... و4 مليارات لمصر ومصفى لجيبوتي، اوقفوه قبل أن يبدد العراق كله!
كانت مقالتي السابقة بعنوان "مليار دولار لبناية للبرلمان يا سفلة؟" تحمل احتجاجاً وتحذيراً خطيراً عن ما تقوم به الطبقة الحاكمة في العراق من تبديد غير مفهوم وغير معقول لثرواته. وقبلها كتبت كثيراً عن "المساعدة" غير المعقولة وغير المنطقية من العراق إلى الأردن بالنفط المدعوم في الوقت الذي يطالب فيه الأردن بـ "ديون" له على العراق، وكانت "المساعدة" (أضعها بين أقواس لأنها ليست مساعدة، بل لها كل مواصفات الخاوة الإجبارية) تتزايد نوعاً وكماً (أو كان ذلك يكشف لنا تدريجياً)، ولم يكف ذلك بل تكرم المالكي بمئة ألف برميل مجاناً، عاملها رئيس وزراء الأردن ببرود واحتقار، وكأن العراق يدفع ضريبة غير كافية، فلم يتقدم حتى بكلمة "شكراً"! وبدلاً من أن يحس المالكي كأي إنسان سوي، ولا نقول كأي رئيس حكومة، ويقف عند حده في هذا الموضوع الغريب، خاصة وأن الأردن ليست الدولة الأكثر حاجة للمساعدة، ولا هي حتى دولة صديقة للعراق، بل هي مركز التآمر عليه، بدلاً من أن يقف عند حده، سارع نوري المالكي إلى الأردن ليوقع اتفاقية مشبوهة أخرى بمد أنبوب نفطي والتعهد بتجهيز الأردن بكامل حاجتها النفطية وزيادة، دون أن يتحدث عن شروط ذلك "التزويد"، والذي أجزم من خلال تعامل الحكومة الأردنية السلبي مع الهبات السابقة وفرحها بالعقد، أنه كان في منتهى الإجحاف والإبتزاز بالنسبة للعراق. وبينا في مقالة لاحقة أن التفسير الشائع من أن المالكي يريد أن لا يسقط الأردن في يد السنة المتطرفين، تفسير غير صحيح، فحملة الإبتزاز الأردني المشبوه للعراق جاءت قبل ذلك بكثير والإتفاق العام قديم، وردود فعل الأردن ليست ردود فعل دولة يتم "إنقاذها"، بل ردود فعل السيد المتفضل بقبول الخدمة التي هي امتداد للإبتزاز الأمريكي لنظام صدام حسين. لذلك بقي التعامل العراقي مع الأردن سراً مشبوهاً لا تفسير (مشرف) له.
من آخر الأخبار التي ترفع ضغط العراقي من تصرفات المالكي بثرواته خبران عن نثر "نوري الطائي" للهبات على الآخرين متمثلة بتبرعه أثناء حضوره مؤتمر منظمة التعاون الاسلامي، بإنشاء مصفى نفط في جيبوتي!(1)
حقيقة تصورت أول الأمر أن القضية نكتة أو كذبة إعلامية، لكن الحكومة لم تنكرها، فلا مناص من صدقها! المالكي عاد من المؤتمر سعيداً ليبشرنا بأن خلو بيان مؤتمر(منظمة التعاون الاسلامي) من إسم العراق دليل على "تعافي" العراق!! أبشروا يا عراقيين، فقد تبين أن التقارير عن الفقر والتخلف في كل شيء والأمراض والأيتام والأرامل وقلة المدارس، كلها غير صحيحة، فقد ثبت لحاكمنا أن بلاده قد "تعافت"، فدليله الحاسم هو خلو بيان مؤتمر منظمة التعاون الاسلامي من انتقاد حكومته، وهذا هو المهم! وبما أن العراق قد "تعافى" كما اكتشف رئيس الوزراء، فلا بأس من نثر بعض تلك "العافية" على الآخرين!
إن مقولة رئيس الوزراء تفضح طريقة تفكيره، فكل ما يهمه هو أن لا ينتقد، وعندها فـ "العراق معافى" بالنسبة له، مهما كان الخراب ينخر عظامه، وحتى لو قالت الإحصاءات أن شعبه من أتعس شعوب العالم(2)، وقدمت الأمهات أولادهن للبيع أو للتبني بسبب شدة الفقر(3)! صحيح أن خصوم المالكي برهنوا أنه لا يهمهم تدمير العراق إن كان ذلك يهيئ لهم فرصة للحكم، لكن إلى أي مدى يختلف المالكي عنهم في ذلك، وأين قدم اية تضحية أو اهتمام حقيقي أو أولوية تبين ذلك الإختلاف؟ متى فضل أن يبني المدارس مثلاً على استضافة مؤتمر قمة يتبختر فيه بين التافهين من عملاء الخليج، أو يوزع الهبات للمتملقين كشيخ عشيرة؟
لاضير لذلك من بناء مصافي للآخرين، حتى لو كتب الوزير السابق عصام الجلبي عن الحاجة الماسة للعراق إلى المصافي، وبين أنه استورد مشتقات نفطية بثلاثين مليار دولار خلال العشر سنوات الأخيرة من الغزو الأمريكي وتسليم السطلة إلى "الحكومات الوطنية الديمقراطية"، وأن هذا المبلغ يكفي لإنشاء العديد من المصافي العملاقة في البلاد! (4)
وفي الخبر الجديد من سفير مصر بالعراق، نعلم أن "بلادنا" قد تبرعت بإيداع "4 مليارات دولار" في البنك المصري(5). وجاء في الخبر أن السفير المصرى لدى العراق شريف شاهين أكد أن السلطات العراقية تبحث إعطاء مصر وديعة تقدر بحوالى 4 مليارات دولار، توضع بالبنك المركزى، لمساندة الاقتصاد المصرى.
في العادة يذهب رئيس وزراءنا بنفسه إلى البلدان الأخرى لتوزيع كرمه على المتفضلين بقبوله، ولكن هذه المرة جاء رئيس وزراء مصر بنفسه إلينا، لذا توجب أن يصل الكرم إلى 4 مليارات دولار! صحيح أنها ليست منحة، لكنها تجميد لأموال هائلة ومخاطرة مالية مهددة بالفقدان جزئياً أو كلياً، خاصة في نظام الأزمات المالية المصطنعة الذي تشفط فيه الأنظمة المالية الأمريكية والإسرائيلية ولواحقها الغربية، ما يتراكم من إنتاج البشر كل خمسة سنين.
هشام قنديل يرى المواطن العراقي كـ "قوة شرائية كبيرة" ، "يستطيع أن يحرك السوق المصري" وهو "يحب مصر". وقام المالكي (الذي لم يتحدث رئيس حكومة بقدره عن فصل السلطة القضائية عن التنفيذية واحترامه لاستقلال القضاء) بالإفراج عن 33 مسجوناً مصرياً، (لا نعلم موضوع أحكامهم)، وتحدثا عن "المصلحة المشتركة للشعبين" وعن استثمار مصري في الكهرباء العراقية والشركات المصرية التي سوف تدخل السوق العراقى تباعا، وعن العمالة المصرية التي سوف تعود إلى العراق، بعد ضمان حقوقها وعدم تعرضها لأية مشاكل.
نعم المواطن العراقي يحب مصر، ولكن اي مصر؟ إنها مصر نجيب محفوظ والأفلام القديمة والأغاني والأناشيد الوطنية الجميلة وأفلام الكارتون المدبلجة وأغاني شيخ إمام، وليس مصر الغيلان التي أنتجها نظامي السادات ومبارك والتي شفطت دم شعبها ولا ترى في الإنسان سوى "قوة شرائية"، ولا تحسب إلا تأثيرها على السوق، من أمثال هشام قنديل! والحقيقة أن المواطن العراقي لا يثق شعرة واحدة بأن مصالحه ستؤخذ بنظر الإعتبار في أية صفقات اقتصادية تقوم بها حكومته المنتخبة مع مثل هذه الغيلان المدربة على الإمتصاص، وهو يثق أن ما سيتحقق للعراق من ذلك لن يكون أبعد من مصالح حكومته في صراع البقاء في السلطة. فمثلما لا يرى هشام قنديل المواطن العراقي إلا كـ "قوة" و "تأثيرها على السوق" فحكام العراق كما ثبت مراراً وتكراراً، لا يرون في علاقات الخارج إلا كـ "قوة" يحسبون "تأثيرها على بقائهم في السلطة"، من خلال علاقاتها، وكذلك في قدرتها على تأمين ملجأ "جيد" لها إن تطورت الأمور في البلاد بما لا يناسب بقاءها فيه! إن تعامل المالكي مع الأردن وعدم تقديمه أي تفسير لذلك التعامل المسيء للعراق إقتصادياً وحتى على مستوى سمعته وكرامته، وتجاهله لكل الأصوات الشعبية المحتجة، حتى من قبل ناخبيه ومن داخل طائفته التي يعاملها الأردن بتمييز واحتقار لا يخفيه، لا يبقي أية ثقة بأنه – المالكي - سيفعل شيئاً مختلفاً مع مصر أو جيبوتي أو أية دولة يتعامل معها. فـ "تعافي العراق" يقيسه رئيس الوزراء ليس بالأرقام التي تشير إلى وضع البلاد، بل بعدم انتقاد حكومته من قبل منظمة الدول الإسلامية! ورضا ملك الأردن ورئيس وزرائها المعروف بالفساد الشديد، هو الأهم من رضا الشعب أو الأمانة على أمواله.
في خبر قديم نسبيا (بلا مصدر محدد) حول الموضوع بعنوان معبّر: "المالكي وقنديل: بغداد تفتح خزائنها لتجنيد القاهرة ضد "عثمانية" اردوغان"(6) جاء فيه: "إن قنديل قدم طلبات مصرية من العيار الثقيل الى المالكي، فيما قدم الأخير موافقته على طبق من ذهب". وأنه "تم توقيع اتفاقية يتم بموجبها تصدير نفط خام الى مصر بمقدار 4 ملايين برميل شهريا اضافة الى كمية أخرى للمصافي المصرية لغرض التكرير." و "رفع الحظر الصحي العراقي المفروض على الأجبان المصرية، ومعالجة ملف السجناء المصريين، ودفع فوائد التعويضات المصرية، برغم ان العراق دفع 400 مليون دولار كتعويضات للمواطنين المصريين، قبيل انعقاد القمة العربية...وطالب رئيس الوزراء المصري ايضا بوديعة من البنك المركزي العراقي بمبلغ نصف مليار دولار دعما للاقتصاد المصري، على غرار ما فعلت قطر التي منحت مصر ملياري دولار، كما طالب بعودة العمالة المصرية الى العراق."
إذن النصف مليار أصبحت أربعة مليارات، فلا يجوز أن يتفوق علينا عملاء الناتو في قطر في تبديد ثروات بلادهم، اما الأربعة ملايين برميل نفط فلا أحد في العراق تحدث أو سأل عن شروطها. أكيد أن شروطها تخدم "المصلحة المشتركة للشعبين" كبقية عقود المالكي، وعلى أية حال فالأردنييون ليسوا أفضل من المصريين، ولا معنى لعقد بأسعار السوق، فهذا ما تستطيع مصر الحصول عليه بلا اتفاقات!
وبالمناسبة، لم نعلم بعد نتائج الحملة المالكية على البنك المركزي، ولم نعد نثق أنها كانت لمحاربة الفساد أم لزيادته، أو لتغيير اتجاهه فقط. فمنحى إهتمام المالكي والطبقة السياسية الكلية لا يبدو له أية علاقة بالشعب، ولا حتى بالتملق له كما يحدث في العادة خلال الإنتخابات، ويمكننا أن ننظر مستوى النجاح والفشل في المشاريع التي تهم الشعب مع تلك التي تهم أميركا وإسرائيل واللصوص المحليين. لقد كان هناك أدلة على فساد وزير الشباب ما لا يقل عن الأدلة الناصعة لإدانة المفوضية العليا للإنتخابات، فلماذا تمت مهاجمة الأخيرة ووقف نواب الإئتلاف يحمون لص الشباب بصدورهم؟ لقد هتفوا بالنصر لإنقاذه مثلما هتف اياد علاوي لإنقاذ اللص الوضيع فرج الحيدري، ومثلما هتف نواب الكرد بانتصارهم بتمرير لصوصية الـ 17% بالإبتزاز قبل بضعة سنوات على باقي العراقيين، فأين يولي العراقي وجهه بحثاً عن إنسان شريف ينتخبه؟
كتبنا كثيراً عن مدارس الطين وبيوت الصفيح وأطفال القمامة ومرضى السرطانات التي جلبها "أصدقاءنا الجدد" في العراق، لنبين كيف يعيش "العراق المتعافي" في ضل كرم حكامه الطائي، وصار تكرار ذلك عديم الجدوى ومملاً. لكن لكي يبعد الله عنا ذلك الملل، هاهي كارثة من نوع جديد تصل إلى "العراق المتعافي"، بشرنا بها رئيس الأمم المتحدة، في خبر يقول: "بان كي مون: العراق أصبح مصدرا رئيسا للعواصف الترابية في العالم بسبب بيئته المتدهورة"(7)جاء فيه "أن العراق لا يتأثر فحسب بالعواصف الترابية، بل أصبح واحدا من بلدان المصدرة لها نظرا لتعرضه لتدهور البيئة طيلة عقود عديدة"، مبينا ان "ازدياد عدد العواصف الترابية وتواترها تشكل مخاطر اقتصادية وصحية ليس في العراق فحسب، بل وللمنطقة بأسرها". وتحدث عن اقتراح لإنشاء صندوق ائتماني إقليمي يعنى بالبيئة لمعالجة مشكلة تلك العواصف، وحذر من أن العراق سيشهد في السنوات العشر المقبلة 300 عاصفة رملية سنوياً بعد أن كان عددها لا يتجاوز الـ122 سنة 2008."
يعني سيتمتع العراقي "المتعافي" بعاصفة واحدة في اليوم تقريباً، بسبب تدهور بيئته، فهل سيهتم المالكي بذلك، وهل سيجد أموالاً من أجل البيئة بعد توزيع الهبات؟ ربما بالآجل! لذلك يجب إنشاء "صندوق إئتماني إقليمي"، وأن على "العراقي المتعافي" أن ينتظر رحمة ذلك "الصندوق"، إن تم تشكيله، ولن يتم! لكن ما يهم في ذلك؟ فالحكومة العراقية لم تنتقد في مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي، وعلينا أن نفرح بذلك ونحتفل بـ "تعافينا"!
لو لاحظنا مجمل الأمور وميزنا الكلام من الفعل لوجدنا إن المالكي يتصرف وكأنه ضمن فريق مكلف بعدم السماح للعراق بأن يبني طابوقة واحدة من أجل شعبه ومستقبله، وأن يتم تبديد ثروة البلاد بنفس السرعة التي يتزايد بها استخراجه للنفط. فإن لم يكف الفساد الرهيب والتبديد والبذخ، فهناك المشاريع الخرافية مثل بناية جديدة للبرلمان بكلفة تقارب ضعف كلفة السفارة الأمريكية التي تتسع لـ 16 الف مجرم دولي من الدرجة الأولى مع كل متطلبات معيشيتهم المرفهة، أو بناء بناية جديدة لمجلس الوزراء بتصميم من مكتب زها حديد أو دار للأوبرا، أو أي شيء ليس له حاجة محسوسة أو محل من الإعراب ننافس به تافهي الإمارات! فإن لم يكف كل ذلك فيجب توزيع الأموال على من يحتاج من الدول المحيطة بالعراق والبعيدة عنه أيضاً. لكن في هذا التوزيع يجب أن يراعى بالدرجة الأولى علاقة تلك الدولة بإسرائيل. فالأردن ومصر، المستلمتان الأساسيتان للجنون الطائي العراقي، هما الدولتان العربيتان الوحيدتان اللتان يختلط اقتصادهما بالإقتصاد الإسرائيلي إلى الدرجة التي لا تستطيع أن تضع الحدود بينهما! إنك لا تجد أي تصرفات مشابهة للمالكي مع سوريا أو إيران، رغم كل الدعاية الإعلامية الإسرائيلية عن "عمالة" حكومة المالكي لإيران ودعمها لسوريا، ورغم أن مصلحة العراق المعلنة هي في التقارب مع هاتين الدولتين بالذات، وخاصة إيران، كما شهد بذلك مسؤولين عراقيين سنة، تجرأوا على كسر ذلك التابو، فتم طردهم!
لا يوجد في السياسة مجانين، ولا يوجد تفسير "عاقل" وشريف لتصرفات المالكي الإقتصادية. فحتى الفساد المفترض لا يفسرها، فهناك طرق أخرى أكثر آماناً للفساد من أن تهب حتى الدول المعادية طائفياً لناخبيك، كرماً غير مفهوم. فلماذا يضحي المالكي بسمعته حتى داخل دائرة ناخبيه؟ إنني لا أجد سوى تفسير الإجبار والإبتزاز، وأن الرجل مقاد من أنفه ليدفع أموال العراق لعملاء إسرائيل، ويضمن لهم من ناحية أخرى أن لا تبنى أية طابوقة في العراق، إلا باتجاه الإستهلاك والتفاهة.
هل يمكن أن يفعل المالكي ذلك باختياره؟ هناك أحتمال لذلك بأن المالكي يريد أن يعطي الدول التي يفترض أن لها الحظوة لدى أميركا وإسرائيل، وبالتالي التأثير على العراق، عقوداً غير طبيعية الفائدة بالنسبة لها والأذى بالنسبة للعراق، بأمل أن تدرك هذه القوى أن بقاء تلك العقود يعتمد على بقاء المالكي في السلطة، لأن أية حكومة جديدة قد تراجع تلك العقود وتلغيها كما ألغت حكومة مصر عقود الغاز لإسرائيل. وبالتالي يكون بقاء المالكي في السلطة هو الضمان بالنسبة لهم، فيكسب تأييدهم! ويجب أن تكون تلك العقود من البذخ لتنافس ما قد يأمله هؤلاء من حكومة عميلة بشكل مباشر وفاسدة بشكل كامل وصريح، مثل حكومة يؤسسها اياد علاوي، وهذه المنافسة ليست سهلة، فذاك الرجل يبقى الأكثر سفالة واستعداداً للإنبطاح وقدرة على أدائه من أي عراقي آخر، مهما كان هذا الأخير "متساهلاً" معهم. لذلك توجب على العقود أن تكون "مجنونة" في كرمها الذي لا يبرره أي قياس إقتصادي أو دافع مصلحي أو طائفي أو سياسي.
ليس أشد ما يقلقني هو هذا التصرف من المالكي، فهو يبقى رجل يمكن أن يتم إبعاده في الإنتخابات القادمة مثلا، لكن ما يقلق حقاً ويبعث على الخوف واليأس هو ذلك الصمت المخيف الذي يسيطر على الساحة السياسية والإعلامية تجاه تلك المشاريع المدمرة لإقتصاد البلاد ومستقبلها. فهنا تتغير المعارضة الشرسة التي تترقب كل زلة من الحكومة، لتصبح وديعة صامتة هادئة، وتترك المالكي يتصرف براحته وبلا إعاقة ويوقع عقوده الغريبة، ولا أحد يطالب بعرضها على البرلمان أو التحقيق في بذخها (نكرر استثناء عالية نصيف التي لا نستبعد اغتيالها قريباً إن استمرت في فضح انبطاح الساسة لدول الجوار الأمريكي المختلفة). لا العراقية تستغل الفرصة الرائعة لتبرهن الفساد ولا الكرد يسألون لماذا يمنح العرب هذه الأفضليات ولا حتى الصدريون الساعين للإنتقام من المالكي على ذبحه لهم، ينبسون بكلمة! هناك تابو على عدم التعرض لمصالح أصدقاء إسرائيل، وعدم التعرض لمشروع تبديد ثروة العراق في مشاريع تافهة أو بالتبرعات! يسمح لهؤلاء أن يتصارعوا كما يشاؤون في الأمور الأخرى وليشرب كل دم الآخر كما يشاء، على أن لا يمس التابوات. قارنوا الضجة التي أثيرت على صفقة الأسلحة الروسية، والمطالبة بكشف العقود والتفاصيل والإعلام، بالصمت التام عن عقود عملاء إسرائيل من أسلحة الجيك إلى عقود الأردن ومصر. الكل متآمر في هذا على هذا الشعب وهذا الوطن!
ضمن هذا كله، ما الذي يعنيه أن يصل "إنتاج" (إقرأ: استخراج وتبديد) نفط العراق إلى 9 ملايين برميل في اليوم، كما هو الهدف أو ربما 11 والتفوق على السعودية؟ إنه يعني أن الخطة هي أن يتم شفط النفط العراقي بأسرع ما يمكن، وتحويل أكبر قدر ممكن من عوائده إلى إسرائيل وأميركا بمختلف الطرق على أن يستهلك الباقي أو يبدد دون بناء. وبالنسبة للطبقة السياسية المنفذة، فهو يعني أن عليها أن تجد طريقة لتبديد ثلاثة أو أربعة أضعاف المالية العراقية الحالية، بدون بناء أية طابوقة في البلاد. فحكومة المالكي دون غيرها، لا تعرف الحديث سوى عن المليارات، فلم أسمع من أي من أعضائها الكبار حديثاً "متواضعاً" بمئات الآلاف من الدولارت أو حتى الملايين، كما تفعل الحكومات الأخرى، حتى الأوروبية. فعندما يكون هدفك تبذير أكثر من 100 مليار في العام، فيجب أن تكون أدوات التبذير أيضاً بالمليارات.
هل علينا إذن أن نفرح بزيادة "إنتاج" النفط؟ بإمكان إسرائيل والأردن ومصر أن يفرحوا، أما بالنسبة للشعب العراقي فهو سيوجه إلى "الآجل" حينما يريد شيئاً! إذن هل يفترض بنا أن نحزن حين تتعرض ملاكات ومعدات وزارة النفط لعمليات إرهابية تعرقل إنجاز مشاريعها،(8) إن كانت هذه المشاريع مشبوهة لا تهدف إلا لتبذير النفط العراقي؟
لا أكتمكم أني فرحت وأنا أقرأ أن "ظروفاً أمنية سيئة" تعرقل الوزارة من استكمال الخط الإستراتيجي البديل، الذي سوف ينتهي بإيصال النفط المسروق من الشعب، إلى عملاء إسرائيل في الأردن! لقد فجر المصريون الأنابيب التي توصل الغاز المخفض المسروق من الشعب إلى إسرائيل من قبل عملائها، واعتبرت عملهم وطنياً بطولياً، فلا أستطيع أن أقف موقفاً مخالفاً من أنابيب الهدف منها سرقة نفط العراق وإيصاله إلى عملاء إسرائيل، وهذه هي قراءتي لمشاريع المالكي بهذا الخصوص. إذن هل صار أمل العراقيين في الإرهاب لوقف نزيف نفطهم؟ هذا ما أوصلتنا سياسة المالكي وتجاهله لاحتجاجاتنا أن نقوله!
وعلى هذا الضوء فلا نستطيع أن نقرأ مشروع البنى التحتية إلا على أنه يمثل الجزء المستقبلي من مشروع تحطيم العراق، وأن الهدف منه هو إغراقه مجدداً بالديون. فهذا المشروع يتكون من ورقة مسودة واحدة يمكن أن تكون قد كتبت في جلسة شرب (شاي، إن شئتم)، تطالب باقتراض العراق ما بين 37 مليار إلى 45 مليار دولار من أجل أن يبني بنيته التحتية المحطمة. فالمالكي لا يتذكر أن بينة بلاده التحتية محطمة عندما يكون في المؤتمرات أو عندما يوقع على إنشاء بناية بمليار دولار للبرلمانيين، لكنه يتذكرها ويبكي عليها بمرارة حين يريد إقناع الناس بضرورة السماح له بإقتراض عشرات المليارات الأخرى! إن لسان حاله يقول: ميزانية النفط ليست لكم، بل للفساد والتبديد وأصدقاء إسرائيل، فإذا أردتم بناء شيء لبلادكم فعليكم أن تقترضوا!
إن تصرف الحكومة بالمليارات التي معها لا يدل أبداً على أنها ستتصرف بالمليارت الـ 37 بشكل مختلف، ولم يبد أي أهتمام جدي بتخطيط الصرف، لا للمليارات المئة للميزانية، ولا للـ 37 المطلوبة، ولا يوجد أي مشروع محدد لهذه الأخيرة، فالمالكي طالب بإقرارها وطالب بنفس الوقت الوزارات والمحافظات والإقليم، بتقديم مشاريعهم المقترحة لوضعها في "الخطة"!! أي أنه ليس هناك خطة!: قالوا، لنضع مليارين ونصف للصحة، ولنضع ثلاثة مليارات للسكن، وكذا مليار للنقل... والآن تقدموا بالمشاريع لملئ الفراغ في هذه المليارات. هكذا تجري الأمور في العراق كما يبدو، ليس إلا!
لقد وقف اعضاء دولة القانون بلا استثناء وراء مشروع البنية التحيتة المشبوه والفارغ من أي محتوى، وهدد أحد المحتالين وهو يتباكى، النائب حسن السنيد، بالإستقالة من البرلمان إن لم يقر المشروع. ولم يتردد أي نائب في دولة القانون، أو من المحسوبين على المالكي، عن دعمه رغم أنه ليس سوى فضيحة. واليوم ورغم افتضاح الأمر، فما زال هناك من يضع سمعته الرخيصة وراء ذلك المشروع المشبوه ويدافع عنه بكل قوة، فهاهو النائب عن ائتلاف دولة القانون امين هادي يدعو الكتل السياسية الى التصويت على قانون البنى التحتية "بعيدا عن أية خلافات سياسية"(9) ويقول ان "قانون إعمار البنى التحتية بالدفع الآجل من القوانين الخدمية المهمة للنهوض بالبلد على صعيد الإعمار والخدمات، والمستفيد الأول منه هو المواطن الذي بات يحلم بنهضة خدمية بعد مرور 10 أعوام على سقوط النظام السابق". وأضاف ان "هذا القانون لاتوجد فيه أية ثغرة يتسلل من خلالها المفسدون والعابثون بالمال العام، نظرا لكونه يعتمد على الدفع بالآجل ولا ينص على تسديد مستحقات الشركات المنفذة للمشاريع قبل مرور 5 سنوات على تنفيذ المشروع، وهذه الميزة تقطع الطريق على المشككين والمعترضين".
إنه يقول بصراحة: تركناكم 10 أعوام بدون أن نصرف شيئاً على البنى التحتية لـ "المواطن" الذي يحلم بـ "نهظة خدمية"، والآن نسمح للمواطن المسكين أن يقترض من أجل نفسه، فلا تقفوا بوجهه. وفجأة صار الدفع بالآجل ضامناً لعدم الفساد، بعد أن كان وحش الفساد وسوء الإدارة الذي أزيح بسببه وزير الكهرباء السابق رعد شلال من منصبه لأنه قبل بعقود مع شركات "غير رصينة" كانت الوحيدة التي قبلت بالتنفيذ بالدفع الآجل، واتهم بالفساد وتم تشويه سمعته بلا أخلاقية عالية، والآن يقولون أن الدفع بالآجل يضمن عدم وجودة "أية ثغرة يتسلل من خلالها المفسدون والعابثون بالمال العام"!
إذن أما أن هذا الكلام كاذب وأن الثغرات موجودة وأن إنكارها محاولة مقصودة لسترها بغرض الفساد، وهنا يجب محاسبة المدافعين عن المشروع، أو أنه صحيح، وأن رعد شلال العاني وقع عقوداً لم يكن فيها "أية ثغرة يتسلل من خلالها المفسدون والعابثون بالمال العام"، فتوجب التخلص منه!
نشير على عجل أن إغراق البلاد بالديون خطة معروفة لدى الشركات الأمريكية والحكومات التي تأتمر بأمرها لإجبار البلاد على بيع ثرواتها رخيصة لهم، كما كشف جون بيركنز، في كتابه "القاتل الإقتصادي". المالكي حاول أن يطمئننا بأن القروض سوف يمكن اعادتها بسهولة بالنسبة لدولة نفطية مثل العراق من خلال الإنتاج الذي ستقدمه تلك القروض للإقتصاد، ولكن أين المردود الذي قدمته المليارات الأخرى للإقتصاد، ولماذا مليارات القروض هذه دون غيرها، هي التي ستصرف بشكل صحيح وسيكون لها مردود؟ ما الذي يدرينا أن تلك القروض لن تجد طريقها إلى كرم طائي آخر ومشاريع بنايات فارهة للفاسدين من البرلمانيين والسياسيين الذين فقدوا أي إحساس إنساني بالمواطن؟
الموضوع تعدى مسألة الفساد والسرقة إلى شكل عمل تخريبي متعمد. وإن كان الهدف من صرف المبالغ الحالية بالشكل الذي صرفت به تدمير الإقتصاد العراقي، فأن هدف القروض لن يكون إلا تدمير المستقبل العراقي وتحطيم أجياله القادمة، سواء وعى ذلك المطالبون باقرار القروض أم لم يعوا. إن لدينا أسباباً كافية لنخشى ذلك!
يجب تجاوز العصبية الطائفية والسياسية وعدم تفسير كل شيء، بضمنه هذه المقالة والحقائق التي تسلط الضوء عليها، على أنه جزء من الصراع السياسي أو الطائفي، وبالتالي اتخاذ موقف مسبق منها، حسب موقف القارئ من المالكي، بل مواجهة تلك الحقائق بشجاعة ومطالبة الحكومة بتوضيح موقفها منها ودوافعها لتوقيعها. فإن لم يأت أي توضيح، (ولن يأتِ) فيجب العمل بسرعة وبأي شكل على إيقاف المالكي عن إبرام العقود الإقتصادية قبل إفراغ البلد من ثرواته وربطه بالأسواق الإسرائيلية. صحيح أن البلاد تمر بأزمة سياسية حادة تتطلب التركيز عليها، لكن يجب أن نتوقع من قادة البلاد أن يتصرفوا بدقة أكثر في الأزمات، وأن يحرصوا على استغلال كل إمكانيات البلاد لحلها، لا أن يستغلوا الأجواء المكهربة لتمرير ما لا يمكن تمريره في الجو الهادئ، وإلا فقد يكونوا من يثير الأزمات عمداً، أو على الأقل أن يكونوا سعداء بها وبما توفره من غطاء لتمريرهم أجندة مشبوهة. إننا ندعوا لمحاسبة الحكومة ومنع استمرار الخطأ والتدهور، وليس إسقاطها وإحلال عملاء إسرائيل وقطر وتركيا والسعودية محلها، فهذا هو الشيء الوحيد الأسوأ من الحاضر والأكثر دفعاً لليأس.
لقد قال مسؤول إسرائيلي أنهم حققوا أكثر مما كانوا يطمحون به في العراق، وتدل السنين العشرة الماضية على انه كان صادقاً. يجب التحقيق فيما تم التوقيع عليه ومراجعته وإلغائه إن تطلب الأمر، وهذا واجب البرلمان وكل شريف في الطيف السياسي العراقي عموماً، وإلا فأن المستقبل سيكون أكثر ظلاماً من الحاضر، وسيكون نفط العراق حصة عملاء إسرائيل، اما شعبه، فعليه أن يقترض من أجل مدارس أولاده، وأن يبقى يخدم كـ "قوة شرائية" يتم بها "تحريك" هذا السوق مرة، وذاك السوق أخرى، حتى تستهلك تلك "القوة الشرائية". وفي نهاية المطاف لن تكون حصة أجياله القادمة، أطفالنا، إلا الديون للقتلة الإقتصاديون و"العواصف" الرملية والسياسية التي تتزايد كل عام!
(إفعلوا شيئاً لإنقاذ العراق(10). ساعدونا بنشر الحقائق. أكتبوا معنا. طالبوا معنا بإجراءات حازمة قبل فوات الأوان)
(1) http://www.imn.iq/news/print.18343/
(2) http://www.warvin.org/drejaA.aspx?=hewal&jmara=1889&Jor=1
(3) http://www.youtube.com/watch?v=cfFjXn3kOXA
(4)http://www.azzaman.com/?p=28690
(5) http://www.non14.net/41086.htm
(6) http://www.uragency.net/index.php/2012-03-11-16-31-52/40-2012-03-26-04-41-08/18008-2013-03-06-09-45-08
(7) http://www.almadapress.com/ar/NewsDetails.aspx?NewsID=8527
(8) http://www.newsabah.com/ar/2524/7/92162
(9) http://www.sna-news.net/index.php?aa=news&id22=3445
(10) بكتب إسمك يا بلادي
http://www.youtube.com/watch?feature=endscreen&v=MLauqQvxjeA&NR=1
20 آذار 2013