أزمة الكِتاب في العالم العربي
مما لاشك فيه أن أحد أهم المعايير لتطور وتقدم الشعوب في مختلف بلدان العالم يتمثل بمدى الاهتمام بالكتاب والمؤلف في هذا البلد أو ذلك، ونسبة عدد ونوعية ما يصدر من الكتب بالنسبة للبلدان الأخرى، وبشكل خاص الدول المتقدمة التي عادة ما تكون أكثر اهتماماً بالعلم والعلماء، وبما يصدر من كتب في مختلف المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والثقافية والأدبية.وتعير هذه الدول شديد الاهتمام بالكتاب والمؤلفين والأدباء والشعراء والفنانين، لما يتمتعون به من منزلة كبيرة في المجتمع، وتقدم لهم مختلف أنواع الدعم المادي والمعنوي من أجل التفرغ، ومواصلة الجهود في أبحاثهم، مدركة أن تطور المجتمع منوط بما يكتسب المواطن فيها من علم وثقافة ومعرفة.
ومن المؤسف حقاً أن يجري في عالمنا العربي اليوم هذا النكوص الرهيب في هذا المجال ، وعزوف القراء عن القراءة، ويغدو الكتاب سلعة ثانوية في حياة المواطن العربي، ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين عدد ونوعية الكتب التي كانت تصدر في العالم العربي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وبين حالها اليوم لهالنا الأمر، ولتبين لنا هذا النكوص بشكل جلي مما يشكل ردة كبرى في المستوى الثقافي والاجتماعي والعلمي، إذا ما قيست بما جرى من تطور وتقدم في هذا المجال في الدول المتقدمة ، وهذا أمر في غاية الخطورة، ويتطلب المعالجة الحقيقية من قبل الحكومات العربية والمؤلفين ودور النشر جميعاً. فاليد الواحدة لا تصفق، ولا بد من تعاون الجميع من أجل دراسة معمقة لأزمة الكتاب العربي المستفحلة هذه الأيام.
ومن أجل إجراء دراسة جدية حقيقية، ووضع الخطوط العريضة لحملة واسعة النطاق في عالمنا العربي لاستعادة دور الكتاب، والنهوض بالمجتمع العربي، وانتشاله من وضعه الحالي يتطلب الوقوف على أسباب هذا النكوص من أجل التوصل إلى أنجع الطرق والأساليب التي نستعيد فيها دور الكتاب والمؤلف من جهة، وتقديم ما ينفع المجتمع العربي بوجه خاص، والمجتمع الإنساني بوجه عام ، ويساهم في تلاقح الحضارات، وتبادل المعرفة، والعمل المشترك من أجل خلق عالم أفضل ، عالم تسوده شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة منذ نصف قرن، والتي مع شديد الأسف لا تلقى الاحترام من قبل معظم الأنظمة العربية على الرغم من تصديق حكوماتها عليها.
إن المعالجة الجدية لازمة الكتاب العربي تتطلب تحقيق الأمور الأساسية التالية :
1 ـ الاهتمام الجدي والحقيقي من قبل الأنظمة العربية بمسألة الحرية والديمقراطية ، وفسح المجال واسعاً أمام الكتاب والمؤلفين للكتابة بكل حرية، ودون رقابة سوى رقابة الضمير، ورفع القيود على مختلف الكتب التي تدعو لتثبيت القيم الإنسانية، وتمجد الإنسان، وحقه في الحياة والحرية واكتساب المعرفة، وحرية انتقال الكتاب من وإلى العالم العربي، والكف عن سياسة عزل المجتع العربي عن محيطه الإنساني الواسع.
2 ـ رفع هيمنة رجال الدين وتدخلهم الفض في حياة المؤلف، وتهديده بمختلف الأشكال والأساليب بدعوى مخالفة الشريعة، وغيرها من الأمور البائسة الأخرى التي عفا عليها الزمن، كاتهام المؤلف بالكفر وتهديده بالقتل، كما جرى بالنسبة للعديد من الكتاب المعروفين في العالم العربي كالدكتور نصر حامد أبو زيد والدكتورة نوال السعداوي والعديد غيرهم من الكتاب، والذين يستهدفون تنوير الشعوب العربية، وتشذيب الدين من الشوائب التي ألحقتها به المؤسسات الدينة، لا حرصاً على الدين، بل لتحقيق أهداف سياسية. ولا بد لي أن أشير هنا إلى قول المفكر الكبير الأمام محمد عبدو عندما قال بصراحة [ تسييس الدين يفسد الدين والسياسة معا] .
3 ـ ضرورة الاهتمام الجدي والحقيقي بالكتاب والمؤلفين من قبل الأنظمة العربية، والعمل على تأمين كل المستلزمات الضرورية المادية والمعنوية والحماية، ورفع مستواهم المعيشي بما يليق بهم وبعلمهم وثقافتهم، ودورهم في تنوير المجتع وتطوره ورقيه إلى مصافي الشعوب التي سبقتنا بمراحل طويلة.
4 ـ مسؤولية الأنظمة العربية في دعم الكتاب والمؤلف الذي يبذل عصارة جهده ويقضي معظم سنوات حياته في الانكباب على البحث والكتابة، ولا يستفيد من نتاجاته سوى القليل والقليل جداً، هذا إذا ما قلنا أن العديد مهم يخسرون من موردهم الضئيل في أغلب الأحوال، وهناك العديد من الكتاب الذين بقيت كتبهم مخطوطة دون أن تتاح لهم الفرصة لطبعها بسبب الكلفة العالية للطباعة، واستئثار دور النشر والتوزيع بجهود وأتعاب الكاتب.
5 ـ إلاء الاهتمام من قبل الأنظمة العربية بالكتب الجيدة، وتولي طباعتها على حسابها مع تقديم مكافئة جيدة تتناسب وأهمية الكتاب، من أجل تشجيع الكتاب والمؤلفين على مواصلة العمل في مجال البحث والتأليف، والحد من نشر الكتب الرخيصة التي باتت اليوم هي الكتب السائدة في سوق الكتب والتي يعرفها الجميع.
6 ـ معالجة مسألة السطو على جهد الكتاب والمؤلفين، ووضع القوانين صارمة لمعاقبة الذين يمارسون السرقة الأدبية والعلمية، وهناك دور نشر قد مارست السرقة، وطباعة الكتب للعديد من الكتاب من دون موافقتهم ، وهذا ما حصل لي شخصياً حيث جرى طبع احد كتبي في أحدى دور النشر في بغداد من دون علمي، ودون أن أستطيع أن أقاضي دار النشر بسبب الوضع الأمني في العراق وفقدان القانون.
7 ـ أن أهم جانب في نشر وتوزيع الكتاب على نطاق واسع يتعلق بالوضع المعيشي البائس للأغلبية الساحقة من المجتمع العربي، الذي بات لا يفكر إلا في تأمين لقمة العيش، حتى بات الكتاب سلعة كمالية بعيدة المنال بالنسبة لهم، وإذا ما أجرينا مقارنة بسيطة بين عدد قراء الكتب في المجتمعات المتقدمة والمجتمع في عالمنا العربي لهالنا الأمر، ففي المجتمع الأوربي على سبيل المثال يندر أن لا تقتني العائلة الكتب باستمرار معتبرة إياها غذاء ضرورياً كضرورة الطعام لحياة الانسان، وهذا يتطلب من الأنظمة العربية معالجة مشاكل البطالة والفقر التي تنخر بالمجتمع العربي، على الرغم من الموارد الهائلة لمعظم دول العالم العربي الغني بالنفط، وغيره من الثروات الأخرى ، ولقد هالني أن أشاهد، وشاهد العالم أجمع قبل أيام عبر أجهزة التلفزة كيف يبحث المواطنون العراقيون الفقراء في القمامة عن فضلات الغذاء ليسدوا بها رمقهم ورمق أطفالهم في بلد يطفو على بحر من النفط الذي جاوز سعر البرميل الواحد منه 102 دولار ، فكيف يفكر هذا الإنسان بشراء الكتاب ؟؟
إن مسؤولية الحكومات العربية تجاه شعوبها تقتضي الإسراع بمعالجة مشكلة البطالة والجوع والفقر والأمراض، ورصد الأموال اللازمة للنهوض بمستوى معيشة شعوبهم، فثروات البلاد هي ملك للشعوب، وليست ملكاً للحكام.