هل يوجه "الشرق" مرة اخرى غضب فشله نحو مسيحييه؟
يأتي هذا الكتاب في وقت تردنا اخبار وصوَر مختلفة حول التهديدات والمخاطر التي يعاني منها مسيحيو باكستان، دولة المطهرين، على ايدي المتحمسين لأسامة بن لادن والباحثين عن مذنبين يتهمونهم بتحمل أسباب فشل الإسلامية السياسية في ابادة الغرب الكافر: فشلها في ما يتجاوز قتل المسلمين أنفسهم وتعريضهم للموت الدائم. وعجزها عن النظر الى واقع الحياة الصعبة التي يعيشها اليوم معظم الشعوب الاسلامية بسبب تخلفها عن التطور الاقتصادي والفكري والسياسي، رغم ان غالبيتها تمتلك العناصر الضرورية لمسايرة هذا التطور. فأن يكون الذنب ذنب الآخر، فهذا أبسط ما يمكن الالتلجاء اليه في تفسير هزيمة الذات. وان يعتبر البعض ان عمليات 11 ايلول (سبتمبر) في نيويورك وواشنطن والتأثيرات النفسية والانسانية والاقتصادية والسياسية لها ولمادة الانتراكس السامة هزيمة للغرب، لا يعني غير العجز عن فهم الغرب وما هو قادر عليه اذا ما تعرض امنه للخطر. فما حدث ويحدث هو هزة للعالم العربي من دون شك، لكنه قبل كل شيء هزيمة للشرق الاسلاموي ومعه الشرق العربي والاسلامي. ولا بد لهذا الشرق من ان يدفع ثمن هذه الهزة. ومن الذي يدفعه غير ضعفاء الناس وعلى رأس هذه القائمة الاقليات المسيحية التي تعيش في البقاع المختلفة من العالم الاسلامي. يأتي الكتاب بعد عشرين عاما من الاسفار المختلفة الى الشرق، يهدف تعريف القارئ الغربي بما وراء البحر المتوسط من اناس تعلقوا، مثله، بتعاليم المسيحية ومعتقداتها. وهو يصبو الى أن يأخذ قارئه في رحلة عبر الكلمات الى العراق وتركيا وسورية ولبنان وفلسطين، بما فيها القدس، والاردن وشبه الجزيرة العربية ومصر والسودان وايران، وليس عبر وسائل النقل كما اعتاد المؤلف بصحبة اصدقائه الشرقيين، مستفيداً من رفقتهم، أو وحيدا متحملا اخطارا لا يمكن اهمالها حين يسافر الغريب في اماكن نائية.ولا يتردد كلود لوريو، وهو المسؤول عن قسم الشرق الاوسط في احدى اهم الصحف الفرنسية، "لو فيغارو" في التركيز على ان جذور المسيحية الداخلة في حياة الغربي تأتي من الشرق، خاصة وثيقة الايمان التي كتبت في عام 325 لتصبح النص الاساسي لهذه الديانة. ويرى ان كل معالجة فكرية للمسيحية تبقى مضطربة ان لم تأخذ بنظر الاعتبار هذه الجذور الشرقية، رغم القراءات والتغييرات المتعددة والمختلفة التي عرفتها المسيحية في ما بعد، وعلى امتداد ما يقرب من ستة عشر قرنا. ويطرح الكتاب مرة اخرى السؤال القديم حول مصير مسيحيي الشرق ومخاطر اختفائهم تماما من الارض التي انجبتهم قبل ولادة الاسلام. فثمة حروب وهجرات واسلاموية سياسية لا يجد المسيحي نفسه فيها لكنه، في حالات كثيرة، منخرط فيها رغما عن ارادته. فدوافع هذه الحروب ليست دوافعه والمستفيدون منها ليسوا من ابنائه في اغلب الاحيان او كلها.
فهناك اليوم عشرة ملايين منهم يعيشون اليوم كلاجئين او كمواطنين في البلدان الغربية. غالبيتهم استقرت في اوطانها الجديدة وقطعت جسور العودة الى الشرق. ولا يستثنى من عملية الهجرة النهائية غير جزء من اللبنانيين الذين بدأوا بالعودة الى وطنهم منذ عودة السلام اليه. لكن لبنان ليس العراق او السودان مثلا، فهو البلد التعددي في الماضي القريب والبعيد، بواقعه ورزمه ما لا يوجد في البلدان الاخرى.
كذلك لم يعد هناك سريان ارثوذكس في الاناضول الشرقية اذ قرروا، منذ زمن، اختيار الاوطان الصغيرة التي تبنيها لهم الدول الاسكندينافية. هكذا تراهم يرجحونها، كجيرانهم المسلمين، على منابع دجلة والفرات حيث عاشوا وعاش اباؤهم الأقدمون والأقربون. وهم يشبهون في ذلك الكلدانيين في العراق الهاربين من حروب صدام اكثر من آثار الحصار المفروض على البلد. ولا يزيد عدد المسيحيين المقيمين حتى الآن في البلدان العربية وتركيا وايران عن ثلاثة عشر مليون فرد. ويذكر بعض الباحثين ان عدد الفارين والمهاجرين منهم وصل الى حد التعادل مع عدد الباقين، خاصة بالنسبة الى الارمن والكلدان والسريان ومسيحيي اسرائيل. فكل جماعة منهم تترك ارضها وتتوجه الى الغرب المسيحي حاملة معها احلاما لعبت الظروف كثيرا في تضحيمها وتعميقها. واذا بها تكتشف هناك مسيحيين مختلفين، على رغم كونهم يؤمنون بالغله نفسه والكتاب عينه. وتكتشف ايضا ان الجماعات المسيحية التي قدمت من الشرق تختلف ايضا في ما بينها، وربما الى درجة كبيرة. وعندها تصطدم الاحلام بمضايقات الواقع. وهو اصطدام رغم انه يبقى بلا شك اقل من المعاناة في الشرق الاسلامي، يبقى مراً وصعباً، كما ينطوي على جملة من خيبات الأمل. هكذا تنغلق الجماعات على ذاتها لتحاول من جديد اعادة بناء بعض ما فقدته من روابط وأواصل. ولا يجتث من خيوطها الا مَن اختار العيش خارج الصلات العرقية او الدينية دون محاربتها او انكارها. فهم يدخلون الى العالم من باب التبادل والتعايش في المجتمعات المستقبلة وينصهرون فيها.
ولا ينسى المؤلف ان يذكر الكثير من الحوادث التي تبين حسن العلاقة بين العديد من المسلمين والمسيحيين. من ذلك ما رواه له احد الموثوقين بهم عن الرئيس السوري حافظ الاسد، قوله حين جاءه كمال جنبلاط وطلب منه خمسة آلاف محارب ليقضي على المسيحيين تماما: "فتحت الجرار حيث كان مسدسي وكدت اقتله". ايا كانت صحة هذه الرواية التي يدافع عنها المؤلف بحرارة دون ان يهمل الاشارة الى ما عاناه المسيحيون من عنف السياسة السورية تجاههم، فان المؤلف يؤكد على ان الشرق ليس خاليا من المتعاطفين مع معاناة المسيحيين الذين بدونهم يفقد العالم الاسلامي جزءا من روحه وهويته ولن يعوضه بشيء آخر.