Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أما لهذا الليل الكالح من آخر؟

14/12/2009

لم يهدأ الوضع الأمني في العراق منذ بداية الاحتلال الأمريكي عام 2003 وحتى اليوم جراء السياسة الرعناء التي اتخذتها الادارة الأمريكية في البلاد، بدءاً من استحصال قرار من مجلس الأمن بشرعنة الاحتلال، وابتلاع الرئيس الأمريكي بوش الأبن لوعوده للشعب العراقي، عبر خطابه الذي استهل به الغزو، الذي دعاه بـ[ حرب تحرير العراق]!، حيث ادعى بأن الغزو يستهدف انقاذ العراق من طغيان صدام ونظامه الفاشي الدموي، لكن تلك الوعود ما لبثت أن تلاشت، وبات العراق تحت رحمة المحتلين الأمريكيين والبريطانيين من جهة، وطغيان القوى السياسة الطائفية والعرقية من جهة أخرى.

كان الاحتلال أول الغيث لما حل في البلاد من ويلات ومصائب وخراب ودمار ونهب، حيث فسحت قوات الاحتلال المجال واسعاً أمام قوى الشر والجريمة لتعيث في البلاد نهباً لكل ما وقعت عليه أيديهم الأثمة، وأقدمت على حرق معظم مؤسسات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية، من دون أن تتخذ قوات الاحتلال أي إجراء لوقف هذه الجرائم الخطيرة التي لم تترك شيئاً إلا نهبته وخربته، وكان المتحف العراق بما يحتويه من نفائس الأثار العراقية العريقة التي لا يمكن أن تقدر بثمن في مقدمة الأهداف، دون أن يعني ذلك الادارة الأمريكية المسؤولة بموجب القانون الدولي بإعتبارها دولة محتلة، وهي لو شاءت حماية مرافق الدولة هذه لفعلت ذلك بكل يسر وسهولة دون أدنى ريب.

وجاءت الخطوة التالية للإدارة الأمريكية بتعيين حاكم عسكري أمريكي هو الجنرال [كاردنر]لحكم العراق، ثم ما لبثت بعد ايام واستبدلته بحاكم مدني هو الدبلوماسي[بول بريمر]والذي لا يعرف شيئاً عن العراق، ولم يسبق له العمل فيه ولا حتى زيارته، حيث حكم العراق حوالي السنة اقترف فيها العديد من الأخطاء الجسيمة التي تقع في عداد الجرائم، والتي أوصلت العراق نحوى كارثة الحرب الأهلية الطائفية بين عامي 2006 و2007 ، والتي أراقت دماء عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء وشردت ما يزيد على المليونين من ديارهم في عملية تطهير طائفي لم يعرف الشعب العراقي لها مثيلاً من قبل .

فقد أقدم بريمرعلى حل الجيش والأجهزة الأمنية وترك البلاد تغرق في الفوضى، دون أن يتخذ الاجراءات الكفيلة بحماية الأمن والسلم الأهلي في البلاد. بل اكتفى بملاحقة قائمة ال 55 لعصابة النظام الصدامي، وتغاضى عن أعوان النظام الذين اقترفوا من الجرائم خلال 35 عاماً من حكم البعث ما يندى لها الجبين، والذين تواروا عن الانظار في بادئ الأمر خوفاً على حياتهم من الاعتقال والمحاكمة عن الجرائم التي اقترفهوها بحق الشعب والوطن.

وهكذا وجد أعوان النظام من البعثيين الفرصة سانحة، بعد أن اطمأنوا بعدم مواجهة الحساب والعقاب لما اقترفت أياديهم من الجرائم الوحشية البشعة بحق مئات الالوف من المواطنين الأبرياء، وبدأوا بتنظيم صفوفهم من جديد، وهم الذين يمتلكون الأموال المنهوبة، والخبرات القتالية، ووسائل القتل الوحشية، والسلاح الذي تركته قوات الاحتلال سائباً بعد حل الجيش، حيث تم نهب المعسكرات كلها بالإضافة إلى الاسلحة التي كدسها نظام صدام في المدارس والطرقات والشوارع استعداداً للحرب التي كانت على وشك الوقوع.

وبدأت تلك العصابات المجرمة ترفع رؤوسها من جديد، وقد حملت السلاح لاستعادة الفردوس المفقود، وبدأت باستقبال واحتضان وتجهيزعناصر حلفائها من عصابات القاعدة المجرمين الذين بدأوا يتدفقون على العراق من سوريا وإيران والسعودية بدعوى محاربة المحتلين الأمريكان والبريطانيين!، وشرعوا بتنفيذ جرائمهم البشعة بحق المواطنين العراقيين من خلال السيارات المفخخة والعبوات المزروعة في الطرقات وألاحزمة الناسفة ليوقعوا اقصى ما يمكن من الضحايا بقصد ارهاب الشعب، وخلق حالة من الرعب والخوف والانكفاء للمواطنين.

وزاد في الطين بله أقدام الحاكم الأمريكي بريمر على اقامة ما دعاه بالعملية السياسية البائسة، والتي أثبتت فشلها بعد ستة أعوام من عمر الاحتلال، فقد أقام ما سمي بمجلس الحكم على اسس طائفية وعرقية مقيتة، وجاءت بأحزاب الاسلام السياسي والقيادات القومية الكردية في ذلك المجلس، مما عمق الشرخ بين مكونات الشعب العراقي، وقدم ذلك الاجراء الكارثي خدمة كبيرة لقوى البعث وحلفائهم القاعديين، حيث استغلتها لتأجيج الصراع الطائفي، ولا سيما بعد أن اقدمت أحزاب الاسلام السياسي الشيعية والسنية على تشكيل الميليشيات المسلحة، لتأخذ الصراع نحو أبعاد خطيرة قادت البلاد إلى الحرب الأهلية الطائفية.
وأصدر الحاكم الأمريكي بريمر قانون الأدارة الموقتة للمرحلة الانتقالية، والذي جاء ملبياً لطموحات قيادة التحالف القومي الكردي، و قيادة الائتلاف الشيعي الطائفي، ثم جرت الانتخابات الأولى التي قاطعتها المحافظات التي تضم اغلبية سنية، وكان قرار المقاطعة يتسم بعدم الادراك لنتائجه، مما اسفرت تلك الانتخابات عن برلمان سيطر عليه تحالف الائتلاف الشيعي بزعامة الحكيم والتحالف الكردي بزعامة السيد البارزاني والسيد الطالباني بأغلبية كبيرة، مكنتهم من تولى عملية صياغة الدستور الدائمي للبلاد الذي جاء مقصلاً على مقاس صائغيه، واستطاعت الحكومة التي انبثقت عن تلك الانتخابات إجراء الاستفتاء على الدستور الذي جاء مليئاً بالثغرات الخطيرة، وتمريره بعد مقاطعة المحافظات التي تضم أغلبية سنية للاستفتاء، مما عمق الشرخ بين الطائفتين الشيعية والسنية وأدى إلى تصاعد الصراع.

حاولت الادارة الأمريكية، بعد أن تصاعد الصراع الطائفي تقديم تنازلات للطرف السني في عملية ترضية، واقناع أحزاب الطائفة السنية بالاشتراك في العملية السياسية بعد اضافة مادة جديدة في الدستور تنص على اعادة النظر في المواد التي اعترضت عليها .
وهكذا استطاعت الادارة الأمريكية إشراكهم في العملية السياسية، ومنحتهم مواقع هامة في الحكومة والبرلمان، وعضوية هيئة الرئاسة، بالإضافة للأجهزة الأمنية وقوات الجيش التي باتت تضم عناصر مختلف الميليشيات المسلحة، والتي لا تدين بالولاء للوطن بل لقيادات أحزابها السياسية.
وهكذا انخرطت احزاب الاسلام السياسي السنية، وبعض القوى التي لها ارتباطات سابقة مع نظام صدام في العمل السياسي، وشاركت في الانتخابات الثانية، وحصلت على نسبة كبيرة نوعاً ما في البرلمان الجديد.

لكن الصراع لم ينتهِ بين الطرفين، بل اتخذ له مسارين هذه المرة ، المسار الأول صراع سياسي داخل البرلمان ، والمسار الثاني صراع مسلح في الشارع، وهكذا بدأت هذه القوى تستخدم صفتها العسكرية والأمنية، وعجلات الجيش والشرطة والأمن، في تنفيذ الجرائم ضد المواطنين حتى بات المواطنون يرتعبون من مواجهة قوات الجيش والشرطة، ولا يأمنون جانبها، بعد وقعت الكثير من الهجمات التي شنها مسلحون يرتدون الملابس العسكرية ويستخدمون عجلات الدولة ضد المواطنين الأبرياء، وبات المواطنون غير قادرين على التمييز بين العصابات المسلحة للميليشيات وقوات الأمن الحقيقية، وخاصة نقاط السيطرة والتفتيش المنتشرة في كافة الطرق والشوارع التي كانت الكثير منها سيطرات مزيفة لعصابات الجريمة التي استطاعت حصد أروح الكثير من المواطنين الابرياء واخنطاف وابتزاز البعض الآخر، وباتت جميع الطرقات تشكل خطراً على حياة المواطنين.
أما البرلمان فقد تحول إلى أشبه بسوق الهرج، يُخجلُ كل من شاهد جلساته وصراعاته، ومعظم أعضائه لا يدين بالولاء للعراق والشعب الذي انتخبهم، بل لقادة أحزابهم الطائفية والقومية، ولم يستطع انجاز معظم القوانين المعروضة عليه، بل لقد عجز في كثير من الجلسات عن تحقيق النصاب بسبب غياب الكثير من أعضائه دون عذر مشروع، يتجولون في بلدان أوربا وأمريكا والبلاد العربية ويتقاضون الرواتب الضخمة، ويشرّعون لهم مكاسب وامتيازات لم يسبق لها مثيل في كل برلمانات العالم، مما اثار استياء وغضب الشعب العراقي المنكوب بممثليه، والذي ندم إشد الندم على انتخابهم.
وامتد الصراع داخل مجلس الرئاسة، وبينه وبين رئاسة الوزراء، وباتت السفينة العراقية التي يقودها ثلاث ملاحين في مهب الريح، وخاصة بعد أن اقترب موعد الانتخابات البرلمانية التي كان مقرراً لها أن تجري في 16 كانون الثاني القادم، حيث تسعى القوى السياسية المسيطرة على الحكومة والبرلمان الحالي للحفاظ على مواقعها الحالية في الانتخابات القادمة، وهكذا دخلت في صراع فيما بينها، وبلغ أوج هذا الصراع في تشريع قانون الانتخابات الجديد، حيث أدى ذلك الصراع إلى رفض ممثل الطائفة السنية في هيئة الرئاسة لذلك القانون، وأعاده البرلمان من جديد، وبعد مخاض عسير أجرى البرلمان تعديلات عليه، لكن تلك التعديلات شملت مواداً لا علاقة لها بالنقض، مما جعل القانون مهدداً بالنقض من جديد، واضطر البرلمان إلى إجراء إضافات جديدة على القانون في عملية ترضية.
لكن القانون لم يحقق طموحات الشعب العراقي الذي سئم هيمنة قوى الاسلام الطائفي بشقيه الشيعي والسني والقوى القومية الكردية، والذي يطمح بانتخاب برلمان يضم عناصر ديمقراطية علمانية تمتلك من الكفاءة والعفة والنزاهة والمقدرة، والأخلاص للوطن، والحرص على وحدته، لتنبثق منه حكومة وطنية لكل العراقيين، بعيدة عن المحاصصة الطائفية والعرقية.
إن الصراع الجاري بين القوى السياسية اليوم قد اتخذ العنف والجريمة وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية، بمناسبة قرب الانتخابات من جهة، وقرب استحقاق سحب القوات الأمريكية من العراق الذي أشك في انجازه لأمد طويل، وقد بلغ الصراع أوجه في تفجيرات ما عرف بأيام الأحد والثلاثاء والاربعاء الدامية التي حصدت أرواح المئات من المواطنين الابرياء، وأشاعت الدمار والخراب في مناطق واسعة من بغداد، وأشاعت الرعب في نفوس المواطنين الذين باتوا لا يأتمنون على حياتهم لا في بيوتهم، ولا في مقرات عملهم، ولا في تنقلاتهم.
وجاءت تصريحات رئيس الوزراء المالكي أمام البرلمان خير دليل على طبيعة هذا الصراع الدموي الذي تحدثنا عنه،[ وشهد شاهد من أهلها]، حيث اتهم المالكي بصريح العبارة الكتل السياسية بوقوفها وراء التدهور الأمني في البلاد قائلاً:
{ان تدخل كتل سياسية هو وراء تدهور الوضع الامني، وطالب بتطهير الاجهزة
الامنية من جميع الجهات السياسية، وأكد ان الجرائم الاخيرة سببها خلافات سياسية وطائفية، وطالب المالكي مجلس النواب بان يصدر قرارا بتطهير الاجهزة الامنية من المنتمين لاي جهة سياسية بما فيها حزبه، ليكون الجهاز الامني مهنيا وكفؤا وشعبيا، ويعتمد على المواطنة، كما طالب مجلس النواب
بان يصدر قرارات تدعم الامن من خلال استصدار القوانين، معتبرا على سبيل المثال أن جهاز المخابرات الوطني لم يستطيع حتى الآن أن يعيّنَ رئيسا بعد أن تقاعد رئيس جهاز المخابرات محمد عبد الله الشهواني بسبب عدم التوافق السياسي، مضيفاً أن كل جهة تريد ان تكون مسؤولة عن الجهاز، ولا زال الجهاز معطلا بسبب عدم التوافق السياسي}!!. .
هذا هو حال البرلمان والحكومة وهيئة الرئاسة الذين أوصلوا البلاد إلى ما نحن عليه اليوم، بسبب هذه العملية السياسية الشوهاء، والقائمة على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، والذي بات يهدد بتصاعد الصراع كلما اقترب موعد الانتخابات، وسيستمر كذلك بعد الانتخابات، عند البدء بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة التي تنتظرها مهام كبيرة وخطيرة تتعلق بمواضيع تعديل الدستور، والعلاقة بين حكومة المركز وحكومة اقليم كردستان، وخاصة فيما يتعلق بقضية كركوك، وما يسمى بالمناطق المتنازع عليها!، وقانون النفط والغاز، والتي باتت تهدد بصراع قومي جديد، سيكون وقوده المواطن العراقي المغلوب على أمره.
إن الشعب العراقي مدعو اليوم أن يأخذ الزمام بيده ليقرر مصير العراق من خلال الاستعداد للانتخابات القادمة، والمشاركة فيها بنشاط، ومن خلال نبذ كل أولئك الذين اوصلوا البلاد إلى هذه الحالة البائسة، واختيار العناصر الوطنية الكفوءة والنزيهة المؤمنة بعراقيتها، وحرصها على وحدة البلاد، والبعيدة عن التعصب القومي والطائفي الذي لم يجلب للعراقيين سوى الويلات والمصائب والخراب.

Opinions