Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أزمة الصناعة العراقية ومحنة الصناعيين وسياسة الحكومة التجارية !

حين تشتد أزمة ما في البلاد وتأخذ بخناق الاقتصاد الوطني والمجتمع وتنتشر البطالة ويسود الفساد المالي , يصبح السكوت عندها مرفوضاً ويعتبر الساكت عن الحق أبليس أخرس. لم تنشأ الأزمة في العراق دفعة واحدة , بل هي نتجية لتراكم عواقب سياسات خاطئة واختلالات حادة وتجاوزات فظة على القوانين الاقتصادية الموضوعية وعلى الإنسان وما ينشأ عنها من عواقب على المجتمع تتسبب في بروز تناقضات اجتماعية وصراعات سياسية. وحين لا يسعى المسئولون المباشرون إلى إيجاد حلول مناسبة لهذه الأزمة وما ينجم عنها من تراكمات سلبية , تتحول في لحظة معينة إلى نزاع سياسي يمكن أن يتفجر بصيغة ما يصعب تقدير نتائجه وعواقبه على الدولة والمجتمع. ومن هنا أقدمت الدول الصناعية المتقدمة إلى تأسيس العديد من معاهد البحث العلمي , النظري والتطبيقي , التي تبحث في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصراعات السياسية والثقافية الداخلية وفي ما بين الدول وتتحرى عن سبل عقلانية لحل تلك المشكلات الاقتصادية والاجتماعية أو السياسية قبل أن تتحول إلى نزاعات سياسية متباينة القوة والعواقب. ويمكن أن تتجنب تلك الحلول التي تقترحها المزيد من التعقيدات المحتملة , ولكنها لا تحل بالضرورة وباستمرار جميع المشكلات لصالح الفئات الكادحة والفقيرة , بل يكون الهدف من معالجتها خدمة مصالح الأغنياء وكبار الرأسماليين واستمرار بقاء النظام الرأسمالي بالارتباط مع طبيعة هذه النظم. وهنا ينشأ صراع طبيعي بين من يحاول إيجاد حلول لصالح الغالبية العظمى من المجتمع ومن يحاول جعلها لصالح الفئات القليلة المالكة الكبيرة لوسائل الإنتاج. ومثل هذه المعاهد يحتاجها العراق بشكل خاص , إذ يمكنها أن تسهم بمعالجة الكثير من الأمور العالقة والمتراكمة عبر العقود المنصرمة , كما هي بحاجة على العديد من معاهد البحث النفسي الاجتماعي.

خلال السنوات الخمس المنصرمة كتب وجرى الحديث كثيراً عن الأوضاع السيئة التي تعاني منها الصناعة العراقية والمحنة الفعلية التي يواجهها الصناعيون العراقيون بسبب السياسات غير العقلانية وغير الحكيمة التي مورست في العراق في فترة الحكم الدكتاتورية المنصرمة والتي تتوجت بأسوأ موقف استبدادي قاهر , يمكن أن يلي تلك الفترة المظلمة التي عاشتها الصناعة العراقية والصناعيون , مارسه المستبد والحاكم بأمره بول بريمر. ولكن هذه السياسة الاقتصادية التي وضعها بريمر بالتعاون مع بعض الخبراء الاقتصاديين والماليين الأمريكيين في العراق , التي لم تضع مصلحة العراق في أولياتها بل مصلحة الاقتصاد الرأسمالي العالمي والشركات الأمريكية العملاقة وفق نموذج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي , لا تزال تمارس في العراق. إذ تشير الوقائع الاقتصادية إلى أن مسئول الملف الاقتصادي في الحكومة العراقية يسير على نفس النهج الذي رسمه بول بريمر ولم يحد عنه قيد أنملة حتى الآن.

ليس خطأ حين نقول أن الحكومة العراقية لا تمتلك استراتيجية تنموية في العراق , ولكن هذا لا يعني في كل الأحوال بأن ليس هناك أكثر من نهج يعبر عن الاتجاهات المتصارعة داخل الحكومة أولاً , كما أن الخط العام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي يمارس في العراق يجسد رؤية المسئول عن الملف الاقتصادي , إنه النهج الذي يعبر عن رؤية اجتماعية وسياسة لبرالية جديدة , ولكنها مشوهة , ومثل هذه السياسة لا تتم خلف الأبواب المغلقة أو الكواليس بل في الهواء الطلق وأمام نظر وسمع الاقتصاديين العراقيين في الداخل والخارج.

قبل أسبوعين تقريباً اطلعت على بعض تفاصيل الندوة المهمة التي عقدها المكتب المهني للحزب الشيوعي العراقي حيث ناقش الحاضرون فيها ورقة عمل حول أوضاع الصناعة العراقية وسبل تطويرها. وقد ناقشت ما جاء في هذه الورقة والندوة في أربع حلقات متتالية. وفي العدد 50 الصادر بتاريخ 30/11/2008 من مجلة "الأسبوعية" التي تصدر في بيروت نشر الكاتب السيد أياد عطية الخالدي تقريراً مهماً حول الصناعة العراقية تحت عنوان "هكذا هزمت الصناعة العراقية". وتجنب الزميل الإجابة عن السؤال التالي: من الذي هزَّم الصناعة العراقية؟

إن الوضع الصناعي الراهن في العراق ليس وليد اليوم , بل هو نتاج سياسات وحروب وغزوات النظام الاستبدادي التي أتت على ما تحقق في العقود التي سبقت الحرب العراقية – الإيرانية. ولكن الفترة التي تلت السقوط تتحمل هي الأخرى مسئولية استمرار ذلك الوضع الذي اقترن بانتهاج سياسة تجارية مفتوحة على مصراعيها ومدمرة تماماً للصناعة الوطنية. وإذا ما استمرت هذه السياسة على حالها الراهن فإنها ستقود إلى تدمير ما تبقى من صناعة وطنية عراقية وما تبقى من قطاع صناعي حكومي. فالسياسة الصناعية الراهنة تهدف إلى الإجهاز على القطاع الصناعي. ولدي القناعة بأن هذه الحالة ليست خافية على السيد نائب رئيس الوزراء المسئول عن ملف الشئون الاقتصادية وعن السيد وزير الصناعة. وحين أتحدث عن الصناعة في العراق عموماً , فأنا اقصد الوضع الصناعي في كُردستان ايضاً , إذ لا يختلف في الجوهر عن النهج ذاته.

يشير التقرير المنشور في مجلة "الأسبوعية" بشكل سليم إلى مشكلات الصناعة ومحنة الصناعيين , وإلى اضطرار الكثير منهم إلى غلق أبواب مصانعهم وتحولهم إلى العمل في الاستيراد السلعي أو المشاركة في الغش الجاري في عرض بعض السلع المحلية للبيع باسماء شركات وماركات أجنبية , أو مغادرة العراق والتوظيف في بلدان أخرى...الخ. والنماذج المحدودة الناجحة التي يقدمها التقرير حالياً يمكن أن تنتهي أيضاً إذا ما تواصلت سياسة الباب المفتوح أمام الاستيراد في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة للعراق. كما أن السعي للإنظمام إلى منظمة التجارة الدولية يزيد من الأمر سوءاً بالنسبة للصناعة العراقية في وضعها الراهن.

في مقالات سابقة حاولت أن أعالج هذه المسألة دون الإشارة إلى المسئولين عنها , ومع ذلك كان في المقدور فهم المقصود منها , ولكن لم يعد من المناسب السكوت عن ذلك وعدم مناقشة المسألة بكل صراحة ووضوح مع السادة المسئولين عن الملف الاقتصادي , وهم من بين مثقفي العراق ومسئوليه السياسيين في هذه المرحلة الحرجة من مسيرة العراق , رغم أن المسئول عن الملف ليس اقتصادياً , كما هو معروف.

ما الذي يمنع تطور الصناعة العراقية , وما الذي يسهم في تدميرها؟

إن مكونات السياسة الاقتصادية العراقية المشوهة الراهنة , رغم تأكيد البعض بعدم وجود سياسة اقتصادية , تشير إلى ما يلي:

1. ممارسة سياسة الباب المفتوح كلية في التجارة الخارجية , وهي باتجاه واحد , أي الاستيراد , في حين أن التصدير يقتصر على النفط الخام.

2. عدم وجود قانون يحمي الصناعة العراقية من المنافسة , بل حتى قانون عام 1929 لحماية الصناعة الوطنية وعديلاته المهمة لم يعد ساري المفعول في العراق الراهن.

3. إن هذين الاتجاهين يعنيان ما يلي: أن الصناعة العراقية التي تتميز بالضعف الشديد أصلاً والتي دمرتها حروب وسياسات النظام السابق , تواجه اليوم مزاحمة شديدة من السلع الصناعية المستوردة بسبب التباين في الجودة والسعر وشكل العرض وغيرها.

4. كما أن سياسة البنك المركزي والبنوك العراقية تسير باتجاه منح التسهيلات الأئتمانية للتجار وتمنعها أو تجعلها في حدها الأدنى لمن يريد التوظيف في القطاع الصناعي. ويجد هذا تعبيره بشكل صارخ في مجال القروض ونسب الفائدة التي لا تساهم في تنشيط الصناعة الوطنية العراقية ولا تشجع أصحاب رؤوس الأموال على توظيف رؤوس أمالهم في الصناعة المحلية.

5. وأن هذه السياسة الاقتصادية تقف اليوم حائلاً بوجه مشاركة الدولة في النشاط الاقتصادي (عدا النفط الخام) والتنمية الصناعية التحويلية , وبالتالي تمنع عملياً دعم القطاع الخاص الصناعي من خلال إنشاء مؤسسات صناعية مختلطة أو قطاع دولة يساعدها على النهوض من خلال توفير مستلزمات نهوض القطاع الخاص بدعم من الدولة وقطاعها الاقتصادي.

6. الابتعاد عن الاستماع بأذن صاغية إلى أراء لاتحاد الصناعات العراقي والصناعيين العراقيين ورجال الأعمال لمعرفة المشكلات التي يعاني منها هذا القطاع وسبل تجاوزها , لأن ليس في تصور ونية المسئولين عن الملف الاقتصاد العراقي العمل من أجل تنمية وتطوير القطاع الصناعي , بل تنشيط التجارة.

7. ولا شك في أن مثل هذه التوجهات ستعيق عملياً تنمية القطاع الزراعي وتحديثه وإيجاد علاقة تنسيق ونمو متناسب بين القطاعين , سواء أكان بالنسبة إلى توفير السلع الزراعية للسوق المحلي الاستهلاكي أم لتوفير مواد أولية زراعية للصناعية المحلية.

ولكن ماذا يترتب عن هذه السياسة الاقتصادية إزاء القطاع الصناعي العراقي على الاقتصاد والمجتمع العراقي؟

كل إنسان له معرفة بمكونات العملية الاقتصادية , يدرك بوضوح ان الصناعة تشكل قاعدة أساسية وجوهرية , وبالتنسيق مع القطاع الزراعي , للنمو والتطور والتقدم الاقتصادي العراقي , وخاصة في بلد يمتلك ما يسهم في بناء وتطوير قطاع صناعي. وحين تغيب هذه القاعدة يبقى الاقتصاد العراقي ليس مكشوفاً على الخارج فحسب , بل وتابعاً له وخاضعاً لإرادته , ولن يكون هناك أي قرار اقتصادي مستقل في البلاد , كما سيبقى وحيد الجانب وعاجزاً عن تحقيق التراكم الرأسمالي والتحول صوب المجتمع المدني الديمقراطي المنشود. إن هذا التوجه يعني دون أدنى ريب ما يلي:

1 . بقاء الاقتصاد العراقي اقتصاداً نفطياً ريعياً ومستورداً ومستهلكاً للسلع الاستهلاكية المنتجة في اقتصاديات دول أخرى ومستنزفاً لموارده المالية في الاستيراد بدلاً من مشاركة تلك الأموال في الإنتاج.

2 . بقاء الاقتصاد وحيد الطرف في تطوره وكولونيالي التركيب في بنيته وعاجز عن تحقيق الوحدة العضوية في عملية إعادة الإنتاج الموسعة وخلق الديناميكية الذاتية في الاقتصاد العراقي.

3 . استمرار الاستهلالك لموارد النفط المالية دون تحقيق التراكم والإغناء الضروري للثروة الاجتماعية من مصادر أخرى غير النفط الخام.

4 . استمرار وجود البطالة وتناميها , إذ أن التنمية الصناعية لا تعني إقامة مشاريع صناعية فقط , بل تعني ايضاً مجموعة كبيرة من المنشآت الإنتاجية والخدمية التكميلية التي تنشأ بالارتباط مع الصناعة الوطنية.

5 . بقاء بنية المجتمع الطبقية من دون تغيير يذكر , وهذا يعني استمرار غياب الطبقة الوسطى الصناعية والزراعية والطبقة العاملة المنتجة للخيرات المادية في المدينة والريف واستمرار الضعف في قطاع صغار المنتجين , الذي يوفر الأرضية الصالحة لبناء المجتمع المدني الديمقراطي والمساهمة في تعميق وعي الفرد والمجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وحقوقياً وبيئياً.

6 . ويعني بدوره أن يبقى المجتمع ريفياً أو يستند إلى المرجعيات العشائرية والدينية ويعيش الماضي في الحاضر حيث تتفاقم فيه وعليه الأزمات ويحتدم فيه الصراع ويضعف دور المثقفين الديمقراطيين في حياة المجتمع.

نشر السيد عبير عبد الهادي من مقر القـــيادة المركزية الأمريكية في ذي قار في موقع البرلمان العراقي تقريراً تحت عنوان "برنامج المنطقة الصناعية في العراق وتأثيره على استقرار الإقتصاد" بتاريخ 23/10/2008 جاء فيه ما يلي:

"ففي الثالث عشر من شهر أكتوبر 20008, إجتمع عددٌ من رجال أعمال منطقة ذي قار مع مسؤولين عسكريين من قوات التحالف من قاعدة "أدير" وفريق إعادة الإعمار المتواجد في المنطقة الصناعية من العراق لمناقشة عملية تشجيع تطوير المشاريع التجارية الصغيرة. وسيوفر البرنامج الوسائل التي من شأنها أن تؤثر بطريقة مباشرة على الإقتصاد في محافظة ذي قار من خلال توفير فرص العمل وبرامج التدريب في مجالات عديدة. وقد صرح الرائد "توم أوزبورن", مدير برنامج المنطقة الصناعية, أن هذا البرنامج سيضع العراقيين على بداية طريق النجاح. كما يعتقد عبد الجبار الهادي, عضو في فريق إعادة الإعمار, وعضو في البرنامج, أن هذه الاتجاهات ستساعد المواطنين في المنطقة. كما أضاف السيد عبد الجبار قائلاً "نحن نحتاج مثل هذه المشاريع لتشجيع مواطنينا, ومن أجل تطوير نظامنا نحتاج أن نتعرف أكثر على هذا البرنامج, وهو بدون شك سيعمل على حماية وتطوير حالة الإقتصاد هنا." كنت أتوقع أن يتحدث عن مشروعات صناعية في المنطقة الصناعية في ذي قار , وإذا به يتحدث عن تطوير مشاريع تجارية صغيرة لسلع مستوردة من الخارج!! هذا هو ما تسعى إليه منظمة التجارة الحرة والخبراء الأمريكيون في العراق.

العراق بحاجة إلى اقتصاد وطني حركي , إلى صناعة وطنية متقدمة وإلى زراعة حديثة للمشاركة في استيعاب البطالة الراهنة بين الرجال والنساء , وإلى تجارة تنشط الاقتصاد الوطني من خلال استيراد سلع إنتاجية تسهم في تطوير الاقتصاد وتزيد الدخل القومي وليس إلى سلع استهلاكية فقط تستنزف موارده المالية , وإلى إغناء وتنويع مصادر نمو الدخل القومي وزيادة السيولة النقدية وتحسين ظروف العمل ومستوى حياة الشغيلة المنتجة , وإلى قطاع خدمات متقدم وحديث. العراق بحاجة إلى مراكز للبحث العلمي الصناعي والزراعي والبيئي وبحاجة إلى مزيد من المعاهد والدراسات العلمية والفنية والمهنية , وإلى المزيد من البعثات والزمالات العلمية والفنية والمهنية وإلى الكثير من الكوادر القادرة على تنشيط العملية الاقتصادية في العراق , بحاجة إلى دائرة علمية متقدمة مسئولة عن تحديد المقاييس العلمية في الإنتاج والسلع المستوردة , كما أن العراق بحاجة إلى استراتيجية اقتصادية وصناعية وزراعية وعلمية وبشرية. ولا بد لوزارة التخطيط من النهوض بهذه المهمة الكبيرة بالتعاون مع بقية الوزارات المعنية. وكل هذا لا يزال بعيد المنال , فمتى يتوجه السادة رئيس الوزراء ونائب رئيس الوزراء المسئول عن الملف الاقتصادي ووزير التخطيط صوب معالجة المشكلات الحقيقة للاقتصاد العراقي؟

إن الوضع الأمني المتحسن يتكرس فعلاً من خلال تنشيط وتطوير العملية الاقتصادية وإيجاد فرص عمل للعاطلين وتحسين مستوى معيشة وظروف عمل وحياة الكادحين والفقراء والمعوزين الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكان العراق , ووضع حد للإغتناء غير المشروع والفساد المالي والإداري السائدين في العراق. وإذا ما تعذر ذلك سوف يصعب الحصول على الأمن المنشود والسلام الاجتماعي.
Opinions