أعراض الأقلية في المشهد السياسي الآشوري
ان الكثير من التطورات على الصعيد المحلي والاقليمي والدولي أدت الى جعل موضوع التنوع العرقي والديني واللغوي مصدراً للتوترات السياسية ، ورغم أن التوترات العرقية والدينية كانت بوادرها قد بدأت منذ القرن الثامن عشر إلا أن النزاعات المسلحة ذات الطابع القومي ومآسي التطهير العرقي والإبادة الجماعية للآشوريين في مواطنهم التأريخية كانت قد وقعت في القرن العشرين، تلك المواطن التي تفتقر الى ادنى درجات ممارسة الحياة الديمقراطية الحقيقية. كما هو معروف أن العلاقات الأنسانية بطبيعتها تسودها صفة التوافق وليس الصراع باعتبار أن أحد صور استمرار الحياة هي غريزة البقاء المتأصلة في طبيعة كافة الكائنات الحية والتي تظهر بصورة أوضح عند الانسان لكونه أكثر الكائنات تطوراً ، إلا أن الصراعات القومية والدينية كانت تطغى على الحوار في كافة الأحيان. لقد أصبح اليوم مصطلح الاقلية غير مرغوب فيه في عصر الديمقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدني وحرية الشعوب في تقرير مصيرها لما يحمله ذلك المصطلح من معاني تدلل على الاضطهاد والعبودية ، وعليه أصبح استخدام المكونات أو القومية الصغيرة أكثر قبولاً لدى المعنيين ، والاقلية حسب التعريف العلمي " ليست الجماعة متدنية النسبة عددياً بل هي التي لا تستطيع التفاعل وتنفصل ارادياً بفعل ظلم الاكثرية المحيطة بها " ، والمجتمعات لا تنقسم عمودياً وافقياً الى اكثرية واقلية ما لم توجد فيها مجموعات ترفض الانسجام مع محيطها أو مجموعات مرفوض اندماجها ومشاركتها في الممارسة الوطنية لاسباب أثنية ودينية وسياسية ، وهذا هو السبب الأكثر شيوعاً على أرض الواقع في عالمنا المشرقي ، والاقلية ميدانياً هي مجموعة من سكان اقليم او دولة تختلف عن الاغلبية في الانتماء القومي أو الديني أو المذهبي ، والمكونات الصغيرة كانت ولا تزال في كافة دول الشرق الأوسط تعاني من هيمنة وظلم الاكثرية بسبب عدم وجود ضمانات او ضوابط تحميها من مظالم الاغلبية.بالعودة الى المشهد السياسي الآشوري موضوع مقالنا لنفترض أنه من الطبيعي أن يرافق عمل بعض النخب السياسية في أوساط شعبنا بعض التلكؤ في انسيابية العمل السياسي واتخاذ القرارات والمواقف بسبب المعوقات الناجمة عن الظروف الموضوعية والذاتية المعقدة ، ولكن اللامعقول في هذه الحالة هو تكرار ارتكاب مجموعة من الأخطاء مرة تلو الأخرى ، لدرجة وكأن هذه النخبة أو النخب ترفض مراجعة الذات والاستفادة من تجاربها السابقة ، وبدلاً من التحاور ومناقشة الأوضاع بشفافية فيما بينها نرى مجدداً عودة سلوك التراشق اللفظي بذهنية يغلب عليها التوجس والشك بطريقة لا تحسب عواقب الأمور، ولا ترصد ما يمكن أن تجره مثل هذه الذهنية من الميل نحو الاحباط وظهور مشاعر التيئيس السياسي التي تتفاقم بسبب الاحباطات المستمرة وسيادة أجواء من فقدان القدرة على المجابهة والتغيير نحو الأفضل ، إن ما يحصل لم يأتي صدفة , ولا هو قضاء وقدر, ولا يدخل ضمن نظرية عدم اليقين ، بل هو نتيجة لمواقف غير محسوبة جيداً ومقصودة من قبل البعض, وكما نرى أن هناك ملامح ظهور فراغ فكري وسياسي لدى الشارع الاشوري حاولت إشغاله بعض النخب ولكنها لم توفق عملياً , ولا زالت مسألة البدائل المرشحة المطروحة لم تتبلور بعد لكونها غير قادرة على مليء الفراغ . كنتيجة طبيعية للفهم الخاطئ للعمل السياسي الآشوري بما يتضمنه من تحالفات متغيرة حسب الظروف والتي طالما خدمت الطموح الشخصي لقائد النخبة الأزلي والحلقة المحيطة به تحديداً ، فقد حصلت تداعيات كثيرة انعكست سلباً على الطرف الذي لم يستقرأ الوضع بشكل سليم على المدى البعيد وهذا ما تجسد في مرحلتي ما قبل وما بعد نتائج انتخابات مجلس النواب العراقي الأخيرة على الصعيد الآشوري، ولعل أحد صور هذه التداعيات هو الشعور بالأقصاء الذي تطور ليتحول إلى ثقافة ترسخت في أذهان بعض قياديي الاحزاب الآشورية على شكل وهن سياسي ونفسي بما يمكننا تسميته أعراض الأقلية Minority Syndrome ، وتكمن خطورة هذه الأعراض في أنها تروج لفكرة الخصم المتربص والمبالغة في ذلك الى حد اختلاق العدو الوهمي والذي يلقى قبولاً لدى البعض لا سيما أبناء شعبنا في المهاجر ، وما عمل على ترسيخ أعراض الأقلية هي الإشارات الخاطئة التي أرسلتها على الأقل أحد الفصائل السياسية المتنفذة في الوطن من خلال خطاب سياسي وهمي ضبابي الموقف لا يتناغم مع واقع شعبنا لتبرير فشله في شرعنة الحد الأدنى من الحقوق وتثبيتها في الدستور العراقي، وظهرت الآثار النفسية لأعراض الأقلية بالشعور بالاقصاء السياسي لدى شعبنا على هيئة الخضوع والشعور الدائم باليأس وقبول الأمر الواقع وعدم النهوض لرفع المظالم لتنتهي باعتبارها قضاء وقدر لا يمكن مجابهتها ، باستثناء بعض المحاولات الجادة التي حاولت فيها بعض القوى السياسية الاشورية والتي توفر لديها مؤخراً هامش أكبر لرفع ثقافة اليأس ولكن على نطاق محدود ، ولم تفلح هي الاخرى بسبب محاولتها التغيير إنطلاقاً من خارج الواقع الجيوسياسي الآشوري مع تبني خطاب سياسي مبالغ فيه لا يتناسب مع الثقل البشري والاقتصادي والسياسي لشعبنا الذي هو في أشد الحاجة لإعادة تأهيل بنيته التحتية المتهاوية . تقود أعراض الأقلية الى التقوقع والانطواء على الذات ، ويليه الشعور بالرغبة في هجرة الوطن كمخرج للهروب وهذا ما يفسر سبب نزيف الهجرة المتصاعد الى دول الجوار رغم المصاعب ، وفي المهاجر الدائمة التي تتطور لتصبح كمنافي ينمو لديه شعور باغتراب آخر مما يدفعه الى اللجوء الى جهة معينة بحثاً عن بعض الأمان ومحاولة منه الى إعادة تجميع حطام الذات وغالباً ما تكون وجهته الكنيسة أو المجموعة العشائرية التي ينتمي اليها وهذا ما نجده بوضوح في المهاجر وهو أيضاً ما يفسر اسباب سرعة ظهور الجمعيات على اساس عشائري في المهاجر ، ويمكن إعتبار المؤسسات العشائرية التي إزدهرت مؤخراً في استراليا تحديداً وصعوبة التقريب في وجهات النظر بين الكنائس المشرقية كنموذج حي للمراحل المتقدمة من أعراض الأقلية التي بدأ يعاني منها شعبنا والتي ساهمت في نشرها بامتياز الاحزاب الآشورية المتنفذة في الوطن التي همها هو استلام التبرعات المادية والترويج لحشد الاصوات قبل وأثناء الانتخابات والذي تجسد عملياً في تحديد وجهة نتائج انتخابات مجلس النواب العراقي الأخيرة آشورياً. من الجدير بالذكر هنا أن تسليط الضوء على بعض السلبيات ليس لكشف العيوب والنيل من النخب السياسية بل هو لاعادة النظر في بعض الثوابت ، وهنا لا بد من الفصل بين الخاص والعام ، ونقد السلوك السياسي للنخب لا يجب التعامل معه كتجريح ، باعتبار أن الحقيقة ليست حكراً للنخب السياسية ، فللحقيقة فى هذا المجال اكثر من وجه ، والحقيقة المقصودة هنا هي القبول بمبدأ المكاشفة وتشخيص مصدر الخلل وصولاً الى محاسبة من ساهم في تغييب وإضعاف المسألة الآشورية في هذه المرحلة الحساسة وعمل على مصادرة القرار القومي من خلال عدم تبني آلية العمل القومي المشترك وحشر القضية القومية في متاهات حرب التسمية وتسييس دور المؤسسات القومية الآشورية في الوطن والمهجر من خلال التدخل في شؤونها وإضعافها عبر رفدها بمعلومات مضللة وفرض افراد موالين لحزب معين لقيادة تلك المؤسسات التي كان ولا يزال لها دور إعلامي مؤثر من خلال اتصالاتها بمراكز القرار في الدول الكبرى ، على أن تكون عملية كشف الحقائق ضمن إطارها القومي المطرز بالثوابت التي لا تقبل المساومة ، بعد أن ثبت أن المراهنة على احادية التفكير واحادية الحل والحزب الأوحد والسكرتير العام الأزلي وسيطرة النمطية الحزبية كلها عوامل تسبب في شيوع نوع من القمع الفكري لتنهي قيمة الابداع فيها وتكرس الشعور بأعراض الأقلية التي يعاني منها شعبنا الآشوري في الوطن والمهاجر . يفرض الواقع الحالي الى التجرؤ للبدء بعملية اصلاح شاملة وإعادة نظر لتجنب تفاقم حالة أعراض الأقلية ، ان تجاوز هذه الأعراض في الحالة السياسية الآشورية تحتاج الى توفير وسائل قادرة على ردم مشاعر الضعف والخوف بالتعامل مع السبب مباشرة ، عبر إعادة الثقة بين المجتمع والمؤسسات السياسية ، وتبني خطاب سياسي يحمل في طياته مشروع يتلائم مع طموحات شعبنا في الوطن ، ونبذ سياسة التخوين ونظرية المؤامرة وخلق العدو الوهمي، والأهم الكشف بوضوح وتسمية الجهة السياسية التي لا تزال تشكل مكمن الخلل .