"أدب الطريق" فن يصارع الزمن الضائع
الأدب كلمة جميلة تحمل معها معاني الاستظراف والنظام والالتزام، ولكل فعالية أو علم أو طريقة آداب تتصف بها، وترسم لها إطارها فيستدل عليها، واشتهر في مقام الطريق مفهوم أدب الطريق أو السلوك المتبع في الشارع، بيد أنَّ لمفردة الطريق بعداً آخر يجمع بين السلوك الخُلُقي والإنتاج الأدبي من نظم أو نثر، أي أن يتخذ الأديب أو الكاتب من الطريق رواقا للإنتاج الشعوري والتنضيد اللغوي، فيبدأ مطلع الطريق بكلمة ويصل محطته النهائية بقطعة أدبية نثرية أو نظمية، ومثل هذا يختلف عن الإنتاج الأدبي خلال السفر أو ما يسمى بأدب السفر حيث يستغل الأديب أو المفكر أوقات سفره في بري قلمه لتحبير أوراقه من الآداب أو العلوم المختلفة، على أن الحاسوب المتنقل (لاب توب) راح يأخذ محل القلم.الكثير منا يقطع المسافة يوميا بين داره ومحل عمله راجلا أو راكبا، ولكن من النادر أن ترى من يمسك بالقلم يخط نثراً أو ينشئ نظما، لأن مثل هذه السلوكية بحاجة إلى همّة ومزاج من نوع خاص يتجاوز عجيج الناس وضجيج السيارات ولا يعبأ بهما، فمعظمنا - ومن أجل أن يكتب نصاً- يختلي في زاوية هادئة يحتسي خمرة المؤمنين والأتقياء (الشاي) أو يرتشف نبيذ المثقفين والأدباء (القهوة)، والكثير من الكتاب لا يأنس بالقلم ولا بأزرار لوحة الحاسوب إلا على نفثات دخان متصاعد من سيجارة بائسة تضرّ ولا تنفع، ولكن القليل من أولي العزم من الكتاب من يجد ضالة الكتابة في كل الظروف تحت مطرقة ضوضاء الشوارع أو وسادة هدوء المكاتب، فينتج في الحالتين ولا يترك المسافة الزمنية تذهبُ سُدىً دون أن تتحرك أنامله على الورق كما تتحرك قدماه على الأرض وهي تسوق بخطوه إلى مقر عمله رائحا أو إلى منزله آيباً.
ومن نتاجات أدب الطريق هو ديوان "فالق الإصباح في الأفراح والأتراح" لناظمه العروضي الشيخ محمد صادق الكرباسي ضمّ 64 قصيدة في أفراح المسلمين وأتراحهم، تفتقت معظمها وهو في طريقه ما بين منزله والمركز الحسيني للدراسات التي تصدر عنها أجزاء دائرة المعارف الحسينية في أكثر من ستمائة مجلد صدر منها حتى شهر أيار مايو 2010 ستون مجلدا في أبواب متفرقة، فالمسافة راجلا لا تستغرق سوى 30 دقيقة ذهابا وإيابا، ولكنه لم يترك القلم دون أن يأخذ سبيله الشعوري ليبث نفحات شعرية ولائية، ففي كل مناسبة دينية له قصيدة قلّت أبياتها أو كثرت.
وأدب الطريق الذي اتخذه الأديب الكرباسي منذ أن نقل الموسوعة الحسينية من داره إلى المركز الحسيني للدراسات عام 1424 هـ (2003 م)، هو في ذاته فن له آدابه، وينطوي على حرص شديد من المؤلف للزمن واحترامه لدقات القلب المتناغمة مع حركة ميل الساعة، فلا يدع نفسه أسيرة الزمن ولا يشرد بخواطره حيثما حطت خطواته، بل يؤسر الزمن ويضعه في جبته لئلا يهرب، فهو حيثما يكون في العمل يكتب في أبواب الموسوعة الحسينية وحيثما يكون في البيت يكتب في أبواب الشريعة والقرآن والأدب وجانبا من الموسوعة، ويكتب عند النوم، فيما ترك الطريق لمشاعره تسيّرها القوافي على أمواج البحور الخليلية و210 أبحر استحدثها بنفسه وقيَّدها في كتابه "هندسة العروض".
ولائيات الكرباسي
فالديوان الصادر حديثا (2010 م) عن بيت العلم للنابهين ببيروت في 200 صفحة من تقديم وتعليق الأكاديمي والشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز بن مختار شبّين، واحد من نتاجات أدب الطريق راجلا في معظمها أو راكبا في قليلها وعند السفر في أقلها. وهو أدب جاء به الشاعر كما يؤكد المعلِّق حتى: (يملأ فراغ الوقت، ويسلّي به أحزان النفس، ويروّح به عن الهواجس فأتى مروحةً يهبُ بها نسيم الجمال إلى الروح، ويرفع عنها سدوف الضَّجر، وقتام الكدر، وينفضُ عن البصيرة غبار اللغوب، وعن البصر بقايا الرَّمد، ذلك هو الفن الذي ينفخ في الرسوم الحياة، فترتد خميلة خضراء، تحفل بكل جميل، وتطرب لكل غرِّيد، وتحنُّ إلى السِّحر تتأمَّله، وإلى النور تترقبه، وإلى الحق تتبيَّنه، حتى تزرعه في الأعماق، فترى بعينيه، وتنطق بألسنته، فما عرفت مثله شيئا أصدق بياناً وأنقى جوهراً وأرقى مظهراً).
لقد انحصرت ثلثا قوافي القصائد في خالق الكون وفي النبي محمد (ص) ووفي أهل بيته الكرام، والثلث الأخير في عناوين متفرقة لا تبتعد عن دائرة الإسلام، فهي ترجمان شعوري عن "التولِّي والتبرِّي" اللذين يشكلان معاً فرعا من فروع الدين، إذْ لا يتحقق الإيمان بالله الواحد الأحد والولاء للإسلام وقادته الكرام من غير البراء من المناهضين للإسلام، فلا يمكن للقلب الناصح أن يجتمع في حناياه الولاء للإسلام وحب مناهضيه في آن معاً، فاجتماع النقيضين لا يتحقق في صدر واحد إذ (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) سورة الأحزاب: 4.
وثنائية الولاء والبراء، تعبير حقيقي عن فلسفة الحب كان الوزن في "فالق الإصباح" شعارها ودثارها في بحر "الأفراح والأتراح" وبتعبير الدكتور شبّين: (فإذا كان الشعر كتاباً مفتوحاً للأشواق والأحاسيس، وديواناً يترجم فيه الإنسان أفراحه وأحزانه، فإن للشاعر الكرباسي فصولاً من كتاب الشعر، ومقاطع من ديوان الإنسان، دوّن فيهما فلسفته في الحياة، ونظرته إلى الوجود"، من هنا فالأديب الكرباسي بعد أن يتقرب إلى الله بقصائد الحب القدسي ويحط قوافيه على أعتاب المسجد النبوي الشريف راح ليجعل كما يكتب الأديب شبّين في تقديمه: (لكل فرد من أفراد أهل البيت سفراً، زخرف فيه من الأشعار ما طفح به الشعور، وصدق فيه الإحساس، وتفنَّن بريشته الخيال).
من هنا يصح تسمية الديوان بالولائيات، فهو نتاج أدب الطريق وفي ذات الوقت هو طريق أدب الولاء، ولذلك يعتقد الدكتور شبّين بحاسته الشعرية المتوقدة إن: ولائيات الكرباسي كهاشميات الكميت، أقرب إليها معنىً، وألصق بها موضوعاً، مدح فيها الشاعر أهل البيت مدحاً أشرفُ ما يَسِمُه الصدق، وأجمل ما توشِّحه لغته المفعمة بالإيحاء، المشبعة بالظلال، من كل ظلٍّ غيمةٌ يتدلى عندها المعنى مبسوطاً عراجينَ تروى الظماء قوله من المتقارب:
فإمَّا ولاكم فلا يُشترى مٍنْ *** موالٍ كمثلي كما لا أبيعُ
تجديد وإبداع
ومن دأب الكرباسي في نتاجاته المختلفة والمتنوعة أن يأتي بجديد، أو أن يطور ما ألفه الناس من كلام منثور أو منظوم، فالتقليد الرتيب أكثر ما يقلقه، وهناك أمور عدة يمكن ملاحظاتها في هذا السفر الطريقي الذي يجعل الغدو والرواح نابضا بالحياة، أهمها:
أولا: وحيث جاءت القصائد في الله والتوحيد والنبي والنبوة وأئمة أهل البيت (ع) والإمامة، فإنه قدم لكل باقة قصائد بمقدمة نثرية ختمها ببيت شعر ينسب لصاحب الباقة الشعرية.
ويلاحظ في المقدمات النثرية - والشاعر الكرباسي يقدم عن كل إمام حياته من حيث الأب والأم- قدرة الإسلام على توليف القلوب من أجناس مختلفة في بوتقة الإسلام الأممي، وحكمة قادة الرسالة الإسلامية على الإقتران بنساء غير عربيات ليلدن قادة الإسلام دون الخضوع لسطوة المعايير القومية الضيِّقة، فالإمام علي بن الحسين السجاد (ع) أمّه ساسانية فارسية، والإمام موسى بن جعفر الكاظم أُمُّه بربرية أندلسية، والإمام علي بن موسى الرضا (ع) أمّه نوبية مرسية تونسية، والإمام محمد بن علي الجواد (ع) أمُّه قبطية مصرية، والإمام علي بن محمد الهادي (ع) أمُّه مغربية، والإمام الحسن بن علي العسكري (ع) أمُّه من صقلية، والإمام محمد بن الحسن المهدي (عج) أمُّه رومية من تركيا.
فقادة الإسلام (ع) على خطى رسول الإسلام (ص)، يضربون المثل الأعلى في تنوع الزيجات، ليرغموا أنف العصبية، وليحققوا على أرض الواقع مُثُل الإسلام وقيمه في التوحد البشري فكلنا لآدم وآدم من تراب، والتقوى هي معيار المواطنة الحقيقية.
ثانيا: ولأن الكرباسي في موسوعته الكبرى الموسومة بدائرة المعارف الحسينية شديد الحرص على توثيق المعلومة نثرية كانت أو شعرية، فإن هذا الحرص المعرفي انسحب بقوة إلى ديوان "فالق الإصباح" فعمد في كل قصيدة إلى ذكر مناسبتها وسبب الإنشاء مع الإشارة إلى الزمان والمكان، وهو بذلك يخط منهجا للشعراء في توثيق كل بيت أو قطعة أو قصيدة دون أن يترك للزمان تفسيراته، الخاضعة بدورها للخطأ والصواب.
ثالثا: في بادرة هي الأولى من نوعها حسب معرفتي، فإن الديوان ضم قرصا مدمجا (س دي) فيه كامل القصائد، إذ لم يكتف الأديب المبدع الدكتور عبد العزيز شبّين، في توظيف أدبه وقلمه في التقديم والتعليق وتقريظ الديوان، وإنما وظف صوته الرخيم في إنشاد القصائد، مما يجعل الديوان في متناول القارئ كتابيا والكترونيا، وبالتالي فإن الكرباسي بفكره المبدع يوظف العلم في النتاج الكتابي بما يجعل أُذُنَ السامع أقرب إلى تذوق الشعر وهو ما يخلق فيه تواصلا حسيًّا وإحساسيًّا.
رابعا: وفي بادرة إبداعية، ختم الشاعر عبد العزيز شبّين تقديمه وتعليقه بقصيدة تقريظية من 96 بيتا ضمّنها كل عناوين قصائد الديوان، فجاءت الأبيات متسلسلة وسلسلة في آن معاً، وحسب ظني دون أن أقطع، فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فإن هذه المرة الأولى من نوعها يقدم شاعر على تقريظ ديوان شعر بهذه الطريقة، ويكون بذلك قد حفظ عناوين قصائد الديوان بين شطري الصدر والعجز، كما حفظت ألفية ابن مالك قواعد اللغة العربية.
في الواقع أن اللغة التي استعملها الكرباسي في "فالق الإصباح" تعتبر كما يذهب الدكتور شبّين من السهل الممتنع: (يكمن جمالها في البساطة، وخيالها في وضوح العبارة، وجلاء الصورة الموحية، وبديع الدَّلالة الموجزة،)، فهي لغة معبّرة جمعت بين الأوزان الخليلية والأوزان الكرباسية، فانبثقت أبجديتها سِفرا تتلألأ بين أسطره سمات الولاء والمحبة والصلاح.
الرأي الآخر للدراسات- لندن
alrayalakhar@hotmail.co.uk