أليس من واجب المثقف ان يكون فاعلا باقصى الايجابية؟
ان المتابع للوضع العراقي والمراقب للاخبار على الفضائيات او الصحف او المواقع الالكترونية العراقية يرى اكبر حماقة وغباء سياسي وثقافة الكراهية ، في السنوات الاخيرة انتشرت افكار ومقولات التحريض ضد الاخرين ،لقد قتل الكثير من العرب والاكراد والكلدان والتركمان والاشوريين كما قتل الكثير من المسلمين والمسيحيين والصابئة والايزيدية والشبك بسبب الكراهية والحقد العنصريين، يعادون اكثرية الناس ، وبأسف لم يتصد لهذه الدعوات المثقفون ، الذين يعرفون ان في الديانات والمذاهب وفي عادات الانسانية وتقاليدها ادبيات وضوابط كانت دائما تدعوا الى التعايش والتسامح ، وتحث على العدل والاحترام في التعامل مع الغير وان الاختلاف يجب ان لا يكون سبب للتناحر والكراهية. ففعل الكراهية انما يكون له دوافع وخلفيات نفسية واجتماعية. مما يؤثر في بنوية الجسد الثقافي وفعله. وكما عرفها كثير من علماء الانثروبوليجيا وعلماء الاجتماع تعريفات كثيرة ومتباينة. تحوي في مجملها وتتناول اهم مكوناتها ونشأتها وتفاعلها. ومن ناحية توجهها المعياري فترتكز على بنى المعتقدات والتقاليد والاخلاق والفنون والقوانين وفوق كل ذلك فهي سلوك انساني ربما يكون في مجتمع المدينة فيطلق عليه حضارة أو مدنية. وربما يكون في الريف فيطلق عليه ارث أو تراث.ولكن في النهاية هي افعال ذات بعد روحي ، فلسفي لها اوجهها ومعاييرها. تتقادم بتطور الزمن ، فتحوي السلوك النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والذهني وفقا لمعطيات جيل أو قوم في زمن معين وهم في نظر التاريخ منتجون لثقافة ما وستجلب عليهم هذه المسؤولية الجسيمة نقد النقاد والناس أو استحسانهم فتعيش في وسط المجتمع لا تسلم من النقد والتفنيد. ولكن في ظروف معينة نحتاج للاستعانة بادوات التجديد الذي يأخذ في الاعتبار المحور والاطار العامين للمجتمع لا يكون بمثابة تشظي ولكن اضافة جديدة ومفيدة. ومن هنا ظهرت حيرة ومتاهة الثقافة وتماهيها الفعل السياسي بمعزل عن جسد المجتمع وتجلياته الثقافية. فضرب على المجتمع حملة قوية هدفها تسييس الثقافة.
فمارست السياسة دور الأب الغائب بسطوة جبارة وطغيان ظاهر ، الأمر الذي ثبت في الاذهان ثقافة جديدة تنحسر مسلماتها الاساسية امام طوفان الادلجة السياسية. وفي الحقيقة ما هي "أي السياسة" الا وسيلة أو اداة في يد الحكام اوالمسؤولين يأمرون بها عبر القرون والسنوات وملامح الثقافة ثابته ومتوارثه. لذا نعتقد إن دور تسلط السياسة على الثقافة وتجنياتها بيد الساسة لا يخول لهم أن يفعلوا هذا الفعل الانساني المريب. والسؤال الهام هو هل على الثقافة ان تسترد قواها فتفرض سيطرتها على كل اشكال الحياة ؟ ام الناس قد اتجهوا الى ممارسة السياسة كل على هواه في دور يختزل كل سمات الإنسان وفعله الثقافي؟
الخوض في هذا الموضوع لا يبدو سهلا والحديث فيه كعدد ذرات الأرض تباينا واختلافا. والحديث عن الحضارة بمحتوياتها وانساقها المادية والمعنوية في تناغمها العضوي والذي يسيطر على عصرنا الحاضر ليس الا من وحي الثقافة. إذا لو ان الحضارة تطورت في اشكال انساقها لتطور الإنسان. ولكن السياسة لا بعد لها الا بعد السلطة فتتبدل مسلمات ومكتسبات البشر في رقعة كالعراق اثر الفعل والتفاعل الانساني السياسي الذي هو بدوره يشير إلى دور قصورى وقسري تنتهجة السياسة في معزل عن التفاعل العام. فتهتز معايير المجتمع وتخبوا فيه أسس الحضارة ، وبالتالي تتنامى في المجتمعات معاني الخوف وقلة الامن وضياع الأخلاق واستلاب الحياة كقيمة أخلاقية ومعيشية. لا يسترد هذا المجتمع معانيه السامية الا إن تتوجه السياسة بهدى ثقافة الشعب العراقي ككل دون اقصاء طرف من اطرافها أو مكون من مكوناتها. ولكي نفرض الفعل الثقافي على السياسة واعادتها إلى مكانها الطبيعي بين مكونات الثقافة ككل... اليس من واجب المثقف العراقي ألا يكون سلبيا ولا حياديا ، وعليه ان يكون فاعلا بأقصى الايجابية؟ وهذا ليس من الصعب تحقيقه في الوطن حين تخرج الثقافة عن عزلتها ، لتشعر بالحرية التي تقودها ، بالتالي ، الى مراجعة جذرية لمسلمات الفعل السياسي والفكري السائد ، ليتكامل كل من الفعل الثقافي والسياسي ، وينجزا .. من ثم .. الفعل الوطني. يجب علينا أن نستلهم قوانيننا ودساتيرنا من عمق التفاعل البشري لدى مجتمعنا العراقي وتحل بذلك معضلة السياسة التي هي في الاساس ليست معضلة وانما تجارب في لحظات مخاض حالكة تبشر بمولود هالك. وهكذا دواليك سيظل الفعل السياسي يدجن الثقافة ويؤدلج لها وفي كل مرة نشهد نفس لحظات المخاض اليائسة. وتموت معه معايير الثقافة وبنيويتها. وما نزال بعيدين عن حياض التقدم والتقنية ما لم نجتهد كثيرا في دواخلنا ونبني ثقة الاحترام المطلق لتسمياتنا حتى تغدو كشواهق الجبال. ومن الاسباب التي تجعلنا تاريخيين ارتداديين دائما نحو الحنين الروحي ، هي مكتسبات اجدادنا من حضارة خالدة ، قد يعمل الكثيرون على تزييفها و يعمل آخرون على سرقتها وطمس معالمها من الخارج أو من الداخل. فلصوص الداخل اصحاب اغراض دنيئة لها مرجعيات نفسية واجتماعية ، مما حدى بالفعل الثقافي إلى الانشطار كمصير خالد ازلي. فانفردوا بالفعل السياسي كبديل ناقص. ومحاولات بليدة ترجم ذواتهم قبل كل شيء. ولهذا السبب شباب اليوم والامس يعيشون على ذكريات كانت واقعة ولكن من يضمن استمراريتها غير هؤلاء الشباب. وطوال هذه السنوات القصيرة هي عمر السياسة العراقية في العصر الحديث بعد انتهاء طوفان السيطرة العسكرية , لم تؤسس السياسة لفكر ثقافي مدروس يكون مرجعية ثابتة لدواوين الحكم في العراق. ودائما تمارس السياسة الفصل والعزل الجنسي لمسميات الحضارة الواسعة وأكثرها تضررا هي الثقافة بوجه عام والمجتمع بوجه خاص. لقد شاخت العقول والاجساد وهي ما تزال تترنح مراهقة فاقدة الوعي في سبيل وجه معياري سياسي أشبهه بخضرة الدمن هو ليس من بنوية الثقافة العراقية. حتى غدت الثقافة عندنا كمنتوج بشري ليس الا مزالق واقبية وكهوف تنزع إلى الظلامية بعيدا عن الشفافية. فاذا اتسع الجهد الداخلي والوجداني اتسع بنيان المجتمع المادي والمعنوي والثقافي. فينعدل حال السياسة كأحد اعظم معضلات الشعب العراقي. هل يفتقد السياسيون للذكاء؟ هل هم منغمرون في برك الجهل والظلام؟ كل هذا لم يحدث ولكن الذكاء لا يعني الفطرة السوية ولا يعني الوجدان الصاحي ولا يعني الضمير المتيقظ بل هو قوة كامنة كمثل شرارة الخريف التي تحرق الاخضر واليابس. ان هدنت سكت الناس ولكن لا يأمنون شرها وإن اشتعلت رقد الناس في اكوام الجحيم.
wadizora@yahoo.com