وكانت الرحلة الأبدية لأبن القوش نوئيل قيا بلّو
habeebtomi@yahoo.noاجل ان نوئيل قيا بلو بعد تقاعده رحل بعيداً عن القوش التي احبها وولد فيها وتربى ودرس وتزوج وتوظف وكتب عنها وعن كل تفاصيلها الحياتية والثقافية والتاريخية دون كلل . المربي الفاضل نوئيل قيا بلو امضى زهاء 30 سنة من عمره في مهنة التعليم وتخرج على يديه اجيال فيهم المعلم والمهندس والطبيب والفنان والأديب .. لقد كان المعلم نوئيل محور نشاطات المدرسة منها الفنية والثقافية والمسرحية والفولكلورية .. وهو لم يقتنع في المكوث في تخوم التعليم بل توجه الى الكتابة والتأليف .
حينما نحدق في شطئان الذكريات القديمة نستشرف على جداول وغدران تنساب بين ثنايا الزمن فتجدل القصص والحكايات الدافئة عن الماضي الهادئ اللذيذ ، وفي محطة قصية من تلك الزوايا في الزمن المحدد بعام 1959 ، كانت المرحومة الوالدة قد امرتني بأن اذهب الى بيت قيا بلو لاشترك في فرحهم حيث ان ابنه الكبير نويل سوف يتزوج بعد ايام ، وحينما قلت لها ان الوقت لا زال مبكراً حيث بقي حوالي اسبوع على حفلة الزفاف ، قالت لي انهم ( بي خالوخ ) وعليك ان تكون حاضراً قبل الحفلة وبعدها ، وفعلاً اشتركت في التحضير للحفلة وكانت رقص الدبكة على ( منحلياثا) في فناء (حوش) بيتهم في محلة قاشا بجوار خالي خيرو بلّو .
كان المرحوم نوئيل قيا واحداً من عشاق القوش ، ونحن حينما نغادر القوش يكون شأننا مثل البحار الذي يشتاق لركوب البحر وحينما يبتعد المركب عن الساحل وتبدأ العملية الأزلية في رحلة الأمواج حيث المركب يتناغم معها صعوداً وهبوطاً ، ويبقى شأنها كريشة في مهب الريح يطلق البحار حكمته ليقول : آه إن الذين في الساحل لا يعرفون قيمته ، إلا حينما يركبون امواج البحر ويخوضون الصراع مع الرياح والأمواج التي تريد تمزيق الأشرعة وابتلاع المركب نحو ظلام الأعماق .
هكذا هي القوش التي غادرناها في ترحالنا في دول المهجر فالحنين والشوق الى القوش تبقى جذوته مشتعلة اينما تيمم وجهك في اصقاع الأرض . فنقول إن الذين في القوش لا يعرفون قيمتها إلا حينما يغادرونها ، إنها ببساطة تمثل الوطن ، ونحن ابنائها وأحدهم الراحل نوئيل قيا بلّو ، فإن القوش تسكن في دواخلنا ووجداننا اينما نرحل وحيثما نستقر ، إن غادرناها وابتعدنا عنها ، فإنها لا تغادرنا تبقى على وفائها ، لاتبرح مخيالنا ووجداننا فهي قد استقرت في ثنايا قلوبنا ما دامت هذه القلوب فيها نبض من الحياة .
كما قلت ان القوش إن غادرتها فهي لا تغادرك لقد بقيت القوش في كيان نوئيل قيا بلو ووجدنا في كتاباته كان يدور في فضائها الجميل ينهل من ذكرياتها دون ان تبخل عليه ، إنها معطاء ، إنها تكتب عن نفسها وما عليك سوى ان تحضر ورقاً وقلماً وتخط ما تجود به ، إنها تمنحك تاريخها الجليل ، جبلها الهادئ الصامد ابد الدهر ، مروجها الخضراء ، بيادرها ، ديورها ، كنائسها ، ناسها الطيبين رجالها الأشداء ، بناتها الجميلات الرشيقات ، افراحها اتراحها ، بطولاتها ، طيبتها ..
لقد كتب المرحوم نوئيل قيا بلّو عن نفوسها ومحلاتها ومسرحها وتاريخها وعاداتها وتقاليدها وما تحتويه مكتبتي المتواضعة من كتابات المرحوم نوئيل قيا بلو فيها مقالاً عن شيرا دربان هرمز في مجلة قالا سريايا التي كانت تصدرها الجمعية الثقافية للناطقين بالسريانية من (الآثوريين والكلدان والسريان ) وذلك عام 1978 ، وكان قد كتب في نفس المجلة سنة 1977 مقالاً بالأشتراك مع غانم حنا نجار وبنيامين حداد عنوانه " الأحتفال بعيد الصليب في القوش " وكان قد صدر له عام 1988 كتاب تحت عنوان مار ميخا النوهدري ومدرسته ويقع بـ 95 صفحة من القطع المتوسط وراجعه الأستاذ بنيامين حداد .
وكان قد صدر له عام 2003 كتاب تحت عنوان حوادث مهمة في تاريخ القوش الحديث ، وكان قد راجعه وقدم له الأستاذ سالم عيسى تولا . ويكتب في هذا الكتاب عن اعتزازه اللامحدود بأبناء القوش فيكتب عن شجاعتهم ص 137 :
هكذا تكون الشجاعة وهكذا تكون التضحية وهكذا يكون الحب لألقوش شبابها يفتدونها بأرواحهم ويخاطرون بحياتهم .. ولا يبالون بالموت في سبيل صونها وحفظها وسلامتها .
بلدة تنجب مثل هؤلاء الشباب يعتمر قلوبهم كهذا الحب تستحق ان تبقى وتحيا مدى الدهور ، وفعلاً كان هذا سر بقاء القوش منذ أزمنة غابرة ..الخ
الجدير بالذكر ان هذا الكتاب كان قد طاله بعض الأنتقادات اللاذعة من بعض الأبناء الذين وردت اسماء آبائهم وأجدادهم بهذا الكتاب بصورة غير مرضية ، ومقالنا هذا ليس فيه مساحة لتقديم قراءة نقدية للكتاب او إلقاء الضوء على محتوياته .
بنظري ان اهم بحث تصدى له المرحوم نوئيل قيا بلّو كان الذي سطره بالأشتراك مع المرحوم ايليا عيسى سكماني ، إذ كتبا دراسة شيقة ومهمة حول تاريخ التعليم في القوش ونشرت الدراسة في مجلة قالا سريايا (الصوت السرياني ) والتي كما مر قبل قليل كانت تابعة للجمعية الثقافية للناطقين بالسريانية من الآثوريين والكلدان والسريان ، والدراسة هي في العددان التاسع عشر والعشرون في آب 1978 / كانون الثاني 1979 م .
يقع البحث في صفحات 34 ـ 85 من المجلة ، ويتناول الموضوع منذ تأسيس المدرسة الأولى في القوش في القرن الرابع الميلادي على يد مار ميخا النوهدري ، وجاء في الدراسة ص35 ان الأطفال كانوا يداومون في هذه المدرسة ويتلقون العلوم الدينية بصورة رئيسية ويتعلمون اللغة الكلدانيــة والطقوس الدينية ، ويمضي الكاتبان الى ان فترة طويلة بقيت دون تدوين الى القرن الخامس عشر الميلادي حيث تأسست مدرسة باسم مدرسة القوش وكان مؤسسها القس اسرائيل الألقوشي (1541 ـ 1611 ) وكانت هذه المدرسة اكثر شمولية في مناهجها وقد انجبت هذه المدرسة كما يقول الكاتبان المرحومان نوئيل قيا بلو وايليا عيسى سكماني فيكتبان :
إن هذه المدرسة انجبت عدداً من الكتبة والخطاطين الذين حافظوا على إصالة اللغة الكلدانيــــة ووضعوا فيها كتابات وإن لم تكن تمتاز بالبلاغة الكافية إلا انها ساهمت في حفظ التراث الكلداني من الضياع والأندثار .. ونمضي مع البحث حيث يتطرق الى خريجي هذه المدرسة ومؤلفاتهم ولم تتوقف مسيرة هذه المدرسة ، فيضيف الكاتبان ص37 ان مسيرة التعليم في القوش استمرت تؤدي رسالتها على خير وجه واغنت المجتمع الكلداني بإنجابها لمفكرين ومؤلفين وأدباء افاضل منهم :
القس دميانوس الراهب الألقوشي المتوفي سنة 1858 والقس ياقو يوحانا الالقوشي المتوفي في النصف الاول من القرن التاسع عشر والمطران توما اودو المتوفي عام 1918 والقس اوراها شكوانا المتوفي عام 1930والقس هرمز يوسف عبيا المتوفي عام 1965 والقس فرنسيس حداد المتوفي عام 1942والمطران يوسف بابانا المتوفي عام 1973 والخوري يوسف كادو المتوفي عام 1971 والمعلم يوسف ميخا رئيس المتوفي عام 1968 وغيرهم من المؤلفين والخطلطين والكتاب . وانتقلت الدراسة الى فترة التعليم في القوش في الفترة 1850 ـ 1900 وجاء في دراستهم ان المدرسة اتسمت عبر مسيرتها بأن تكون اللغة الكلدانيــة محور الدراسة إضافة الى تعليم اللغات العربية والفرنسية والتركية والتاريخ ومبادئ الحساب .. الخ ثم تأتي الدراسة الوافية الى المراحل الأخيرة من تأسيس المدارس والثانويات لكلا الجنسين .
كان المرحوم نوئيل قيا بلو يسعى وراء المعلومة ويبذل جهوده لكي يكون بحثه وافياً وسيبقى ما خطه قلمه جزء من تراث القوش الثقافي .
لقد فقدت ساحتنا الثقافية كاتباً وأديباً ومتمكناً من اللغة الكلدانية وصديقاً حميماً لألقوش وتراثها وتاريخها وفولكلورها .
رحم الله نوئيل قيا بلو وتعازينا القلبية لعائلته الكريمة ولكل اوجاغ بلّو الكرام .
حبيب تومي / اوسلو في 12 / 01 / 12