Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أسباب ثورة 14 تموز 1958*

ضرورات التغيير
هناك بديهية مفادها أن كل مرحلة تاريخية هي وليدة المرحلة السابقة، لذلك فمن نافلة القول أن بذور ثورة 14 تموز قد نمت في رحم العهد الملكي نفسه. والثورات لا يمكن تفجيرها "حسب الطلب" أو بفرمان من أحد وإنما هي نتيجة لانفجار تراكمات ومظالم ومتطلبات سياسية واجتماعية واقتصادية، وعندما تنتفي الوسائل السلمية الديمقراطية لتحقيق هذه التحولات المطلوبة، وتتوفر لها الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، عندئذِ يحصل التغيير بالعنف الدموي وما يصاحب ذلك من هزات عنيفة واضطرابات خطيرة في المجتمع، بغض النظر النتائج والعواقب.



كذلك يجب التوكيد على إن ثورة 14 تموز كانت الإبنة الشرعية لثورة العشرين (30 حزيران 1920) ووريثتها، مضموناً وفكراً والتي أرغمت المستعمرين الإنكليز في الإستجابة لمطالب الشعب العراقي في تأسيس الدولة العراقية فيما بعد، كما مر في فصل سابق من هذا الكتاب. إلا إن الإستقلال السياسي بقي ناقصاً دون طموحات الشعب وقواه السياسية، وكانت الدولة مرتبطة بمعاهدات جائرة، لذلك استمرت الإنتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية والانقلابات العسكرية، تتفجر بين حين وآخر، وكانت ثورة 14 تموز تتويجاً لتلك الانتفاضات والحركات السياسية ومكملةَ لثورة العشرين، إذ حققت طموحات الشعب العراقي في إنجاز استقلاله السياسي الكامل وسيادته الوطنية، ومهدت السبيل للسيطرة على ثرواته الطبيعية مستقبلاً.



سأحاول قدر الإمكان، وبشكل موثق، إثبات إن المسئول الأول والأخير عن اندلاع ثورة 14 تموز 1958، هو النظام الملكي نفسه، ونوري السعيد تحديداً، الذي وقف ضد الديمقراطية والتحولات الاجتماعية وأمعن في انتهاك حقوق الجماهير الديمقراطية، وأعاق مؤسسات المجتمع المدني، وأوقف التطور السلمي التدريجي، ووقف عقبة كأداء أمام التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها قوانين التطور إلى أن استنفد دوره. وحتى الانتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية فشلت في تغيير سياسة السلطة نحو الأفضل بسبب القمع، لذلك صرح قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم مرة: " لو اعتقدنا أنه كان باستطاعة الشعب أن يزيل كابوس الظلم الجاثم على صدره، لما تدخلنا بالقوة المسلحة، ولكننا كنا نعرف أن الناس كانوا يائسين ولا من يدافع عنهم ."



تدشين مرحلة الانقلابات وتسييس العسكر

يحاول البعض، سواء عن جهل أو عمد، تحميل ثورة 14 تموز 1958 تبعات سياسات النظام البعثي الساقط في العراق وما حل بهذا البلد من خراب ودمار لاقتصاده وتمزيق وحدته وتلويث بيئته وتدمير نسيجه الاجتماعي وتشريد أكثر من أربعة ملايين من أبنائه إلى الخارج، وتحويل الوطن إلى سجن كبير لمن لم يستطع الخروج منه… يعتقد هؤلاء، أنه لولا ثورة 14 تموز لما ابتلى العراق بهذا النظام ولما نزلت عليه هذه الكوارث. فهؤلاء يذكرون فقط ما حصل بعد الثورة، ويتجنبون ذكر ما كان يجري قبل الثورة من مظالم، أي الأسباب التي أدت إلى تفجيرها.



وقد استغل أنصار عودة الملكية، وحتى البعض ممن أيدوا الثورة في وقتها، هذا الوضع المزري الذي عاشه العراق في عهده الجمهوري البعثي، وتبعات سقوطه، فيلقون باللائمة على ثورة 14 تموز وقادتها، والزعيم عبدالكريم قاسم تحديداً، مسؤولية تسييس العسكر وتسلطهم على الحكم ومقدرات البلاد والعباد، وأنها دشنّت عهداُ للانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار. ويدّعون أيضاً، أن العهد الملكي كان عهداً ديمقراطياً زاهراً مستقراً، فيه دستور وانتخابات وبرلمان وأحزاب معارضة ديمقراطية، كانت تمارس نشاطاتها بحرية تحت قبة البرلمان، وحقق تقدماً واسعاً في التطور الاجتماعي والاقتصادي، وكان نبتة طرية لبناء المجتمع المدني ومؤسساته الديمقراطية "لولا اقتلعها عبد الكريم قاسم" على حد تعبير أحدهم. وبذلك فهم يدَّعون أنه لم تكن هناك أسباب كافية لقيام "الإنقلاب" وإن ما حصل في 14 تموز 1958 كان نتيجة طيش بعض الضباط المغامرين في الجيش لتحقيق طموحاتهم في السلطة والجاه.



إن سبب هذا التفسير الخاطئ لما لحق بالعراق في عهد صدام حسين من دمار، هو لأن العراق يعيش مرحلة الإنحطاط الحضاري والإنهيار الوطني، منذ تسلط حزب البعث على السلطة. والإنهيار الوطني يصاحبه عادة إنهيار فكري، إذ يسيطر اليأس والإحباط على النفوس في الخلاص من الوضع المزري، وتحصل البلبلة والتشويش، فيلجأ قطاع واسع من الناس إلى الإيمان بالخرافات والتفسيرات الغيبية، فيفسرون ما حصل انه عقاب من الله تعالى لإبتعادنا عن تعاليم الدين، وانه امتحان لنا بهذا البلاء. لذلك نجد قسماً كبيراً منهم، يلجئون إلى الغيبيات والدين متضرعين إلى الله تعالى، طالبين العفو والغفران عن المعاصي لخلاصهم من هذا الظلم.



وهذا الإنهيار الفكري لم يشمل الناس البسطاء في المدن والأرياف فحسب، بل أثر بشكل وآخر حتى على عدد من المثقفين. فلن نستغرب أن نرى شخصاً كان بالأمس متحمساً للماركسية وإذا به الآن يدعو للورع والتقوى والتدين. هذه هي ظاهرة الإنهيار الفكري التي تصاحب الإنهيار الوطني في كل مكان وزمان نتيجة الشعور باليأس والإحباط في الخلاص من الكارثة، لأنها فقدت الثقة والأمل بتحقيق الخلاص من هذه المحنة عن طريق النضال الحاسم والقوى المادية، فتلجأ النفوس إلى الإيمان بالخرافات والغيبيات والقوى الخارقة الميتافيزيقية.. الخ أملاً في الخلاص... (طالبين النصر من عنده تعالى- على حد تعبير نزار قباني).



ولا نستغرب أيضاً من تفسيرات غريبة وعجيبة يطلقها هذا المثقف أو ذاك في تفسيرات مشبوهة أو خرافية وغير معقولة لتعليل هذه الظاهرة أو تلك، متصيدين بالماء العكر في عملية خلط الأوراق وحرق الأخضر بسعر اليابس. ومن الجدير بالذكر أني ذكرت مثل هذا الكلام في إحدى الندوات في شمال شرق إنكلترا عام 1998، إبان الحملة الإيمانية التي دشنها صدام حسين، فقاطعني أحد الحضور بغضب، متهماً إياي بالكفر، مدعياً إن هذا التوجه الإيماني والحملة الإيمانية في العراق بعد حرب الخليج الثانية، ما هو إلا من الله تعالى الذي أدخل الإيمان في قلوب العراقيين. فذكرته بأن هذا السلوك ليس غريباً على الدين وقد جاء ذكره في القرآن الكريم أيضاً وتلوت عليه الآية الكريمة: "وإذا مسكم الضر في البحر من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً" (الآية67، سورة الإسراء). إن لجوء الإنسان إلى الله أيام المحنة فقط وتخليه عنه فيما بعد ليس بالأمر الجديد. وتكفير الآخرين أصبح أمراً مألوفاً في هذا الزمن الرديء. لذلك فلا عجب أن نواجه بعضاً من هذه التفسيرات الخاطئة ومنها تحميل ثورة 14 تموز تبعات ما حصل في العراق على يد النظام البعثي في العراق. وهذا التفسير الخاطئ هو نتيجة الإنهيار الفكري وإستثمار الأزمة لأغراض مشبوهة من قبل البعض.



إن إلقاء تهمة تسييس العسكر وتدشين مرحلة الانقلابات على ثورة 14 تموز لم يصمد أمام أية مناقشة منصفة، إذ لم يكن العسكر غرباء عن الدولة العراقية في عهدها الملكي، فأغلب المساهمين في تأسيس الدولة العراقية كانوا من العسكر، سواءً الذين عرِفوا بالضباط الشريفيين من خريجي المدرسة العسكرية التركية، ومنهم نوري السعيد نفسه الذي كان برتبة جنرال والذي تولى رئاسة الحكومة 14 مرة. كذلك ياسين حلمي الهاشمي، والفريق جعفر العسكري والفريق نوري الدين محمود وجميل المدفعي وغيرهم تسلموا رئاسة الحكومة في العهد الملكي وكانوا عسكريين من الضباط العراقيين في الجيش العثماني. لا بل أن العسكر قد وجدوا حتى قبل تأسيس الدولة العراقية، بمعنى أنهم كانوا مسيّسين قبل تأسيس الدولة، ولهم دور كبير في تأسيسها. وكون العراق يعيش وضعاً متخلفاً كأي بلد في العالم الثالث، فالدولة كانت تابعة للجيش وليس الجيش تابعاً للدولة.



لذلك، فمرحلة الانقلابات العسكرية لم تبدأ بيوم 14 تموز 1958 كما يدعي البعض، وإنما دشنت في العهد الملكي نفسه بانقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936، (ويعتقد البعض أن الملك غازي كان مشاركاً به) وما تلاه من خمسة انقلابات عسكرية مستترة أخرى، وأحداث مايس 1941 بقيادة العقداء الأربعة والتي عرفت بحركة رشيد عالي الكيلاني. وكانت هناك محاولات انقلابية عسكرية لم يكتب لبعضها النجاح، كلها حصلت في العهد الملكي أي قبل 14 تموز 1958[1]. وبذلك فإن تسييس العسكر قد حصل في العهد الملكي، وإن ثورة 14 تموز هي نتيجة وليست سبباً له.



الثورة والتطور السلمي التدريجي

وإنصافاً للتاريخ يجب أن يذكر أن العهد الملكي لم يكن شراً كله، كما يدعي بعض أنصار الثورة، كما ولم يكن خيراً كله وازدهاراً عميماً كما يدعي أنصار الملكية، بل كانت هناك جوانب إيجابية تبشر بالخير لو سارت الأمور كما كان مخططاً لها من قبل المخلصين من أمثال الملك فيصل الأول. أقول لا يمكن لأي منصف أن ينكر دور الملك والسياسيين الأوائل من أتباعه فيما بذلوا من جهود مضنية في تأسيس الدولة العراقية الحديثة وبمساعدة الإنكليز بعد تحرير العراق من الاستعمار التركي العثماني المظلم وما أعقب ذلك من تململ الشعب العراقي في ثورة العشرين. إذ كان العراق يسير بقيادة فيصل الأول بخطى ثابتة ومتزنة على طريق التطور السلمي التدريجي لبناء دولة عصرية دستورية وديمقراطية وفي أشد الظروف تخلفاً وصعوبةً. ولا يمكن أن نقلل مطلقاً من الصعوبات التي واجهها الرواد الأوائل في بناء الدولة العراقية.



ولكن هذا التطور السلمي التدريجي توقف بوفاة الملك فيصل الأول، ولم يكن ابنه الملك غازي مهتماً بالشأن العام، وبعد مصرعه عام 1939، تسلط الثنائي نوري السعيد وعبد الإله على مقادير السلطة. ويؤكد هذه الفرضية الباحث الدكتور كمال مظهر أحمد فيقول: "وفي الواقع إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام (الملكي) في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء، سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة".[2]



لذا فإني اعتقد جازماً أن نهاية النظام الملكي قد بدأت عملياً برحيل أحد مؤسسيه وهو الملك فيصل الأول، ولم يحصل أي نوع من الاستقرار السياسي في العراق منذ وفاته عام 1933 حيث فقدت الحكومة العراقية هيبتها، وصار نوري السعيد هو الحاكم المستبد في العراق، ولعب دوراً كبيراً في إيقاف عجلة التطور السلمي التدريجي وتجميد أو تهميش الدستور وبدأت مرحلة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. وكانت الأحكام العرفية هي القاعدة وليست استثناءً، حيث أُعلِنَتْ 16 مرة بين 1932 و1958.

لقد كان فيصل الأول سياسياَ محنكاَ بالفطرة والتجربة وذو ثقافة سياسية واجتماعية جيدة نسبياً وفق معايير وظروف ذلك الزمان، فكان يلتقي باستمرار بقوى المعارضة والشخصيات الوطنية ورجال الدين ورؤساء العشائر، ويستمع إلى آرائهم وطلباتهم، ويشرح لهم الصعوبات التي تواجه الدولة في تلك المرحلة، وكان يطمئنهم على تحقيق مطالبهم على شرط أن لا يحاولوا فرضها على السلطة بالقوة، وأن هذه الطلبات ستتحقق مع الزمن وأن خيراً عميماً سينتظرهم إذا ما تجنبوا العنف. لذاك سارت الأمور في عهد فيصل بهدوء وكان التطور يجري بسلام.

ولكن بعد وفاة فيصل تغيّرت الأمور رأساً على عقب وامتنعت السلطة عن أي حوار أو تفاهم مع المعارضة الوطنية. فكان نوري السعيد غير ملمٍّ بفن التواصل والتفاهم مع الآخرين، إذ لم يكن خطيباً ولا كاتباً ولم يهتم بالدعاية والإعلام من أجل شرح سياساته وإقناع الجماهير والمعارضين له بجدواها، وكان ينظر إلى الجماهير نظرة استخفاف، مستهيناً بالمعارضة، معتمداً كلياً على الجيش في حمايته، وشيوخ الإقطاع في إدارة الحكم واستمراره في السلطة وفق مقولته المعروفة (دار السيد مأمونة).



ونعود للسؤال الذي يطرح نفسه دائماً وهو: أما كان الأجدر بالقوى السياسية والعسكرية الانتظار ومحاولة تغيير الوضع بالطرق السلمية وهل كانت هناك حاجة لثورة مسلحة كثورة 14 تموز 1958؟



والجواب هو إن التطور سنة الحياة، ويشمل كل شيء في الوجود، في المجال البايولوجي والبيئي وحتى في شكل القارات ومواقعها، وكذلك فيما يخص التطور الحضاري والاجتماعي والسياسي. فهذا الوضع الحضاري المتقدم الذي يعيشه العالم اليوم في الغرب لم يحصل بين يوم وليلة بل حصل من خلال هزات وكوارث تاريخية واجتماعية وحروب وثورات وزلازل وبراكين سياسية على مر العصور، وهذه مسألة طبيعية جداً في حركة التاريخ ومساره. فالتطور حتمي ويشمل جميع الأشياء ومجالات الحياة، فإما أن يحصل بصورة سلمية إذا لم تقف الحكومات عائقاً أمامه، أو على شكل ثورة عارمة تجرف أمامها كل عائق إذا ما وقفت الحكومات عائقاً للتطور السلمي التدريجي. وهذا هو منطق الحياة في كل زمان ومكان.

وهناك مقولة ماركسية تفيد بأن التراكمات الكمية تؤدي إلى تحولات كيفية (نوعية). ويوضح ذلك الراحل حسين مروة فيقول: "يرشدنا المنهج العلمي إلى حقيقة مهمة في تاريخ تطور المجتمعات البشرية والحضارات، هي أن التراكمات الكمية ضمن مجرى هذا التاريخ يمكن أن يتخذ أشكالاً مختلفة في تحولها الكيفي. يمكن مثلاً، أن تتحول إلى كيفية سياسية، أو اجتماعية، أو فكرية نظرية، أو إلى نوع من العنف الثوري. لقد تابع انجلس أشكال المعارضة الثورية للإقطاع في القرون الوسطى كلها، فوجد أن الظروف الزمنية، كانت تظهر هذه المعارضة حيناً في شكل تصوف، وحيناً في شكل هرطقات سافرة، وحيناً في شكل انتفاضات مسلحة. إن شكل التحول الكيفي في هذا المجتمع أو ذاك، وفي هذا الزمن أو ذاك، إنما تحدده طبيعة الظروف الملموسة، وربما كانت الظروف هذه مؤهلة وناضجة أحياناً لحدوث تحولات كيفية مختلفة الأشكال في وقت واحد، أي قد تجتمع في ظروف معينة تحولات سياسية واجتماعية وفكرية معاً، قد ترافقها انتفاضات مسلحة، وقد تأتي هذه التحولات تمهيداً لانتفاضات مسلحة، وقد يستغني بها التطور عن أشكال العنف الثوري كلياً."[3]



إذن هناك حاجة ملحة للتطور السياسي ليتناسب مع حاجة الشعب من الناحية الاجتماعية والمعيشية، أي الوضع المادي الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات.. الخ. فإذا كانت السلطة واعية لهذه القوانين وتسمح بالتقدم والتطور حسب ما تقتضيه المرحلة، يحصل هذا التقدم تدريجياً بدون هزة ثورية ودون الحاجة إلى عنف وسفك دماء. أما إذا كان الحكام لا يؤمنون بالتطور وأنانيين ولا يعترفون بالحاجة إلى التغيير لمواكبة التطور والاستجابة لحاجة الشعب إلى التغيير، فتكون هذه السلطة رجعية ومحافظة تعمل على إبقاء ما كان على ما كان، كما يقال، وتقمع أية محاولة لمواكبة التطور. ومع مرور الزمن تزداد الحاجة إلى التغيير ويحتدم الصراع بين قوى التجديد والقوى المحافظة (السلطة) فتضطر السلطة الرجعية ومن أجل بقائها في الحكم، إلى استخدام العنف والإرهاب والقوة لقمع القوى المطالبة بالتغيير، إلى أن تتراكم الحاجة إلى التغيير مع الزمن أكثر فأكثر وتصل حداً تصبح الحياة غير ممكنة مع الوضع القديم، عندئذٍ ينهار الجدار العائق أمام السيل العارم، ويحصل الطوفان، الانفجار الثوري والذي يحرق الأخضر واليابس، فتأتي سلطة تستجيب لحاجات التطور الاجتماعي ورغبات الشعب. إن القانون الفيزيائي المعروف: الضغط يولد الانفجار، ينطبق على جميع مجالات الحياة، الاجتماعية والسياسية وغيرها.

لذلك فالتطور يفرض نفسه، إما بصورة سلمية كما يحصل في الأنظمة الديمقراطية أو بالثورة المسلحة الدموية كما في الأنظمة المستبدة. ففي النظام الديمقراطي، توجد حكومة منتخبة من قبل الأغلبية من الشعب تحاول قدر المستطاع أن تستجيب لرغبات الناخبين. لنفرض أن جاء حزب محافظ إلى السلطة ديمقراطياً. فهذه السلطة تحاول الحفاظ على ما هو موجود من قوانين محافظة لأوضاع اجتماعية معينة وفي مرحلة تاريخية معينة. وتكون هناك أحزاب معارضة تراقب السلطة وتحاسبها على كل شيء وتوجه لها النقد ضد الأخطاء. وبمرور الزمن تفرض الحياة أموراً جديدة تتطلب التغيير، لكن سلطة الحزب المحافظ ترفض التغيير، إلى أن يؤمن الأغلبية من الناخبين أن مصالحهم أصبحت مهددة بوجود سلطة المحافظين، وهناك ضرورة ملحة للتغيير بسبب التراكم الكمي، ففي الانتخابات القادمة يأتي الناخبون بالحزب الذي يضع في بيانه الانتخابي برنامجاً يستجيب لحاجة الناس إلى التغيير.



وهكذا تأتي السلطة الجديدة التقدمية بالمعنى العصري فتأتي بالقوانين الجديدة التي تتماشى مع متطلبات المرحلة وتبقى في الحكم وتستمر بخلق قوانين جديدة إلى أن تذهب بعيداً أكثر مما يتحمله الشعب، عندئذٍ يأتي دور المحافظين لإيقاف التغيير وإعطاء الشعب وقتاً كافياً لهضم واستيعاب ما هو موجود إلى أن يصبح الجديد قديماً في المستقبل ويتعداه الزمن، وتستجد أمور أخرى وتشتد الحاجة للتغير مرة أخرى فتعود الدورة من جديد ويأتي الحزب الذي مع التجديد إلى السلطة. وهكذا يتم تداول السلطة بين الأحزاب المحافظة والمجددة بالتناوب بصورة سلمية حسب الحاجة للتغيير أو البقاء على الموجود، بدون سفك دماء عملاً بالقول: Ballet instead of bullet. أي تغيير السلطة بقصاصة ورقة بدلاً من الرصاص. فالمجتمع في الأنظمة الديمقراطية يسير على رجلين، رجل تتحرك إلى الأمام ورجل ثابتة على الأرض للاستراحة!

وأفضل وصف لظاهرة الثورات جاء في كتاب (عصر القطيعة مع الماضي) للمفكر الأمريكي

(Peter F. Drucker) فقال: "أن الثورة لا تقع ولا تصاغ ولكنها (تحدث) عندما تطرأ تغييرات جذرية في الأسس الاجتماعية تستدعي (إحداث) تغييرات في البنية الاجتماعية الفوقية تتماشى مع (التغييرات) التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم يُستَبقْ إلى هذه الأحداث تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية التي جمدت على حالة اللاتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي لا ضمانة على أنها ستكون عملاً عقلانياً ستثمر أوضاعاً إنسانية إيجابية".



وبناءاً على ما تقدم، فاللجوء إلى الثورة المسلحة في العراق، كان أمراً محتوماً وذلك لعدم سماح الحكم الملكي- السعيدي بإجراء التغييرات المطلوبة بالوسائل الديمقراطية السلمية. ومن هنا نعرف أيضاً إن ثورة 14 تموز كانت ثورة حتمية ومن غير الممكن تجنبها في ظل الأوضاع السائدة آنذاك. والذي يقول إن الثورة قامت بها مجموعة من الضباط المغامرين بدوافع ذاتية بحتة، فإنما يدل على عدم إطلاعه على قوانين التطور وجهله بتاريخ العراق. وهذا لا ينكر وجود بعض الضباط المغامرين ضمن تنظيمات الضباط الأحرار بدوافع ذاتية في الحكم، ولكن نؤكد مرة أخرى أن هؤلاء لا يمكنهم تفجير ثورة ما لم تكن الظروف الموضعية مهيأة للثورة.



الدستور (القانون الأساسي)

نعم كان في العراق في العهد الملكي دستور مدوَّنْ يصلح لأرقى المجتمعات المتحضرة والدول العريقة في الديمقراطية. ولعل أروع ما كان فيه هو مادته السادسة التي نصت على ما يلي: "لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون وإن اختلفوا في القومية والدين واللغة…". وتنص المادة السابعة: "الحرية الشخصية مصونة لجميع سكان العراق من التعرض والتدخل، ولا يجوز القبض على أحدهم أو توقيفه أو معاقبته، أو إجباره على تبديل مسكنه أو تعرضه لقيود أو إجباره على الخدمة في القوات المسلحة إلا بمقتضى القانون. أما التعذيب ونفي العراقي إلى خارج المملكة العراقية فممنوع بتاتاً".

ولكن هذا الدستور من الناحية العملية كان مجمداً، وقد وضع على الرفوف العالية. فمن المعروف أن النخبة الحاكمة كانت تحكم البلاد بدستورين. دستور ديمقراطي مدون غير معمول به، ودستور مجحف غير مدون وهو القانون الفعلي الذي كانت تسير عليه السلطة في حكم البلاد والعباد. وهذا الدستور غير المدون، فيه تمييز عرقي وطائفي وإلغاء المعارضة الديمقراطية وسحق حقوق الإنسان. وقد قامت السلطة الملكية عام 1943 بتعديل الدستور الذي عزز من سلطات الملك خلافاً لقاعدة (مصون وغير مسؤول) التي كانت أساس الدستور الأول.



الإنتخابات البرلمانية

نعم كان النظام الملكي برلمانياً، ولكن بالاسم فقط، كوسيلة لإخفاء الدكتاتورية في الواقع. وغالباً ما كان يفتضح أمره عندما يصل الوطنيون المعارضون إلى البرلمان عن طريق الانتخابات، فتبادر السلطة الملكية لحل البرلمان وإغلاق الصحف وفرض الأحكام العرفية ويتم تزييف الانتخابات ليفوز أنصار السلطة بالتزكية. وقصة السيد عبد الكريم الأزري، النائب والوزير في الحكومة الملكية باتت معروفة كما ذكرها هو في مذكراته. خلاصتها انه استلم مكالمة تلفونية في يوم من أيام تشرين الأول سنة 1943 من أحد أقربائه وهو السيد حسن الرفيعي قائلاً له: " أهنئك من صميم القلب، فسألته على ماذا تهنئني؟ فأجابني على فوزك في الانتخابات النيابية!.. فقد ذكرت الإذاعة الصباحية اسمك بين الفائزين في الانتخابات النيابية عن لواء العمارة (محافظة ميسان حالياً) . قلت له: هل تمزح؟ قال لا والله لا أمزح. وقد تبين فيما بعد أن ما أنبأني به السيد الرفيعي كان صحيحاً وإنني قد انتخبت نائباً عن لواء العمارة وأنا لا أدري، فلم أراجع أحداً، لا من الناخبين ولا من المنتخبين الثانويين.. ولم أرشح نفسي... وهكذا نمت ليلتي وأصبحتُ في الصباح نائباً عن لواء العمارة".[4]

وهنا يقول الجواهري:

وبأن أروح ضحىً وزيراً مثلما أصبحتُ عن أمر بليل نائبا.



ويذكر عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي في كتابه (خوارق اللا شعور) قصة مشابهة لحالة السيد الأزري فيقول: "روى لي أحد الثقاة قصة تكاد لا تصدق لو رويت في بلد غير هذا البلد. يقول الراوي: إنه سمع ذات يوم، في موسم من مواسم الانتخابات الغابرة، بأن برقية هبطت على متصرف اللواء من بغداد تأمره بانتخاب شخص معين. وقد ذهب هو وجماعة معه لتهنئة الشخص المحظوظ، فقبل الشخص منهم التهنئة. هذا مع العلم أن يوم الانتخابات الرسمي لم يكن قد حان وقته، وأن الاستعداد للانتخابات كان قائماً على قدم وساق كما يقولون.". ويعلق الوردي على ذلك قائلاً: "إن نائباً يُعيًن في مجلس النواب على هذه الصورة لا يشعر طبعاً بأنه ممثل الشعب، والشعب كذلك لا يشعر بأن في الحكومة من ينطق باسمه ويدافع عنه حقاً.. على هذا المنوال تتسع الثغرة بين الشعب والحكومة وينشق الضمير والأمر لله الواحد القهار."[5]



البرلمان

أما البرلمان فكان عبارة عن مهزلة. ولم يكمل البرلمان دوراته القانونية إلا مرة واحدة. ويكفي أن نقول أن نوري السعيد كان قد حلَّ البرلمان عام 1954، الذي تسنى له عقد اجتماع واحد فقط وبعد افتتاحه بخطاب العرش، حيث دبر نوري السعيد انقلاب القصر على زميله أرشد العمري، رئيس الوزراء آنذاك، فصدرت الإرادة الملكية بتعطيل المجلس قبل أن يعقد أية جلسة أخرى، أو أن يتسع له المجال لتأليف اللجان الدائمة، فما كاد نوري السعيد يؤلف وزارته الثانية عشرة في 3 آب 1954 حتى استصدر إرادة ملكية بحل هذا المجلس بالذات، فانتهت بذلك الدورة الانتخابية الرابعة عشرة، وذلك بسبب فوز أحد عشر نائباً من المعارضة من مجموع مائة وخمسة وثلاثين نائباً[6]. أقول، ما هو تأثير أحد عشر نائباً معارضاً من مجموع 135 نائباً على قرارات السلطة الحاكمة؟ أليس هذا دليل على عدم تسامح السلطة الملكية مع المعارضة الديمقراطية حتى وإن كانت ضعيفة؟



نتائج الإستهانة بالجماهير والديمقراطية

إن سياسة استهتار واستهانة السلطات في العهد الملكي بالجماهير والديمقراطية والدستور وتزييف الانتخابات البرلمانية واضطهاد الأحزاب المعارضة وقمع المظاهرات وقتل السجناء السياسيين وبؤس قطاعات واسعة من الشعب، رغم ادعاء السلطة بالديمقراطية، هي التي جعلت الجماهير العراقية تفقد ثقتها بالدستور والبرلمان والديمقراطية ومؤسساتها، واليأس من الإصلاح السياسي بالوسائل السلمية لانتفائها. وهذه السياسة هي التي فتحت الباب أمام العسكر لدخولهم السياسة من أوسع أبوابها، وجعلت قيادات الأحزاب الوطنية تفقد كل أمل في تحقيق الإصلاح السياسي بالوسائل السلمية ولم يبقى أمامها أي خيار آخر سوى فرضه بالقوة. وقد اضطر العديد من السياسيين الوطنيين المخلصين الذين لا يمكن الشك في نزاهتهم وإخلاصهم للوطن مثل الزعيمين الوطنيين جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي وغيرهما إلى الاعتماد على العسكر واللجوء إلى القوة لفرض الإصلاح السياسي كما حصل في انقلاب بكر صدقي عام 1936، وتكررت المشكلة ذاتها عام 1941، ثم في الخمسينات عندما اضطهدت السلطة السعيدية القوى الوطنية وحلت البرلمان عام 1954 كما مر بنا.



إن المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية هي التي تشكل القوة الدافعة وراء الثورات، خاصة عند انتفاء الوسائل السلمية الديمقراطية لإحداث التغيير المطلوب. ولكن ومع الأسف الشديد، يرفض البعض الأخذ بهذا التحليل العلمي للثورات والهزات الاجتماعية تاركين المجال لعواطفهم ومخيلتهم في تفسير الأحداث الكبرى كثورة 14 تموز العراقية تفسيراً عاطفياً.

ومن كل ما تقدم، نفهم أن النظام الملكي هو الذي توقف عن التطور السلمي التدريجي واستند دوره وصار عقبة أمام التطور، وبعمله ذاك قد بدأ يزرع بذور الثورة ضد نفسه، وأصبح تغييره بالعنف مبرراً وخاصة عند الاقتدار عليه. أما ما حصل فيما بعد، ومجيء نظام صدام حسين، فهذا ليس بالأمر الغريب في التاريخ. إذ كما يقول كارل ماركس: "الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكن النتائج لن تكون كما يرغبون".



دور الدستور والبرلمان في العهد الملكي

كان في العهد الملكي دستور وانتخابات وبرلمان ومعارضة. ولكن العبرة ليست بوجود هذه المؤسسات فحسب، بل المهم هو دورها في الحكم وحياة الشعب. ويتفق أغلب الذين كتبوا في تاريخ العراق الحديث، أن الحكومة هي التي كانت تسيطر على البرلمان وتقرر مصيره وليس العكس. لقد كان الدستور حبراً على ورق، والبرلمان كان جسماً بلا روح. لذلك وصف الشاعر معروف الرصافي محذراً حكومات ذلك العهد بسوء العاقبة بقصيدة نقتطف منها:

عَلَمٌ ودستور ومجلس أمـــــــة كل عن المعنى الصحيح محرَّفُ
إن دام هذا في البــــــلاد فإنه بدوامـــــه لسيوفـنا مسترعـف
كم من نواصِ للعـدى سنجزهـا ولحىً بأيــد الثائرين ستنتفُ


لقد كتب العديد من المهتمين في تاريخ العراق الحديث عن تلك الفترة ومنهم حسين جميل والجواهري وعلي الوردي ومجيد خدوري وعبد الرزاق الحسني وآخرون، جميعهم يؤكدون على استهتار سلطات العهد الملكي وخاصة نوري السعيد وعبد الإله، بالديمقراطية وانتهاكهما للدستور والبرلمان وتزييف الانتخابات، واستخفافهما بالأحزاب السياسية والجماهير الشعبية. وبهذا الخصوص نعود إلى الدكتور علي الوردي فيقول: "إن جلاوزة العراق، ومن لف لفهم من المتزلفين وأنصاف المتعلمين ينظرون إلى الشعب الفقير نظرة ملؤها الاحتقار والاستصغار. ولعلهم لا يشعرون بهذا الاحتقار الذي يكنّونه لأبناء الشعب، إذ هو كامن أغوار نفوسهم، اللاشعور من أنفسهم، فهم ينساقون به وقد لا يعرفون مأتاه أحياناً."[7).

كما ويصف الجواهري وضع البرلمان آنذاك وكان نائباً فيه فيقول: لقد وقف نوري السعيد ذات يوم وقد ضاق صدره من هذا المعارض أو ذاك ليقول بالحرف الواحد: " هل بالإمكان أناشدكم الله، أن يخرج أحدنا مهما كانت منزلته في البلاد، ومهما كانت خدماته في الدولة، ما لم تأت الحكومة وترشحه؟ فأنا أراهن كل شخص يدعي بمركزه ووطنيته، فليستقيل الآن ويخرج، ونعيد الانتخاب، ولا ندخله في قائمة الحكومة، ونرى هل هذا النائب الرفيع المنزلة الذي وراءه ما وراءه من المؤيدين يستطيع أن يخرج نائباً" .[8] . وأكد هذه الرواية كل من حسين جميل ومجيد خدوري في مؤلفاتهما. ويضيف الجواهري: "… هكذا كانت الأوضاع في العراق وهكذا كانت الديمقراطية. ولا شك إن أوضاعاً كهذه لا بد أن تخلق حالة من الكبت الجماهيري الذي يبحث عن مفجر"[9].



حرية المعارضة السياسية

لم تكن المعارضة السياسية حرة في العهد الملكي كما يدعي البعض في محاولة منهم لتأهيل العهد الملكي وتسويقه. ففي العهد الملكي كانت أحزاب المعارضة محظوراً عليها النشاط العلني وخاصة الحزب الشيوعي، الذي تم سجن وتعذيب أعضائه وإعدام عدد من قادته بسبب المعتقد السياسي. وقد سنت السلطة قانوناً يمنع به نشاط الحزب. واتخذت تهمة الشيوعية ذريعة وسيفاً مسلطاً على رقاب الأحزاب الديمقراطية وحتى القومية وضد كل من يتجرأ في إعلان معارضته للسلطة. ولم يسلم من السجن والاضطهاد في العهد الملكي حتى القوميون والديمقراطيون الليبراليون مثل كامل الجادرجي وآخرون. كما تم إسقاط الجنسية العراقية عن مناضلين عراقيين من جميع أحزاب المعارضة بمن فيهم القوميين بسبب معارضتهم للسلطة. ويقول مجيد خدوري في هذا الخصوص: "لقد تم القضاء على حرية التعبير، فأُسكِتَ السياسيون والكتاب والمواطنون الواعون بإجراءات تعسفية لم يسبق لها مثيل، وغصت السجون ومعسكرات الإعتقال بأناس مختلفي الإتجاهات .. من شيوعيين إلى ليبراليين إلى اشتراكيين إلى ناصريين إلى كرد قوميين إلى ساخطين على الوضع بصورة عامة ووضع جانب منهم تحت الرقابة بإبعادهم عن مسقط رأسهم وشمل القمع كل قطاع.. "[10]



القمع والعنف السياسي

لم تكن هناك حرية التظاهر أو الاحتجاج ضد السلطة. وقد قمعت مظاهرات سلمية قامت بها الجماهير احتجاًجاً على بعض إجراءات السلطة أو المعاهدات الجائرة المخلة بالسيادة الوطنية، حيث قمعت بشراسة وثبة كانون الثاني 1948، وانتفاضة 1952 وانتفاضة 1956 بالحديد والنار وإعلان الأحكام العرفية وزج الوطنيين بالسجون. كذلك أغرقت السلطة الملكية إضرابات عمال النفط في كركوك (مجزرة كاورباغي) 1946 وفي حديثة 1947، وفي البصرة 1953 بدماء العمال. وأقيمت المذابح للسجناء السياسيين العزل من السلاح في بغداد والكوت في حمامات دم فظيعة، كما حصل ذلك لانتفاضة فلاحي آل أزيرج ودزه ئي والديوانية وغيرها. وإعدام قيادة الحزب الشيوعي عام 1949.

ومن هنا نعرف أن العهد الملكي- السعيدي هو الذي بدأ باستخدام العنف السياسي ضد المعارضة، وضرب الجماهير واصبح العنف السياسي الدموي عرفاً وتقليداً في السياسة العراقية لدى الحكومات اللاحقة في العهد الجمهوري.



إرهاب الجماهير

كانت السلطة الملكية غير مهتمة بسمعتها بين الشعب العراقي وغير مبالية في تحسين هذه السمعة، بل كانت في أحيان كثيرة تستخدم القبضة الحديدية في مواجهة الجماهير وضربها وإعلان جبروتها ضد الناس من أجل إرهابهم. وهناك أمثلة عديدة على ذلك. منها استخدام الجيش في ضرب العشائر العربية في الفرات الأوسط ومناطق أخرى. كذلك ارتكاب مجزرة ضد الآشوريين في تموز 1933. وكان بالإمكان تفادي العنف في جميع هذه الحالات لو شاءت السلطة استخدام سياسة التفاوض والتفاهم لحل تلك المشاكل.

والمثال التالي يكشف بدون أدنى شك عن سياسة السلطة في اختلاق المناسبات للتحرش بالناس ورغبتها في ارتكاب المجازر ضدهم لا لشيء إلا من أجل إرعابهم دون أن تدرك ما لهذه السياسة من عواقب وخيمة عليها وعلى الشعب في المستقبل. المثال المقصود هو:

فاجعة الكاظمية: قامت قوات الحكومة بمجزرة في الكاظمية (شمال بغداد) يوم 23/3/1935 عندما قررت إقامة مبنى للبريد على مقبرة الكاظمية، فاستفزت عواطف الأهالي الذين هرعوا إلى قبور موتاهم معتصمين فيها، رافضين إقامة البناء فوق المقبرة، فأرسل وزير الداخلية رشيد عالي الكيلاني يوم 23/3/1935 مفرزة مسلحة من الشرطة بقيادة وجيه يونس الموصلي، على سيارات مصفحة، ففتحت النيران فوراً على هؤلاء المعتصمين. وعاد وجيه يونس إلى مقره وصدر بيان رسمي من وزارة الداخلية حول الحادث. وقد قارب عدد القتلى الثلاثين، دفن معظمهم في الظلام بصورة سرية خشية الملاحقات الحكومية لعائلاتهم. وجرح ثمانون شخصاً. ويقول السيد عبد الرزاق الحسني أن الحكومة قد سهلت الدفن السري لأنه ليس من مصلحتها الجهر بالعدد الحقيقي للقتلى.[11]

فهل كانت هناك شحة أراضي في الكاظمية ولا يمكن بناء دائرة بريد إلا في مقبرة؟ ألم يكن ذلك بدوافع طائفية لاستفزاز مشاعر الأهالي من أجل التحرش بهم وإرهابهم وارتكاب المجزرة بحقهم عن قصد بحجة الاعمار؟. إذن ما الفرق بين هذه السياسة وسياسة صدام حسين فيما بعد؟.

من هنا نعرف أن السلطة في العهد الملكي، كانت هي التي تبدأ في استخدام العنف السياسي ليس ضد الأحزاب السياسية المعارضة فحسب، بل وضد الأهالي العزل أيضاً، واصبح العنف السياسي الدموي عرفاً وتقليداً في السياسة العراقية لدى الحكومات اللاحقة في العهد الجمهوري البعثي.

إن سلطة كهذه، كانت بالتأكيد تعمل على خلق هوة سحيقة بينها وبين الشعب وتهيئ دون وعي لحصول انفجار بركاني هائل.

ومن المفيد بهذه المناسبة الإشارة إلى ما ذكره بول جونسن عام 1957، وهو صحفي بريطاني كان يحسب على الجناح اليساري في حزب العمال المعارض، كتب في كتابه (رحلة إلى الفوضى): "إن بغداد ، وبمعنى سلبي، هي الأهم في المنطقة. فإذا سقطت في أيدي الوطنيين، فلن تستطيع أية قوة أن تنقذ النظام (الأمني في الشرق الأوسط)، حتى الولايات المتحدة". ثم تساءل: "هل تسقط بغداد؟" ويقول عن نوري السعيد: "نوري السعيد، وإن كان ما يزال حياً، فهو أشبه بالمخلفات التاريخية البالية."[12].



التمييز العرقي والطائفي

لو تأملنا ملياً لرأينا إن أغلب سياسات صدام حسين في التمييز العرقي والطائفي، هي امتداد لما كان يجري في العهد الملكي ببشاعة، وتشهد بذلك مذكرة الملك فيصل الأول نفسه يعترف في الفقرة الثالثة منها: " .. بأن العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسَسَة على أنقاض الحكم العثماني وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً.. وأكثرية شيعية منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة. إلا إن الاضطهادات كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الإشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين"

ويخاطب الملك النخبة السياسية قائلاً: "أخشى أن أتهم بالمبالغة، لكنه من واجبي أن لا أدع شيئاً يخامرني، خاصة لعلمي بأنه سوف لا يقرأ هذا إلا نفر قليل، ممن يعلمون وجائبهم ومسؤولياتهم. ولا أرغب أن أبرر موقف الأكثرية الجاهلة من الشيعة (كذا)، وأنقل ما سمعته ألوف المرات، وسمعه غيري من الذين يلقون في أذهان أولئك المساكين البسطاء من الأقوال التي تهيجهم، وتثير ضغائنهم، إن الضرائب على الشيعي، والموت على الشيعي، والمناصب للسني، ما الذي هو للشيعي؟ حتى أيامه الدينية لا اعتبار لها، ويضربون الأمثلة على ذلك، مما لا لزوم لذكرها"[13]



قانون الجنسية العراقية

كان قانون الجنسية العراقية الذي تم تشريعه في عام 1925 مجحفاً بحق الأغلبية الساحقة من الشيعة العرب والتركمان والأكراد الفيليين. لقد تناوبت على احتلال العراق دولتان عظميان في المنطقة آنذاك وهما: الدولة العثمانية التركية السنية والدولة الصفوية الفارسية الشيعية. وبذلك فكان الناس يحملون إما جنسية هذه الدولة المحتلة أو تلك. ولكن بعد إحتلال العراق من قبل الإنكليز خلال الحرب العالمية الأولى، وتأسيس الدولة العراقية كنتيجة لثورة العشرين، قررت النخبة الحاكمة اعتبار حملة الجنسية العثمانية (المحتلين الأتراك السابقين) هم عراقيون أصليون، وحملة جنسية المحتل الإيراني من التبعية الفارسية. علماً بأن أغلب هؤلاء كانوا من العراقيين يلجئون إلى الجنسية الإيرانية من أجل تجنب الخدمة العسكرية في الجيش التركي. لا بل تجاوز الأمر حملة الجنسية الفارسية، واستغل القانون ضد الشيعة من العرب والأكراد الفيلية والتركمان.



وعلى هذا القانون اعتمد صدام حسين في تهجير نحو مليون عراقي بحجة التبعية الإيرانية وإسقاط الجنسية عنهم. ومن الجدير بالذكر أن النظام الملكي هو الذي دشَّن سياسة التهجير وإسقاط الجنسية عندما قام بتهجير الشيخ مهدي الخالصي وعائلته وأسقطتْ عنهم الجنسية بتهمة التبعية الإيرانية وهم عرب من قبيلة بني أسد العربية العريقة. كذلك نفي عدد من قيادة الحزب الشيوعي العراقي وحزب الإستقلال وأسقط عنهم الجنسية. فالتمييز الطائفي وإسقاط الجنسية كان علناً وصراحة في العهد الملكي خلافاً للدستور، ولو بشكل أخف مما في عهد صدام حسين غير القابل للمقارنة.



القضية الكردية

أما الإدعاء بعدم وجود تمييز عرقي ضد الأكراد في العهد الملكي، وأن المشكلة الكردية قد خلقها "إنقلاب 14 تموز" فهو الآخر يفنده التاريخ القريب وهناك شهود أحياء. لقد حرم الشعب الكردي من أبسط حقوقه القومية المشروعة، ولما طالب بهذه الحقوق ولم يستجب لها أضطر أن يثور. وقمعت الثورة الكردية بقيادة الشيخ محمود الحفيد في الثلاثينات، ومصطفى البارزاني بين عامي 1943-1945 وتم تشريد ونفي البارزانيين وكرد آخرين في الأربعينات إلى روسيا ولم يعودوا إلى وطنهم إلا بعد ثورة 14 تموز 1958.

السياسة الاقتصادية والطبقات الاجتماعية

كان النظام الملكي قائماً على الإقطاع ومعتمداً عليه. وكان الشيوخ الإقطاعيون مهيمنين على الاقتصاد من خلال هيمنتهم على البرلمان والحكومة. يقول الدكتور منذر الشاوي في مقدمة لكتاب (نظام برلماني ممسوخ قاد إلى ديكتاتورية ملكية): "إن البرجوازية العراقية بدأت تنمو بشكل محسوس، إلا إن هذا النمو البرجوازي صادف وجود طبقة إقطاعية قوية، فلم تستطع الطبقة البرجوازية في ظل النظام الملكي من تنحيتها ولم تحدث بينهما المصالحة التي تمت في العديد من دول أوربا الغربية بين طبقة ملاك الأراضي والطبقة البرجوازية."

وقد بلغ ظلم الإقطاع حداً لا يطاق.
Opinions