Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أحوال الأقليات الدينية في العراق من سيئ الى أسوأ

إشكالية الأقليات في العالم طفت على سطح الأحداث بعد سقوط الأمبراطوريات وانبثاق القوميات والأمم ، وبعد دولنة هذه القوميات تزاحمت اعلامها مرفرفة فوق مبنى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى ليبلغ تعدادها حوالي 190 دولة .
اليوم بعد ان بلغت القوميات والأمم مرامها برزت المطالب الأقلوية وهي واضحة جلية وعلى الأكثريات الحاكمة الأعتراف بها وتلبية مطالبها ، إن كانت دينية او لغوية او قومية او أثنية او ثقافية ، فالأشخاص المنتمين الى هذه الأقليات لهم الحق في ان يعبروا عن هذه الهوية ويحافظوا عليها في جو من المساواة وحقوق المواطنة من الدرجة الأولى وهو يعيش على تراب وطنه .
تولدت مشكلة الأقليات العراقية يوم دخول الجيش العربي الأسلامي الى هذه الديار في مطاوي القرن السابع الميلادي ، وكان الفتح الأسلامي ينشد نشر الدين الجديد على اساس أنه خلاص للبشرية فالنبي محمد هو خاتم الأنبياء ، ومن جانب آخر كان للفتح الأسلامي أهداف اقتصادية بحتة ، لقد كان نداء نبي الأسلام يجلجل في مكة يدعو شعبه الى الفتوحات فيقول :
أتبعوني أجعلكم أنساباً ،
والذي نفس محمد بيده
لتملكن كنوز كسرى وقيصر .
إن الدين الجديد يحمل في طياته علامات التفوق ، لأن الأسلام دين الحق ، والمسلمين هم جند الله على الأرض ، وعلى الأخر القبول بهذا الدين وإلا عليه الأستعداد لخوض للحرب ، وأما النصراني واليهودي فهم أهل الكتاب عليهم الدخول في الدين الجديد او القبول بدفع الجزية وهم صاغرون ، بهذه العقلية التفوقية تعامل العرب المسلمون مع البشر ، وخرجوا من جزيرتهم الرملية القاحلة الى أرض الله الخصبة الواسعة وهم يجيدون صناعة الحرب لا أكثر .
في ارض الرافدين دخل الجيش الأسلامي ليجد أمامه بلداً مسيحياً غنياً بتراثه المسيحي ، في ارضه مبثوثة الكنائس والديورة والمدارس ، والناس تزاول اعمالها وتزرع مزارعها وتعطي مالله لله وما لقيصر لقيصر .
إن الدولة الأسلامية منذ نشأتها الى اليوم كان حكمها ثيوقراطي ، فالدولة الأسلامية حكمت هذه البلاد وغيرها وكان فيها أقليات دينية ، وعاملت الأقليات غير الأسلامية من اليهود والمسيحيين بمنطق أهل الذمة ، أي ان هؤلاء لا يقاتلون وأن المسلمين يقاتلون عنهم ، وهم في ذمة المسلمين بعد ان أصبحت هذه الديار ديار اسلامية بعد الفتح العربي ألأسلامي .
في عصر الدولة العباسية كانت الدولة الأسلامية تتجه نحو الأنفتاح الفكري على العلوم والفلسفة والطب .. وكرست الدولة جهودها لترجمة هذه العلوم الى اللغة العربية ، وكانت في هذا المقام تقرب أبناء الأقليات الدينية من المسيحيين واليهود والصابئة لكي يترجموا هذه العلوم الى اللغة العربية . وفي احيان كثيرة كانت تضغط على هذه الأقليات وتحط من مكانتهم الأنسانية بحجة تطبيق الشريعة الأسلامية وتجسدت هذه المعاملة السيئة في عهد المتوكل .
في عهد الدولة الأسلامية لسلاطين آل عثمان سنت قوانين تخص الأقليات الدينية في الأمبراطورية العثمانية فصدر نظام الملل والنحل مع بداية حكم الأمبراطورية العثمانية وكان الرئيس الديني للأقلية يجمع بيده السلطتين الدينية والزمنية ، وله الحق في النظر في ألأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والأرث .. ويلقب الرئيس الديني عندهم بـ "ملتي باشا " وهو المكلف بتوزيع الجزية ( الضريبة ) على الملة من كل فرد او اسرة حسب رؤيته وجمعها وتسليمها الى الحكومة ، واليهود فإن حاخامهم الأكبر هو حاخام باشا .
في سنة 1839 أصدر السلطان العثماني قانون أصلاح أحوال الأقليات عرف باسم " خطي كلخانة " وقانون آخر اوضح فصار أكثر شهرة وصدر عام 1856 م وعرف بـ " خطى همايون " او الخط الهمايوني والذي لا زال البعض في مصر يعتبرونه " المرجعية " في حق الدولة في إصدار فرمان أو قرار جمهوري في إنشاء كنيسة (ازمة الأقليات في الوطن العربي ، د . حيدر ابراهيم علي ، د . ميلاد حنا ص179 ) .
في العهد الملكي رغم ان دين الدولة الرسمي كان الأسلام إلا ان الأقليات الدينية بالذات عوملت بما يمكن ان نعتبره اعتدالاً من قبل الحكومة ، رغم الضغوط التي مورست من التيارات الدينية او القومية ، فهناك مقاعد محدودة مخصصة في البرلمان لليهود والمسيحيين دون النظر الى النتائج العامة للأنتخابات ، هناك مجلس الأعيان المتكون من عشرين عيناً كان فيه مقعد واحد ثابت لليهود بقي حتى يوم رحيلهم عام 1948 وآخر للمسيحيين بقي حتى سقوط الحكم الملكي عام 1958 م
لكن هذه الفترة شهدت غياباً تاماً لأقلية عراقية قديمة وهي اليهود ، حيث أن تأسيس الدولة العبرية كان سبباً في رحيل او ترحيل هذه الأقلية من الأراضي العراقية .
وفي الدولة الأسلامية في العصر الجمهوري كان عهد عبد الكريم قاسم لا يفرق بين الأقليات الدينية ، لكن عبد السلام عارف عرف بنهجه الديني والقومي المتشدد . وكان عصر عبد الكريم قاسم يهيمن عليه الخط العلماني رغم ان الأسلام كان دين الدولة الرسمي .
وفي عهد البعث كان السلوك العام علمانياً ، لكن كلما ضعفت الدولة تشبثت الحكم بأذيال الدين ، وفي المقابل كانت تضغط على الأقلية المسيحية ، رغم ان افراد هذه الأقلية كانوا يقومون بنشاطات خدمية في مرافق الدولة وفي قصور أعضاء القيادة .
ولو انتقلنا الى العصر الحالي الذي جاء نتيجة احتلال العراق وبعد إجراء انتخابات التي يفترض انها ديمقراطية ، فإنه أسوأ حكم وطني حل في العراق في العصر الحديث ، ولا نريد ان نذكر كل جوانبه السلبية فهي معروفه ، لكن ما يتعلق بالأقليات فإن الحكم الحالي ترك الأقليات معزولة ولقمة سهلة بيد المتشددين من السنة والشيعة على حد سواء .
إن الأسلام السياسي يهيمن على مقدرات الدولة ، والساحة السياسية العراقية مفتوحة لممارسة الطائفية والعنصرية الدينية . في ظل هذه الحكومة المنتخبة تشرد الأقليات ويستولي المتشددين من المسلمين على ممتلكاتهم وبيوتهم .
نحن لا نريد ان نخلط الأوراق بين المسلمين المعتدلين والمسلمين المتشددين ، نحن تاجرنا ودرسنا وتعاملنا في أعمالنا مع اوساط كثيرة من المسلمين ومن المؤكد انه ليس كل المسلمين قتلة وأرهابيين ، لكن ما يمكن الركون اليه هو ان كل الأرهابين والقتلة في العراق هم من المسلمين ، فلا يوجد عصابات مسيحية او يزيدية او مندائية تقتل وتخطف وتفجر السيارات المفخخة او الأحزمة الناسفة في التجمعات السكانية ، إن الذي يقتل السني هو مسلم والذي يقتل الشيعي هو مسلم والذي يقتل المسيحي هو مسلم والذي يقتل اليزيدي هومسلم ، وهذا لا جدال فيه .
إن الأسلام المعتدل مدعو اليوم أكثر من أي وقت آخر أن يقول كلمته ، إذ ليس من المعقول أن يدعو الأسلام في منطقة الدورة وفي مناطق أخرى من العراق الى اعتناق الأسلام بالقوة او ترك الدار والممتلكات ، إذ لا يوجد دين على الأرض يقبل بهذه المهزلة البشرية التي تجري على أرض العراق .
إن حكماء الأسلام عليهم أن يدافعوا عن دينهم أمام هذه الأساءات التي يتعرض لها دينهم الأسلامي الذي يعتنقه مليار إنسان على هذه الأرض .
لا ندري ما هو واجب الحكومة العرقية برئاسة المالكي ؟ إن لم يكن واجبها حماية الأقليات ، لكن يبدو من سير الأحداث أنه الحكومة والبرلمان يسعيان الى تصفية الأقليات ، إذ كيف نفسر عملية إقصاء ممثلي المسيحيين من الكلدان والسريان والاشوريين من منظمات مثل المجلس السياسي للأمن الوطني وإقصائهم من التمثيل في مجلس المفوضية العليا المستقلة للأنتخابات ؟
إن كان هذا سلوك البرلمان والحكومة فكيف نحاسب المتشددين على أعمالهم ؟
إن البعد الأجتماعي والسياسي المسيحي ضروري في الحالة العراقية فالحكومة والبرلمان والمجتمع العراقي عموماً ، ملوثة بمرض الطائفية ، والمجتمع المسيحي المعروف بطيبته ووفائه للعراق والعراقيين دون تمييز ، إن البعد المسيحي يشكل نقطة تفاهم ومحبة وتسامح في المجتمع العراقي المتأزم في هذه المرحلة .
هكذا نرى الجانب الكردي يحتضن المسيحيين الهاربين من قسوة الأرهاب في الوسط والجنوب ويقدم لهم يد المساعدة السخية . وفي الوقت عينه يعطي الأكراد صورة ناصعة للأسلام إذ يبرهنون أن الأسلام ليس دين القتل والأرهاب إنما هو دين التسامح والمحبة .
نحن ننتظر من الحكومة ان تقوم بواجباتها في حماية الأقليات الدينية من المسيحيين والصابئة واليزيديين ، وأن ينأى البرلمان العراقي نفسه من الأصطفافات الدينية والطائفية البغيضة .
مع كل هذا لا نقطع الأمل في ان تختفي البندقية ، في ان تغيب الالام والأحزان من أرض العراق ، في ان تبثق الهوية العراقية الشامخة من ركام الأهوال والمآسي ، في ان نجلس على ضفاف دجلة في شارع أبو نؤاس في الليالي القمراء ونغني مع فيروز :
سنرجع يوماً الى حينا ونغرق في دافئات المنى .
نعم من حقنا ان نفكر ونحلم ولا يوجد قوة تستطيع ان تسلب او تغتال الأحلام والأفكار .
حبيب تومي / اوسلو
habeebtomi@yahoo.com Opinions