلق المرير. بعدها نقلونا إلى سجن آخر وكلنا ينتظر الموت في كل لحظة. كان البعض منا يبكي والبعض الآخر يضحك .. سيطرت البلاهة على البعض منا, فهو بين مصدق باحتمال النجاة من الموت, وبين رؤية قريبة لجنود يحولون جسده إلى منخل (غربال) بزخات من الرصاص القاتل.
بعد عشرة ايام من نقلنا إلى سجن آخر حدثت ضجة كبيرة داخل السجن, كعادة هؤلاء القتلة الأوباش, حيث فتح الباب الرئيسي لزنزاناتنا فتهيأنا للموت. كان سجن رقم 2.
صرخ مدير السجن بصوت مرتفع, غاضب ومغموم : اسمعوا .. صدر بحقكم مرسوم جمهوري, إذ قرر مجلس قيادة الثورة أعفاء الأشخاص المدرجة اسماؤهم من حكم الإعدام وتسفيرهم إلى منازلهم أو وحداتهم العسكرية.. قرأ الأسماء, وكان اسمي من بينها. كانت المفاجأة كبيرة لنا جميعاً, فمن زنزانة الموت إلى الحياة من جديد!
صرخ مدير السجن مجدداً: لماذا لا تصفقون أيها ..., لماذا لا تهتفون بحياة القائد والقيادة التي عفت عنكم ومنحتكم الحياة التي لا تستحقونها من جديد.. رغم هذه الشتائم البذيئة من مدير السجن الجلاد, بدأ الضحك والبكاء في آن واحد. ولكن لم تحصل هتافات.. لم نصدق الموقف .. وفي اليوم التالي سفرت إلى وحدتي العسكرية السابقة بمعية الحرس إلى قلعة دزه في كردستان. كما سفر الآخرون كل حسب وضعه.
حين وصلت إلى الوحدة بمعية الحرس العسكري, فوجئ أحد الضباط بمجيئي وظهرت على وجهه علامات الاستفهام والاستغراب والاندهاش ثم قال .. لكم هذا كفاح .. كيف جئت ثانية, لقد وصلنا كتاب رسمي يوم أمس يعلن بأن حكم الإعدام قد نفذ فيك! رد الحرس المرافق لي قائلاً بأن قرارا صدر عن مجلس قيادة الثورة يقضي بإطلاق سراحه.
ورغم ذلك وضعت في السجن العسكري في قلعة دزه ثانية. تم الاتصال بوزارة الدفاع ببغداد مستفسرين عن صحة القرار, فأبلغوا بصحة قرار العفو وإطلاق سراح كفاح صليوة بيتون. عندذاك قال لي ضابط الأمن بان علَّي "أن أخرج حالاً وأذهب لصنع قلادة ذهبية تحمل صورة القائد صدام حسين وأضعها في عنقي طوال حياتي"!!! ولم افعل ذلك طبعاً. وأدركت عندها بأني سوف لن أتخلص من مطاردات الأمن العسكري والحزبي في الجيش, وربما الموت أيضاً.
خرجت من السجن وعدت إلى وحدتي العسكرية. ولكن قررت بعد شهر واحد الهروب من الجيش وكانت رغبتي الالتحاق بقوات الأنصار الشيوعيين. لم يكن بمقدوري تنفيذ هذه الرغبة بسبب الأجواء المتوترة التي كانت تسود العلاقات بين الاحزاب الكرديه حينذاك والتي كانت قد تفاقمت في أعقاب أحداث بشت آشان 1983.
لقد تم إعدام المئات والآلاف من الناس الأبرياء بهذه الطريقة الوحشية, فهل يمكن لمن يتعرف على مثل هذه الحالات أن يترحم على نظام فاشي همجي مجرم مثل نظام البعث الصدامي. نعم ممكن, ولكن لا بد أن يكون من يترحم عليه من ذات الطينة والطبيعة الصدامية.

كاظم حبيب
ملبورن/استراليا في 8/12/2010
Opinions