Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أصابع تتمرّد على علب الحبر البنفسجي

للأصابع دلالاتها و خطوطها التي تثير فضول المهتمين بقراءة الكف و المتطلعين إلى معرفة الحالة الاجتماعية للحسناوات و تكحيل عيونهم بما يتختّمنَ به من ذهب مرصّع بالماس أو بالأحجار الكريمة الأخرى.

و على الرغم من ارتباط تلك الأنامل بعالم الموسيقى و الفن و الجمال في غالب الأحيان، إلا أن للأصابع حظوظ لا يستهان بها في عالم السياسة الحديثة أيضاً و خاصة في بلدٍ علّم الإنسان الكتابة و صنع أول قيثارة في التاريخ.

لم تفارق ذاكرة العراقيين المعطوبة بالنسيان دائماً، صورة الحرف (V) المُشكّلة بإصبعَي "السبّابة و الوسطى" من قِبل الجنود القادمين من جبهات القتال خلال الحرب العراقية الإيرانية، كدلالةٍ تقليدية على النصر.

لكن الريادة كانت لـ "الإبهام" بطبيعة الحال، دوناً عن الأصابع الأخرى و قياساً على الكف التي سلمت من بتر الحروب، على اعتبار أن إصبع "الإبهام" كان يؤدي أهم الأعمال التعبوية الموكلة إليه و المتمثلة بالبصمة المطلقة لسياسة النظام السابق التي كانت ترفع شعار "نفّذ ثم ناقش".

و كانت لحركات ذلك الإصبع دلالات تقليدية أيضاً، فحين يرفع إلى أعلى يكون مُعبّراً عن الموافقة المطلقة (OK) لكل قرار و أمر من القيادة آنذاك، و أحياناً يتم تنكيسه إلى أسفل، كتعبيرٍ مناوئ لقوى "الامبريالية و الصهيونية" و غيرها من الأنظمة و الدول التي لم يكن النظام السابق على وفاق معها.

و بعد سقوط ذلك النظام عام 2003، انقلبت وظائف الأصابع شأنها شأن الكثير من الأخلاقيات و الأعراف و الموروث، و تم تهميش "الإبهام" و تجميد وظائفه القديمة و تجريده من جميع صلاحياته و امتيازاته، حيث كان على وشك أن "يُجتث"، لولا انتمائه لكفٍّ صافحت كفّاً مسامحة ذات يوم من الأيام الخوالي.

و الآن تُسلّم الراية إلى "السبّابة" و التي اقترن عنفوانها مع دوران عجلة "العملية السياسية في العراق الجديد"، فبعد أن كان للإبهام و بصمة الدم الدور الأبرز سابقاً، أصبح الآن لـ "السبّابة" الدور الذي سيرسم مستقبل الأجيال المقبلة، و لكن كل حسب قناعاته و تصوراته عن ذلك الطريق.

لقد كان لتلك "السبّابة" المُلوّحة بالتهديد و الوعيد من قبل شخصية سياسية بارزة، الأثر الأبرز و أحد الأسباب المباشرة لإشعال فتيل المواجهة بين السنة و الشيعة، أعقاب تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء عام 2005.

و كان لتلك "السبّابة" الفعل الأشنع المتمثل بقتل مئات الآلاف من العراقيين و تهجير الملايين منهم، حينما وجدت ضالتها و لعبتها المفضلة في الضغط على زناد قنّاص مشحون بسبق الإصرار و الترصد، أو زناد بندقية عاهرة لا تعرف غير أن ترش شتائم رصاصها على الوجوه المتطلعة نحو أمل الخلاص من تجار الظلام و الموت، أو من خلال زناد مسدس غدرٍ يعمل عارضاً عند مصممي قفاطين الموت في دور أزياء الحقد الملثم، و التي لن تكون آخرها موضة "كاتم الصوت" !

لكنّ أبرز دور لعبته "السبّابة" العراقية كان في الاستفتاء على الدستور في 15 أكتوبر 2005 بعد انتخاب الجمعية الوطنية التي انبثقت عنها الحكومة العراقية الانتقالية و التي رافقها اندلاع "الثورة البنفسجية" ذلك الإسم المستخدم كاستعارة رمزية، لأن أصابع الملايين من العراقيين كانت تدمغ باللون البنفسجي قبل الإقتراع، منعاً للتزوير حيث كان يصعب مسح ذلك الحبر خلال فترة الساعات المحددة لإجراء الإقتراع.

و بات من غمّس إصبعه في علب الحبر البنفسجي، قد صفّ نفسه في خانة الشرف و الإخلاص للوطن، معيّراً و مستفّزاً الطرف الذي امتنع عن الإدلاء بصوته اعتراضاً منه على مجمل العملية السياسية و إيماناً بوجهة نظر مغايرة تماماً لوجهة نظر أنصار "الثورة البنفسجية".

لكن سرعان ما عاد الجميع لينقعوا أصابعهم في ذلك الحبر البنفسجي خلال عملية الاقتراع الثالثة و التي جرت في 15 ديسمبر 2005، تنافساً على كراسي البرلمان و للاستيلاء على حصة الأسد و حصد اكبر عدد ممكن من الحقائب الوزارية، لتشكّل بعد ذلك "حكومة الوحدة الوطنية" برئاسة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي.

و بعد أربعة أعوام على آخر غطسةٍ لـ "السبابات" في علب الحبر البنفسجي، و بعد الفشل الملموس من قبل الحكومة المنتخبة و البرلمانيين و جميع رجال السلطة في إقناع ناخبيهم بـ "الانجازات" التي يحاولون أن يقنعوا الشعب بأنهم حققوا الجزء الأكبر منها و من تلك الوعود التي قطعوها على أنفسهم، لكن ما يلوح في الأفق يبدو واضحاً بأنه لن يحمل معه السرور على أجنحة الرؤى و فراشات ربيع المغانم !

فاليوم بات من المعتاد سماع همس هنا و صراخ هناك، و من ذلك " أن تلك السبابات سنخوزق بها طموحات أولئك السياسيين الانتهازيين" كما جاء على لسان أحد الممتعضين من الحكومة الحالية و رجالاتها، و قال آخر "لن ألوّث إصبعي بعد الآن بذلك الحبر اللعين الذي لم يجلب لنا غير عتمة الأفكار و زرقة الدم المتخثر، فكأنما بات ذلك اللون نذير شؤم على العراقيين".

العراقيون اليوم يجعلون أصابعهم بين قواطع أسنانهم، ندماً على اللحظة التي لوّنوا فيها تلك الأصابع بذلك اللون البنفجسي الذي منح الشرعية للذين جلسوا على الكراسي و المقاعد، يشرعون لأنفسهم امتيازات تكشف عن إصابتهم بعقدة الحرمان و سعيهم المحموم للتعويض عن طريق الشراهة و النهم لكل شيء.

فتراهم ينافسون ناخبيهم بتخصيص قطع الأراضي على شواطئ دجلة، و يتقاتلون تحت قبة البرلمان و كأنهم ضيوف أو منفيون ليشرّعوا لهم و لعوائلهم الحصول على الجوازات الدبلوماسية و الرواتب التقاعدية و السيارات المصفحة، و كأن عيونهم فارغة إلا من الجشع و رؤية المصالح الشخصية الضيقة، ليسجلوا بذلك أبشع و أقبح نموذج للوليد "الشرعي" الذي أنجبته العملية السياسية، و الذي خرج مشوَّهاً، نتيجة عدم الالتزام بالواقي الوطني في ممارسة العملية الديمقراطية !



لقد بدأ حماس بعض المهووسين بحب التغيير، يعلن توجهه بعدم مساندة الأحزاب الإسلامية و الوقوف ضدها بكل قوة و انتخاب أي نموذجٍ آخر مهما كان سيئاً، شرط أن لا يكون إسلاميا.

و هذا يعكس مدى حنق الشارع و بعض شرائح المجتمع على سياسة الحكومات الإسلامية التي تعاقبت على حكم العراق الديمقراطي خلال الخمسة أعوامٍ الماضية، و يرجع بالذكريات إلى تلك العبارات الجاهزة التي كان العراقيون يرددونها قبل 2003 و مفادها بأنهم "سيكونون مع شارون أو أي مجرم من أجل الخلاص من الدمار و الحصار و الدكتاتورية" !

على الضفة الأخرى، يقف اليائسون من رحمة الأفق و طيور النوارس المبشِّرة ببرّ الأمان، يقبضون أصابعهم إلى راحات أكفهم من جديد، كاشفين عن اللعنة و عدم الرغبة باختيار أي مرشح، على اعتبار أن معظم الوجوه هي نفسها، و لم يتغير شيء سوى إعادة خلط و تغيير مواقعهم داخل الأحزاب و التحالفات، و ستبقى اللعبة محكومة وفقاً للمعادلة الإيرانية الأمريكية، فضلاً عن بعض الدول العربية النافذة، و هذا بدون أدنى شك سيعزز من فوز تلك الأطراف السياسية مرة أخرى.

لكن المفزع في الأمر، أن هناك من بدأ يروّج لـ "حملة مقاطعة الإنتخابات العراقية" و هؤلاء يسبّبون حملتهم تلك ببعض التبريرات و منها :"سنقاطع الإنتخابات العراقية القادمة بسبب سيطرة قوى غير ديمقراطية...... و بسبب عجز قوى الحكم عن محاسبة المفسدين و كشفهم....موقفنا سيكون بمثابة الرفض لقوى الإسلام السياسي التي دمرت العراق و أجهزت على ما بقي من بنى العراق التحتية......35 سنة من حكم البعث الفاشي، صمتنا فيها و عندما تحركنا ضد الدكتاتور في عام 1991 دخلت أحزاب إيران على الخط كي تصادر انتفاضاتنا و أفشلتها عندما أعطتها البعد الطائفي بدل البعد الوطني الذي بدأت به ففي البصرة إشترك فيها المندائيون و المسيحيون و الوطنيون ".

و هنا يعاود السؤال المنهك طرح نفسه، لمصلحة من تحشّد تلك الحشود و تطلق تلك الحملات؟ هل سيستفيد الشعب منها أم أن الغاية معاقبة الأحزاب الإسلامية؟

كيف ستعاقب الأحزاب الإسلامية في حالة عدم اشتراك أبناء الشعب بممارسة حقهم المتمثل بالإدلاء بصوتهم الثمين لمن يرونه مناسباً لهم و هم أحرار بذلك.

في حالة لم يشارك المواطن غير المؤدلج أو المنتمي لأي من الأحزاب و الحركات السياسية، ستكون النتيجة بكل تأكيد لصالح تلك الأحزاب و المنتمين إليها أو المرتبطين معها بعلاقات شتى، و هنا من المستحيل أن تحصل عملية التغيير المرجوة، و سيضطر السياسيون إلى الدخول تحت عباءة المرجعية مرة أخرى بحجة وجود حملات منظمة لمقاطعة الانتخابات، لأخذ البركة منها، من خلال تصريح ينسب إليها ليرفع من رصيد ناخبيهم و يحرك مؤشرات بورصة التخمينات لصالحهم!

هناك إحباط و ضجر و ندم، خاصة إذا شعر المواطن بأنه ذهب خلال الانتخابات السابقة متحدياً الموت و الرصاصات الغادرة و العبوات العمياء ليدلي بصوته، ليجلس بعد ذلك رجل كالح أو امرأة لا تفقه شيئاً من السياسة على مقاعد مجلس النواب، متناسين ذلك المواطن و همومه و مركزين اهتمامهم على مصالحهم الخاصة و مصالح أحزابهم و التخطيط لطموحاتهم المستقبلية الجامحة و غير المسيطر عليها، بفعل عدم وجود رقيب عليهم و لجام يكبح صهوة فسادهم.

لكن الحل لن يكون سلبياً و لا يُعالج المرض بانتظار الموت، و إذا كان قدر العراقيين أنهم يواجهون القتل و الفساد و خيانة الأمانة من قبل الذين أُودعوا مصائر الملايين، فبكل تأكيد سيكون المصير ذاته في حالة مقاطعة الانتخابات من قبل المتضررين و سيفوز الجانب الآخر الذي ينتظر تلك الانتخابات بفارغ الصبر، ليدلي الأتباع و المغرر بهم إلى حسابه، لضمان كراسي حكم لمدة أربعة أعوام مقبلة.

على العراقيين أن يغيروا المعادلة، وفقاً لدرجة وعيهم المتزايد بالمخاطر و نتيجة لتجربتهم المريرة التي تمخضت عن اختيار غير الأكفّاء الذين لا همّ لهم إلا مصالح الحزب الضيقة، و أن لا يفوتوا فرصتهم التي انتظروها لفترة ستتجاوز الأربعة أعوام، و عليهم أن ينتقموا لحسن نيتهم و يثاروا لذكائهم، متجاوزين الغفلة و الحسابات الضيقة التي انصبت مؤخراً لصالح المفسدين و القافزين على الأكتاف المنهكة و ابتسامات الطفولة المصادرة لصالح الغُول !



*نسخة من إلى:

- الرئاسات الثلاث: لأنني اعلم بأن أقسام "الرصد الإعلامي" الموجهة من قبل الجهات العليا لا تهتم برصد المقالات المتعلقة بهموم المواطن و بمصالحه، و أن عملها يقتصر على "رصد" المقالات التي تتحدث عن هذا الرئيس و ذلك النائب و هذا الوزير و ذلك الوكيل فحسب!

و عليه أوجه هذه النسخة إليهم !!


*رئيس تحرير "اتجاهات حرة"

6-12- 2009

itjahathurra@yahoo.com

www.itjahathurra.com

Opinions