آهـاً منـا - وآهـاً علينـا - وتبـاً لهـذا الـزمـن
ولدت في مدينة الموصـل , وترعرعت فيها , والكل يعـرف مثلي لابل اكثر ان هذه المدينة العريقة ( نيـنوى ) وضواحيها تجـمع معـظم اطياف الشـعـب العـراقي ...لقد تعودنا نحن المسـيحيين من سـكنتها على وجه الخصوص , خلال كافـة الحـقبات التاريخية , من مختلف الكنائـس والطوائف , الى بذل محاولات جادّة تـقود الى اذابة الجـليد الطائـفي , وبارشـاد من آباء كهنة واسـاقـفة اجـلاّء مـنهم من وافـاهـم الاجـل ومنهم من لازال على قـيد الحياة , سـلكنا درب الانفـتاح وتوطيـد العلاقات وانمائها , ذلك لشـعورنا واحسـاسـنا المشـترك بأنـنا اصـحاب الارض واصـحاب تاريـخ واحـد ومنبع واحد و حضارة واحدة , ومصير واحد .. أبناء أم واحـدة ( بـيث نهرين ) التي لها عـدة أبـناء بأسـماء جـميـلة مختـلفة , لعـب كل منهـم دوره المتميـًز, بالتعـاقـب , مخلًفين ورائهم حضارات عظيمة يقتدى بها , تاركين بصماتهم للاجيال اللاحقة من ابـنائهم واحـفادهـم , ليظهـروا للعالم اسـمى درجـات التـقدم والرقي في حقول العـلم والمعـرفة , والشـرائع والقـوانيـن , وكافـة المقومات والاسـس التي تبنى عليها كـل حضـارة مزدهـرة.
لقـد كان كل ذلك يـتجسـد في سـلوك واخـلاق معـظم أبـناء مـدينـتنا الحبـيبة , وكان لمناهج التعليم الابتدائي الدور الكبير في ترسـيخ تلك المبادئ في نفوسهم , ذلك من خلال المدارس الاهلية التابعة بصورة مباشرة او غير مباشرة بكنائسنا الحيًة ! !
بالرغم من ضروف البلد السياسـية , تحت الاحتلال العثـماني الغاشـم , والاسـتعمار البريطاني , فقد كانت تلك المدارس الاهلية متميًزة بمناهجها , واساليب التعليم فيها ونوعية المعلمين , وطرق ادارتها .. الى جـانب ذلك كانت هناك كلـيًة القديـس عـبد الاحد , ومعهـد مار يوحـنا الحبـيب ( السـمنير ) الذي مهما قيل وكتب عنه فأنه اقل مما يستحقه من وصـف , لقد رفـد الموصل لابل العراق عامةً من مناهله على كافة الصعد : العلمية والادبية والفنـية والفكرية ( الفلسـفية واللاهوتية ) وما الى ذلك من ثقافة عامة.. ومصادر كل تلك المواد والمناهج المستخدمة في التدريس كانت مكتبة دير الابـاء الدومنيكان , الملحـقة بالكنيسـة والمعهد المخصص للكـبار , هذه المكتـبة الفـريدة لا في العراق وحسـب بـل في العالم , لما تحـتويه من مخطـوطات ومؤلـفات وموسـوعات , بثلاث لـغات : العـربية , الفرنسـية ,والسـريانية ..يعود تأريخ القسـم الاكبر منها الى القرن السابع عشر, والتي كانت تطبع جميعها في مطبعتهم الخاصة التي تعتبر هي الاخرى الاولى في العراق ..
لقد كان هذا المعهـد كغيـره من المعـاهد والمـدارس المسـيحية الاهـلية , يضـم عدداً كبيراً من التلاميذ من مختلف الفئات والمناطق في العراق .. كذلك مدرسـة شـمعون الصفا ( بابل حالياً ) والتي كُنتُ طالباً فيها طيلة فـترة الدراسـة الابتدائية , انـموذجاً حقـيقـياً لوحدة ابـناء شـعـبنا , اذ كان يـَدرس فـيها العـربي والسـريـاني والاشــوري والكلـداني دون تمـييز .. اما النموذج الـبارز اكـثر لاسـتقطاب وجـمع وتوحيـد ابـناء الموصل من جميع الطوائف , هو كنيسة ( اللاتين او عذراء الساعة او ام العجوبي او بيـعة البـواتر – الآباء الدومنـيكان ) فـكان يؤمهـا الشــباب خاصةً , من مـخـتلـف الطوائـف , تلك الطـبقة المثقـفة في المجتمع , اسـاس نهـضـة وتقـدم المجتمع, كي يصـلّوا ويرنّـموا معاً لتسـبيح الرب , مشاركين في التقـديس , ومتبادلين الخبرة مع اللآباء الواعـظـين.
هكذا تعـلمنا , وهكذا تربـينا , وهذا ما جعـلنا ان نعيش الايمان الوحدوي كونه جزءاً لا يتجزأ من قلبنا وكياننا وفي اعماق نفوسـنا , لقد تربينا على قيم الوحدة والتآخي. أمـا الان , و بـالاخـص في دول المـهجـر , فـيحـز في نـفـوســنـا أن نـرى الـنعـرات الطائفـية , والانقسـامات, والتحـديات , والتسـميات , والبحـث عـن مـلاذ ضـمن اقـليم هذا وذاك, لنـُظـيف الى هـمومـنا الطائـفية هـمّاً جـديـداً , هو فرقـتنا القومـية , التي لا نجني منها الاّ ترسـيخ الـفرقة الطائـفـية , واضعـاف وجـودنا , والتـقلـيل من شـأنـنا , والشعور باليأس بتحقيق الاهداف المنشـودة لكل الاطياف ..
في الثمانـيـنات من القـرن الماضي , اي قـبل عـقديـن من الـزمن , كانت المحاولات المستمرة والجـادّة قائمة , بمباركة المثـلث الرحمة البطريرك مار روفائـيل بيـداويـد الذي يعـتبر رائداً لمشـروع الوحدة , كذلك المثـلث الرحمة المطـران عما نؤيـل بنّـي , والمرحوم الاب يوسـف حبّي , وسـيادة المطران مار غريغوريوس صليبا , وسـيادة المطـران مار جرجـيس القـس موسى ( كان كاهـناً حـين ذاك ومـسـؤول مجـلة الفـكر المسيحي ) , وعدد كبير من الابـاء الكهـنة الافـاضـل والاخـوة والاخـوات العلمانييـن من كل الطوائف وذلك لتقريب وجهات النظر وتجاوز الخلافات والتركيز على كل ما من شـأنه يدعـو لتوحيد ابناء كنيسـة المسـيح الواحدة ,
ان جهود تلك النخبة الخيّرة لم تذهب سدىً , لان الاعمال الصالحة لابد ان تأتي بثمار جيّدة , وهذا ما لمسـناه جميعاً وعلى ارض الواقع , اذ ظهرت البوادر لتشـكيل الجوق المشترك لاجواق كنائس الموصل وتوابعها , ومن بعدها تم تشـكيل اللجان المشـتركة لتـنظيـم المهـرجانات والـلـقاءات العـامة , كذلـك مجلـس اسـاقـفـة نيـنـوى , والمعـهـد الكهـنـوتي المـشـترك في قـره قـوش , واخـيـراً وليـس اخـراً توصًل الجمـيع لتشـكيـل مجلـس كنائـس العراق الذي تم الحاقـه بمجلـس كنائـس الشـرق الاوسـط ...
اما الان , فـفيـما وراء الظـلم الذي يمارسـه الاخـرون بحـق ابـناء واصحاب الارض (السـورايي ) , وفيما وراء الاسـتهانة بتاريخهـم والاسـتهتار بقـيمهم , وفـيما انـتهاك مشـيئـتهم وحـقهم في تقرير مصيرهم باسـتقلال وحـرية , وفيما وراء الـفتاوى بقتلهم وذبحهم وتـشـريدهم من ديارهـم وارضهم , وفـيما وراء خـطف رجال الديـن وابـناء الكنيسـة وابتزاز اموالهم, والنداءات التي يطلـقها اصحاب السـيادة والاخرين لاطلاق سـراحهم, فيما وراء هذا كله , يـتوجب علينا جميعاً ان نفكر في (الطرق والاساليب ) التي جابهـنا بها هذا الطغـيان ونجابهه , وكل الذيـن غزوا ويغـزون ارضنا , وحكموا ويحكمون بلادنا , وصنّـفـونا مواطـنيـن من الدرجة الثانـية او ما دونها ... !!!
هل مواقفنا يا ترى هي في المستوى المطلوب من قضايانا ؟
أهي حقاً في مسـتوى تاريخنا وثقافتنا ؟
أهي حقاً في مستوى انسانيتنا وايماننا ؟
هـل باسـم القوميات : اشـوري , كـلداني , سـرياني , ارمني والاتحادات المشكّلة منها والتي لاتمثلها لا من بعيد ولا من قريب , او بأسـم الطوائـف : كاثوليكي ,ارثدوكسي, نسطوري , بروتستانتي .. الخ , تلك الكلمات التي تهيمن اليوم على الحياة وتكاد تقود افكارنا – رغبةً او رهبة , هي المفتاح لحل المعـضـلة ؟
كيف اذاً لا نـتساءل .. أبهـذه الاسـاليب يمكن ان نحقـق وحدتنا ؟ أبهذه الثقافة يمكن أن نؤسـس للحرية او لحياة انسانـية كريمة , او لاسـتقـلال , او لعـدالـة , أو للـوقـوف مع الشعوب الحـرة المتحضرة في سـاحة واحـدة من المسـاواة .. ؟
وكيف اذاً ... ألا يحق لنا أن نصرخ بألم : آها منّا , وآها علينا , وتبّاً لهذا الزمن وهذا العصر الذي نبتكره بأسـم المسـيحيين في العراق , وبأسـم القومـيات والاطـياف حـيناً آخـر ... ؟
البعـض منّا لا يحـس بوجوده الا اذا سـحق الاخـر او حطّ من قدره !! كأنه يكرر فعل قابيـل بأخـيه هابيل .. " لاتبدأ حياتي الا اذا انهـيت حياة أخي " وكأن ذلك شـرطاً من شروط الوجود ..!! والبعض الاخر منّا يقبل ذلك , صمتاً, او جهراً , والبعض الاخر
يـدعم ويـؤيّـد ..
كيف يمكن اذاً ان نحـلـل هذه الظواهـر ؟ وكيـف يمكن الانـتماء الى ثـقافـة تدعـو الى ممارسة هذه الظواهر وما يرتبط بها او ما يشابهها ؟
تـرانا نحن – السُـرايي – لانحب الاخر الذي لايشبهنا , لا في اللغة وحدها , وانّما في الفكرة وفي الدين , وفي الحياة كذلك .. !! أو يبـدو ان هذا الفـكر لا يحـس بأية حاجـة الى الانسان : قائداً او مقتاداً , او يبدو ان هذا الانسان المخلوق على صورة الله ومثاله , لا وجود له في هذا الفكر , الا بوصفه : سـيّداً او عـبداً .. ويبدو ايضاً ان هذا الفكـر لا يُعنى الا بأن يقيم على الارض ( تاريخ متواصل ) من المآثر والانتصارات لشعب او امّة او قومية يجب ان تبقى ازلية متسـلطة على الاخرين الى مدى الدهر ....
بعد مرور عشـرون قرناً من اشـراق الرسـالة المسـيحية الفريدة , والتي غـيرت وجه العالم ,يحاول بعض رجال الديـن ومع الاسـف بتقليصها وبحصرها في هذه المشـكلة الاولى والوحيدة : الطائفة والقومـية .. بفضل هذه الثـقافة تتحول الحياة الى صـراع , وشـرعية التفضيـل ( الانا ) , ويغير سـياق الحياة المسـيحية , من الحـوار الى القـتال , ومن التواصل انسانياً الى التواصل وحشياً , اذ تتمحور ثقافتهم حول النفي , والنبذ , والاقصاء , والتميـيز العنصري .. وان مبدأ العـين بالعـين الذي تبنّته الاديان الاخرى لايليق بالمؤنين المسيحيين , فكم بالاحرى لو تبناه بعض من رجال الدين في مناصب عليا – كاسـاقـفة مثلاً ... ؟ ...
أدعـو هؤلاء الآبـاء , كما دعـاهم غـيري من هذا المنبـر الحـر , ان يتركوا السـياسـة للسـياسـيين , ويدخلوا صومعتهم سـاجدين امام القربان المقـدس , متـضرعين الى الله كي يحـل سـلامه على الارض .. هـذا هـو المطلـوب منهـم , وهـذا هو الطريق الـذي اختاروه طوعاً , ووعدوا به الرب يوم قبولهم سـر الكهنوت ... !! عليهم ان يتّـقوا الله , ويعودوا اليه , وأن يحـذوا حذو الاباء والاسـاقفة الاجلاء , الذين اشرنا الى اسماء القليل منهم في مطلع مقالنا هذا , واضعين نصب اعينهم , المصلحة العامة لابنائنا في العراق اولا وآخرا , لاننا بصراحة هنا في بلاد المهجر , لانتحسس معاناتهم , اذ ان يدنا ليسـت في النار كما يقال , وان كل ما نعبّـر عنه في الصحف او من خلال المواقع من عباراة اسـتنكار واسـتهجان لما يجري من اعتداء وقـتل وتهديد , ليـس له اي مفعـول ايجابي لحل الازمة , بل ان الواجب المتحتم علينا هو ان نتحمل المسـؤولية المباشـره بالوقوف الى جانـبهـم لايجـاد حـلـول جـذرية وآنـية ملـموسـة واجراءات تتخذ على ارض الواقـع, والتضامن معهم في سبيل تحقيق كل ما من شأنه أن يؤمـن لهم العيـش بسـلام وامـان وطمأنـيـنة ...
صـباح السـناطي
مالبـورن – اسـتـراليـا