ألمطالب المشروعه لنقابات عمال البصرة ...
منذ انتهاء ثورة العشرين التي فجرتها العشائر العراقيه ضد الاحتلال البريطاني في العراق وما تلاها من تصاعد المد المعارض للسيطرة الاجنبيه على العراق التفتت الاحزاب العراقيه الى تلك الطاقات التي وقفت خلف تفجير الثورة فبدأت بتنظيمها من خلال نقابات بدائيه للغايه في عام 1930 في قطاعات النفط من خلال تشكيلها في البصره وبغداد وكركوك فكان عددهم في البدايه بالتحديد 1537 عامل والحركه النقابيه كانت تواجه في ذلك الحين الكثير من الصعوبات في مقدمتها انعدام الوعي السياسي والاجتماعي لدى الاغلبيه الساحقه من العمال فالمجتمع العراقي نفسه كانت تسوده الاميه وأفرازات الحقبه العثمانيه التي امتدت لخمسة قرون من احتلال العراق لذلك لم يكن من السهل تشكيل نقابات عمال فعاله في ذلك الحين او الحديث عنه لا سيما وان المجتمع كان اسير النزعه العشائريه والتبعيه لها في ابسط قضاياه ومشاكله لكن تطور صناعة النفط قادت فيما بعد الى أنخراط الكثير من العمال حتى وصل مطلع الخمسيات لاكثر من خمسة عشر الف عامل وشكل البدايات الاولى لظهور الحركة النقابيه في العراق وكذلك ظهور الطبقه المثقفه بين صفوف هؤلاء العمال نتيجة الجو الايجابي الذي شكل طور الحياة الحرة للكثير من البلدان في ذلك العصر بعد انتهاء الحرب العالميه الثانيه وانتصار الاتحاد السوفيتي على النازيه وهو ما ساعد على نشر الثقافه العماليه بشكل اوسع لا سيما وانه أخذ ابعادا تحرريه قادرة على أحداث التغييرات في الكثير من المجتمعات البشريه ، ترك هذا الوضع العام الدولي تأثيرا أيجابيا في الحركه العماليه في العراق فأخذت على عاتقها تنظيم نفسها بطريقه أفضل من السابق بعد ان تمكنت من امتلاك قيادات مؤهله لفهم الواقع السياسي والاقتصادي في العراق وكذلك قادرة على ترك انطباعا مؤثرا في العمال من ناحيه توعيتهم بأهمية وطبيعة المطالب التي ينشدوها في اي تحرك يقرروا خوضه ..فكان اول أضراب عمالي في مجال صناعة النفط في كركوك عام 1936 وكانت مطالبهم تتلخص بتحسين اوضاعهم المزريه وزيادة اجورهم التي لم تكن تكفيهم لسد حاجات أسرهم من الطعام فقط وكانت مطالب طبيعيه ومشروعه قياسا للارباح التي كانت تحققها الشركات الاحتكاريه الانكليزيه في ذلك الوقت مع ذلك لم تكن الحكومه الملكيه قادرة على أستيعاب تلك المطالب واعتبرت الاضراب تحيديا لسلطتها ونفوذها فجابهتها بمساعده من الانكليز دون رحمه ، كان من الصعب على العمال هضم الانتقاص والظلم الذي كانوا يتعرضوا له دون وجه حق على يد السلطات وراحت الطروحات المناهضه للحكومه والافكار السياسيه التي تغلغلت بين صفوفهم تحقق نجاحات كبيره واوصلت قيادات عماليه اكثر خبره ووعيا الى الطليعه ليأخذ عملها بعدا سياسيا يترك بصماته على الساحه بمرور الايام ..
في هذا الاضراب شعرت الجماهير الشعبيه في كركوك ان هؤلاء العمال يعبرون عما يجول في خاطرهم من غيض على الحكومه فساندوهم ووقفت مجاميع من الناس تحيط العمال وتحميهم من الهراوات التي كانوا يتعرضوا لها ، وتطورت حالة الاحتقان عند العمال بعد مرور عشر سنوات وبالتحديد في عام 1946 عندما قاد عمال النفط في كاورباغي اضرابا حقيقيا مسنودا الى حد كبير من الجماهير ومنظما تنظيما جيدا في الاداء والمطالب التي كانت اربعة عشر مطلبا ، اندلاع هذا الاضراب كان سببه تملص الحكومه والشركات الاحتكاريه من مسؤلياتها ووعودها السابقه للعمال مما كان يجعلهم يعودوا الى نقطة الصفر في المعيشه دون اي تحسن فيها وأخذ هذا الاضراب بعدا وطنيا لتشارك به باقي قطاعات العمال في الصناعه النفطيه في اغلب المدن العراقيه وادى الى اسقاط الحكومه التي كان يقودها ارشد العمري ، كما فجر العمال في القطاعات الاخرى انتفاضة عام 1952 والتي اشترك فيها ايضا عمال نفط الجنوب بقوة وكذلك اضرابات عام 1953 مع ذلك لم يتحقق مطلب العمال الاساسي والجدير بالذكر ان عمال قطاع التبغ وصناعته كانوا منظمي الاضرابات عام 1953 ...
اما تأسيس النقابات العماليه في العراق فقد تم الاعتراف به عمليا عام 1944 وضم ستة عشر نقابه عماليه سيطر السيوعيون على اغلبها (اثني عشر نقابه ) وضمت هذه النقابات عمال الموانئ والسكك الحديديه وعمال البناء والانشاءات وعمال صناعة الورق وكذلك صناعة السكاير ، وساهمت هذه الاضرابات وبالاخص اضراب كاورباغي الذي استمر اثني عشر يوما وتخلله قراءة الكثير من الخطابات السياسيه المعارضه لهيمنة الشركات الاحتكاريه على قطاع النفط العراقي وكذلك خطابات كانت تبث الوعي السياسي للعمال لتشد من ازرهم في مواجهة تعنت السلطات في عدم تحقيق مطالبهم او الاصغاء لهم وادى قمع الحكومه لذلك الاضراب في نهاية الامر الى استشهاد 16 عشر عاملا وجرح27 اخرين ليتسرب خبر القمع الى الجاهير الشعبيه التي ازدادت غيضا على الحكومه وراحت تشد من مؤازرتها للعمال في كل مكان من العراق ..
لقد كانت تلك الاضرابات بحق مدرسة حقيقيه لاشاعة الوعي السياسي والاقتصادي بين العمال وتجعلهم مدركين لاهدافهم جيدا لتسهم في تطوير وعيهم في نهاية الامر ، وكانت انتفاضة عام 1956 الشرارة الاولى لجعل الشعب شريكا اساسيا في المطالب التي كان عمال العراق الذين تزايد عددهم الى ما يفوق الخمسين الف في ذلك الحين يناضلون من اجل تحقيقها فجاءت ثورة تموز كتحصيل حاصل لتلك النضالات الطويله وكللت جهودهم بالنجاح واعترفت بالنقابات العماليه كلاعب اساسي في الساحه السياسيه رغم عدم امتلاكها للواجهه التي تمثلها في البرلمان فتم تحقيق جميع مطالبها في الايام الاولى لثورة تموز عام 1958 لكن القوانين التي تتحكم في طبيعة عمل هذه النقابات بقيت منقوصه بعض الشئ الى ان تم تنظيمها بشكل واسع عام 1971 ...
كانت فترة عام 1973 واحده من افضل الفترات التي يمكن ان نطلق عليها بفترة الطفرة الاقتصاديه للعمال في العراق بسبب ازدياد الابار المكتشفه واتساع ظاهرة تسويق النفط والحاجه اليه والتي ادت ايضا الى مضاعفه سعره وحاجة السوق الى المزيد من العمال كلها صبت في خانة الحاله المستقرة التي استغرقت حتى عام 1987 عندما سنت حكومه صدام القانون رقم 52 والذي تم بموجبه تحويل العمال الى موظفين في قطاعات الدوله وهذا الاجراء كان الى حد بعيد ناتجا عن خوف النظام الدكتاتوري من تأثير هذه النقابات اذا ما اخذ الوضع الاقتصادى منحى سلبي تدريجيا على الوضع العام في البلاد لتكرار الاضرابات ..
والحقيقه ان فترة وصول صدام الى الحكم وانهيار تحالفه مع الحزب الشيوعي هو الذي دق ناقوس الخطر لهذه النقابات التي راحت الحكومه تدريجيا تهمشها من خلال ضخها بعملاء للنظام في صفوفها مرتشين كي تقضي على هيبة تلك النقابات وعملها ، واخذت الحركه العماليه وضع الجمود المتهيأ وبقي قطاع واسع من العمال يعملون في صفوف الحزب الشيوعي وتنظيماته السريه في الجنوب خاصة حتى سقوط الدكتاتوريه واحتلال العراق ، واستبشر عمال العراق خيرا بعودة الحياة السياسيه الى حالة من التعدديه تمكنها من اعادة تنظيم صفوفها وتشكيل نفسها على أسس جديده تتفق مع الوضع الجديد لكنها لم تنعم كثير بتلك الاحلام حتى حولتها الحكومات الممتاليه التي تلت ذهاب بريمر الى كابوس رهيب يطاردها في لقمة عيشها وحياتها اليوميه ، فأغلب عمال النفط في الجنوب يعيشون اليوم أوضاعا مأساويه تفتقر لأدنى متطلبات الحياة البشريه بدءا من الدور التي بنوها بمجموعه من الصفائح والدور الطينيه وانتهاءا بالرواتب التي أزدادت سوءا بدلا من ان تشهد تحسنا وفوق ذلك مصادرة حريتهم في التعبير عن مطالبهم التي لا تتعدى تحسين الاجور والسكن وهي مطالب عادله لا يختلف عليها من يحمل ضميرا حيا ويدرك طبيعة الحياة القاسيه التي افرزها الاحتلال في العراق ، الحكومه العراقيه لم تستجب لمطالبهم بل هددتهم بتهمة الانتماء للارهابيين والتكفيريين ان لم يتخلوا عنها في الوقت الذي يشهد قطاع النفط العراقي عملية نهب منظمة من قبل عناصر احزاب تعمل داخل الحكومه وامام انظار عمال النفط العاجزين عن التصدي لهذا النوع من الارهاب الاقتصادي والقمع الذي يجعلهم عاجزين عن تحقيق حياة بسيطه تبعد عوائلهم واطفالهم عن الحاجه والفقر ،انهم بحاجه للاقلام الحره والنزيهه في معركتهم مع وزارة النفط الحاليه التي يقودها حسين الشهرستاني والتي تعمل وفق اجندة حددها لها صندوق النقد الدولي والادارة الامريكيه نقابات العمال في العراق لا تزال موجوده ومؤثرة في الساحة وبأمكانها ان تمسكت بمطالبها من الاطاحه ليس بوزارة النفط فحسب بل قادرة على اجبار الحكومه على الاستقاله وشل حركتها فهي رغم معاناتها من تقطع اوصالها بسبب العمليات الارهابيه وانتشار قوات الاحتلال في البلاد الا انها تمارس دورها على أكمل وجه ، من الضروري هنا التذكير بالمحاولات الجاريه لتحييد عمال النفط في كركوك عن الازمه من خلال الوضع الذي تعانيه المدينه من عدم الاتفاق بين الاطراف الحكوميه على تحديد مستقبل المدينه فالحكومه تحاول كسبهم لجانبها كي تضمن سيطرتها على وضع المدينه والحكومه الكرديه هي الاخرى تغريهم من اجل كسب اصواتهم في الاستفتاء على الوضع النهائي للمدينه ، السبب الأخر الذي يدفع بالحكومه لعدم الاصغاء لهذه المطالب هو انعدام القانون الذي يجعل من عمل الشركات الاجنبيه في حقول النفط عملا مشروعا فسنت الحكومه قانون النفط والغاز الاخير ليقضي على هذه الحاله التي لا تسمح لهم بالبدء في عملهم لذلك تحاول بعض الاحزاب المؤتلفه في الحكومه السعي لنيل اكبر قدر من المكاسب والاستفادة من هذا الفراغ قبل ان تنتقل ادارة هذه الحقول للشركات الاحتكاريه الكبرى العالميه ، والضحيه الوحيده التي تدفع الثمن في الحالتين هي الطبقه العماليه التي لا تتمكن من توفير ادنى متطلبات العيش لها ولاطفالها كما ذكرت في البدايه ، وادخال العراق في السوق الدوليه بقوة لن يتم كما يعتقد اعضاء الحكومه الحاليه الا بخصخصة هذا القطاع بالتحديد من اجل البدء بعمليه البناء والاعمار وهو اعتقاد يفتقد الى الواقعيه في الطرح ..
فالشركات الكبرى لن تتمكن من الاعتماد على العامل العراقي بعد سيطرتها على الحقول لان عملية الانتاج هنا مرتبطه بالسوق المحليه والاجور فالخصخصه ستؤدي الى ارتفاع الاسعار بشكل عام يقابله ارتفاع بسيط في الاجور مع ذلك هذا يتعارض مع النسبه التي تحددها لنفسها هذه الشركات من عملية الاستخراج وبذلك تلجأ للاستعانه بالعمال الاجانب الذين يتقاضون نصف الاجور ويوفرون لها اموال طائله وتجعلهم الى حد بعيد يتحكمون في السوق وفي القرار العراقي نفسه ، كما انها ستسيطر على عمليات البناء من خلال نفوذها فتطوير قطاع النفط لن يتم من خلال تطوير وسائل الاستخراج والضح بل سيكون بحاجه الى مد شبكة واسعه من خطوط السكك الحديديه وسيكون بحاجه الى شبكة مشابهه من الطرق الحديثه للتوزيع الداخلي وسيكون بحاجة الى توسيع الانتاج في قطاعات اخرى كي تضمن هذه الشركات ديمومة ارباحها على حساب اهالي البلد ، اي انها عمليه متكامله لكن القدرة على تخمين مدى نجاحها من فشلها سيكون تفكيرا غير منطقيا لان هذه الشركات عادة ما تخضع لمتطلبات الصراع السياسي في المنطقه التي تعمل فيها لذلك لن يكون لها الطريق معبدا من اجل الظفر بنفط العراق وعقوده طالما كانت القوات الامريكيه محتله للعراق وتتسبب في قتل الكثير من ابناءه وتجلب لها كل يوم جيشا جديدا من المقاومين لوجودها في العراق ...
المطالب العماليه بسيطه للغايه لكن الحكومه لا تمتلك في يديها الحل فهم يطالبوا بتحسين الاجور والسكن والاعتراف بنقاباتهم التي الغاها وزير النفط من خلال اعتماده قوانين صدام في التعامل مع النقابات ووجودها ولو كانت هذه الاضرابات في بلد عالم ثالثي اخر لتحققت مطالبهم بسهوله ودون هذه التصعيدات التي لا تلائم نفسيه القائمين على القرار السياسي في عراق اليوم ..
واذا ما استمر الحال بهذا الوضع فأنه ينذر بأنتفاضه اخرى ربما ستقلب الاوراق على الحكومه وجيش الاحتلال وتخلق لهم اوضاعا لن يتمكنوا من السيطرة عليها بأي قوة كانت على الارض ، لذلك تبدو الحاله العامة للاحتقان السياسي في البلاد وخاصة في الجنوب في تصاعد لان اعداد العاملين في مختلف القطاعات الصناعيه يعانون من حاله مزريه تساندهم في ذلك الجماهير الشعبيه التي لم تعد قادرة هي الاخرى على تحمل الصراعات الجانبيه على المكاسب بين احزاب الحكومه ، والاضراب الاخير لعمال النفط ترك انطباعا بأنهم ماضون في تحقيق مطالبهم مهما كلف الامر لا سيما بعد الدعم المعنوي الذي حصلوا عليه من نقابات العمال الامريكيه والاوربيه الاخرى التي لا ترى مبررا في رفض مطالبهم من قبل الحكومه والاحتلال ...