Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أمريكا والتجربة العراقية المرٌة: من الدولة العظمى إلى الدولة الأعظم

الحلقة الأولى
ثمن الإمبراطورية
قال الصحافي الفرنسي المعروف تييري ميسان صاحب كتاب " الخدعة الرهيبة " الشهير عن أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 في محاضرة له مؤخراً عن كتابه الجديد " الخدعة الرهيبة2 " المكرس لسياسة أمريكا في الشرق الأوسط وأسرار علاقتها بإسرائيل ومناوراتها حيال إيران وسورية وتجربتها في العراق والذي سنعرض له في مقال قادم،في معرض رده على أسلحة الحاضرين :" أن أمريكا عملاق بأرجل من طين وسوف يتهاوى من تلقاء نفسه في وقت قريب، وهي لا تمتلك الإمكانيات اللازمة لطموحاتها الإمبريالية".
أما الدكتور سّيار الجميل فقد أبدع وأفاض بعلمية الباحث والمؤرخ الرصين في كلمته التي ارتجلها في منتدى الدوحة السابع للديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة الذي عقد في 23-25 أبريل ـ نيسان 2007 فقد تساءل بمرارة، وأشار بأصابع الاتهام إلى ما فعلته أمريكا في العراق الجديد وهو عنوان محاضرته، وقال :" هل كل ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق على مدى أربع سنوات هي مجموعة أخطاء أم حزمة خطط ؟ فالأمريكيون في صحافتهم يبررون أفعالهم في العراق كونها " مجرد أخطاء " ، في حين أن العراقيين يعتقدون اعتقادا راسخا أن ما حصل ما هو إلا نتيجة خطط مرسومة بدقة متناهية !!

وهي الأطروحة التي يؤكدها الكاتب والصحافي الفرنسي تييري ميسان ، ليس من باب نظرية المؤامرة ، بل من باب التقصي والتحليل والمقارنة والتحقيق والتحري الدقيق عن الحقائق والوثائق التي يمتليء بها كتابه الجديد . مما دفعني للقول بدوري عمٌا فعله العراق بأمريكا وماذا يمثل هذا البلد العريق لتلك الدولة العملاقة بلا تاريخ. وتوصلت إلى أن ما يهم أمريكا في العراق ليس شعبه ولا تاريخه ومستقبله بل أرضه وما يوجد في باطنها من ذهب أسود لا أكثر، وليذهب الشعب العراقي إلى الجحيم فكم كانت أمريكا تتمنى أن يكون العراق أرضاً بلا شعب وهذا ما يفسر سماح الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ اللحظات الأولى لأعمال انهب والسلب والفوضى وسرقة تراث العراق وآثاره وممتلكات دولته والسماح لكل من هب ودب إلى الدخول للعراق والخروج منه بلا مساءلة كما قال الدكتور الجميل. نعم الدكتور سيار الجميل محق عندما قال أن أمريكا تعاملت مع العراق كونه رقعة تضم جماعات وإقطاعات ومكوٌنات ولم تتعامل معه كوطن ومواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو المذهبية أو الدينية أو القومية، وسحقت كل مؤسسات العراق لتبدأ بتشكيلها من الصفر كما كانت تأمل وتحلم ولكنها عندما فشلت ألقت مسؤولية الدمار على عاتق العراقيين وتخطط الآن للتخلي عن العراق وعن عملية إعماره متخلية عن كل عهودها والتزاماتها أو التي يفرضها عليها العرف والقانون الدولي كدولة محتلة.
في ظل نظام القطبين كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتصرف وفق ضوابط المجتمع الدولي كدولة عظمى شأنها شأن باقي الدول العظمى الأخرى الموجودة تحت سقف الأمم المتحدة سواء كانت منضوية تحت مظلة هذا القطب أو ذاك، ولم تكن تتجرأ أو تقدم على خطوة دون أن تأخذ في الحسبان ردود أفعال الدول العظمى الأخرى أو تصادر حقها في القرار والموقف والرأي.
من التعسف والخطأ إلقاء مسؤولية إنفلات السياسة الخارجية الأمريكية على عاتق منظري الحقبة الحالية والتي تمتد منذ تاريخ ولاية الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان ولا تنتهي بولاية جورج وولكر بوش مروراً بولاية جورج بوش الأب رغم أنهم يتحملون مسؤولية تهيئة الأجواء النفسية لمثل تلك السياسة وعلى رأسهم صاموئيل هنتنغتون صاحب أطروحة " صدام الحضارات" علماً بأن أحداث الحادي عشر من أيلول جاءت لتؤكد ظاهرياً صواب بعض ما جاء في طروحاته وتحليلاته الجيو ستراتيجية. فالصدمة النفسية التي أحدثتها تلك الأحداث المدوية على السكان قد أتاحت للسلطات الأمريكية المحافظة الجديدة لتسريع الخطى نحو " النزعة الإمبراطورية" لدى الولايات المتحدة الأمريكية والتي ظهرت بوادرها وبانت ملحوظة وملموسة منذ سقوط جدار برلين.
المؤشرات الأولى:
لم تتوقف القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية الأمريكية عن التنامي، وكانت هي بحد ذاتها مؤشراً قوياً على تعزيز النزعة الإمبراطورية المغرية والتي لا تقاوم بما يرافقها من زهو وعنجهية وغرور يقود حتماً إلى السلوك الإمبريالي لاسيما بعد فترة ليست بالقليلة من هيمنة الطابع الانعزالي الذي طبع السياسة الخارجية الأمريكية ووسمها ببصماته.
إلى جانب ذلك كان الهم والانشغال المتمثل باحتواء القوة السوفيتية المتصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية هو الذي قاد الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبني صيغة " التعددية الدولية" لمدة نصف قرن تقريباً وتقبل فكرة الاعتماد على حلفائها التقليديين في تلك الحرب من الأوروبيين إلى جانب عدويها السابقين المندحرين في تلك الحرب وهما ألمانيا واليابان ، وكذلك الاستناد إلى المؤسسات والمنظمات الدولية وعلى رأسها ذلك الجهاز البيروقراطي الهائل والغامض ألا وهو منظمة الأمم المتحدة. وهكذا شاركت الولايات المتحدة الأمريكية بصياغة النصوص والمواثيق الدولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والإعلان العالمي حول الحريات وعلى رأسها حرية الدين والمعتقد، وميثاق حقوق الأطفال وإتفاقية محاربة ومكافحة العنصرية، وغيرها العديد من المعاهدات المتعلقة بالأمن الدولي. ولكن، ومنذ بضعة أعوام، لم تتوان الولايات المتحدة الأمريكية عن التملص من التزاماتها الدولية والتنكر لتوقيعها عليها كلما تعارضت تلك النصوص والمواثيق الدولية مع متطلبات قوتها الجبارة المتنامية.
لقد اتخذت تلك التنصلات أشكالاً متعددة كرفض التوقف التام والكامل عن إجراء التجارب النووية، ورفض قرار منع وتحريم صنع الأسلحة الكيماوية والجرثومية والألغام المضادة للبشر أو ضد الأفراد، والتنكر لمعاهدة 1972 التي تمنع انتشار الصواريخ البالستية البعيدة والمتوسطة المدى، وتلك المضادة للصواريخ، إلى جانب رفض واشنطن تطبيق بنود بروتوكول كيوتو لحماية البيئة بالرغم من توقيع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الأولي عليه ، واعتقال عدد كبير وغير معروف من الأجانب والأمريكيين والمشتبه بهم ولم تثبت عليهم أية تهم وليسوا مذنبين بجرم ارتكبوه لكنهم مازالوا يقبعون في السجون والمعتقلات الأمريكية العلنية والسرية لاسيما معتقل غوانتانامو . وبصدد هذا المعتقل الشهير وصف قاضي محكمة الاستئناف اللورد جوهان شتين معتقل غوانتانامو بأنه بمثابة الثقب الأسود الفضائي وتساءل بهذا الصدد قائلاً:" هل أن نوعية العدالة المرصودة لهؤلاء السجناء تحترم، ولو الحد الأدنى، المعايير الدولية من أجل إجراء محاكمات عادلة ونزيهة لهؤلاء المعتقلين؟ الجواب هو قطعاً بالنفي المطلق وهذا عار على بلد يدعي أنه معقل للحريات والديمقراطية".
وهناك مؤشرات أخرى على عدم احترام الولايات المتحدة الأمريكية لإرادة ورغبات المجتمع الدولي وأعرافه كإرغام العديد من الدول للتوقيع على معاهدة دولية تمنع محاكمة مواطنين أمريكيين أمام محكمة جنائية دولية تنادت لتأسيسها 135 دولة، ورفض أمريكا تطبيع النظام الدولي وفق المقاييس المتعارف عليها في العلاقات الدولية. ومن هنا يمكننا القول أن الولايات المتحدة الأمريكية لجأت إلى صيغة " التعددية الدولية" واستندت إليها في السابق عندما كان يتعين عليها تحييد واحتواء الخصم المنافس والعنيد والخطر آنذاك وهو الاتحاد السوفيتي. واليوم تحولت هذه الترسانة من النصوص القانونية والتشريعات والمواثيق والأعراف الدولية إلى عائق يكبح سياستها الطموحة للهيمنة على العالم وقيادته وبالتالي بات عليها أن تتخلص منها بأي شكل من الأشكال وهذا ما فعلته بالفعل فيما يتعلق بالعراق الذي كان بمثابة أول اختبار قوة عملي بينها وبين المجتمع الدولي فكان أن احتقرت الولايات المتحدة الأمريكية الإرادة الدولية وذهبت إلى أبعد ما أمكنها في منحاها الجديد.
مخطط غير معلن:
كان القادح أو المحرك لهذا السلوك العدواني الأمريكي هو تفجيرات الحادي عشر من أيلول 2001 التي استهدف برجي التجارة الدولية التوأمين في نيويورك والبنتاغون في واشنطن وهي رموز للرأسمالية المنتصرة وللقوة العسكرية المتجبرة وتم تدمير البرجين بالكامل خلال بضعة دقائق كما تم تدمير جزء كبير من مبنى البنتاغون الحصين الذي لا يقهر . ولقد تعرضت أمريكا للإهانة البالغة في عقر دارها وتحدتها منظمة " إرهابية" مجهولة المعالم تطلق على نفسها اسم " القاعدة" ولم تتمكن أمريكا بكل قوتها التكنولوجية والمخابراتية والتجسسية من العثور على أسامة بن لادن واعتقاله وتقديمه للمحاكمة حيث مازال مختفياً في كهوف وشعاب المنطقة الحدودية الفاصلة بين أفغانستان والباكستان وبالتالي لم يعد أمامها سوى البحث عنه ولكن هذه المرة ليس في أفغانستان بل في بغداد وتكون بذلك قد بلغت قمة السذاجة والغباء السياسي والاستراتيجي والعسكري والسياسي لأن ترك القاعدة وبن لادن يسرحون ويمرحون وينشطون ويتحدون والتوجه إلى العراق لا ينم عن ذكاء سياسي إلا إذا كانت تلك خطة مبيتة سلفاً وبقصد مسبق ولم تكن الحرب على الإرهاب ومطاردة القاعدة وبن لادن سوى ذريعة واهية.
كانت التعبيرات والصيغ التي استخدمها جورج بوش أصولية ومتشددة لا تقل أصولية وتشدداً عن تعبيرات بن لادن والظواهري والزرقاوي وأبو اليزيد وغيرهم من قادة القاعدة. والمعروف أن الشعب الأمريكي لا يتبع حكومته وسياستها إلاٌ إذا تحلٌت بأسباب أخلاقية مقنعة. من هنا يمكن أن نفهم لجوء الرئيس جورج بوش إلى صيغة دينية في " حملته الصليبية " وهي صيغة الصراع بين الخير والشر. وكان صدام حسين قد رد عليه برغم عدائه المعروف للدين ورجال الدين، باستخدامه صيغة الجهاد بينما كان نظام البعث " علماني" يصفه رجال الدين المعادين له سنة وشيعة على السواء بـ " البعث الكافر" فلم يكن نظام صدام حسين يحترم الدين أو يطبق تعاليمه إلا بعد اقتراب أجل الضربة الأمريكية القاصمة حيث جعل صدام حسين الدين مطية لشعاراته.
الهدف غير المعلن للحملة الأمريكية المستعرة هو بلا شك السيطرة الأمريكية على مصادر الطاقة العالمية وطرق إمداداتها وتسويقها. ومن المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية تستهلك اليوم أكثر من 25 مليون برميل من البترول يومياً وتتضاعف الكمية أثناء الحروب بالطبع. في حين لا تنتج أمريكا سوى 5 مليون برميل يومياً، وإن احتياطاتها النفطية قابلة للنضوب قريباً. بينما هي غير مستعدة لخفض استهلاكها للطاقة كما أثبت ذلك رفضها التصديق على بروتوكول كيوتو لحماية البيئة. وسوف تعتمد أمريكا كلياً في السنوات العشر القادمة في تزودها بالنفط على الخارج بنسبة تتجاوز الـ 80% من احتياجاتها. والحال أن العراق يمتلك ثاني أكبر احتياط نفطي في العالم وإن احتلاله وتمركز القوات العسكرية فيه بأية صيغة كانت، لهو أمر حيوي واستراتيجي بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية لاسيما وأنها باتت تشكك بجدية ارتباطاتها الاستراتيجية بالمملكة العربية السعودية التي موٌلت عدداً كبيراً من الإسلامويين والإرهابيين في كل مكان في العالم سواء أكان ذلك شعبياً وأهلياً أو رسمياً وحيث ما تزال المملكة العربية السعودية بعيدة عن إنجاز إصلاحات ديمقراطية جذرية وحقيقية في بنيتها التشريعية والتربوية والتعليمية والسياسية ولذلك ستظل المملكة أرضاً خصبة ومرتعاً ملائماً لمن يسمون أنفسهم بالجهاديين وعلى رأسهم أسامة بن لادن والذي شكل وسيشكل دائماً خطراً كبيراً حتى على من يدعون أنهم يطبقون الشريعة الإسلامية حرفياً كقانون ودستور لأنظمتهم السلفية.
النفط هو عصب الاقتصاد والسياسة والاستراتيجيات وصراعات الدول العظمى والصناعية منها بصفة خاصة. وحتى اليوم لم تخفض منظمة الدول المصدرة للنفط " أوبك" أسعار النفط الخام بالرغم من أنه يتعين على الحكومة العراقية الحالية التي أعقبت انهيار نظام صدام حسين الدكتاتوري أن تزيد من معدل إنتاجها من النفط الخام على المديين القصير والمنظور لتخفيف أو تسديد ما تبقى من ديونها التي لم تسقط بعد، وكذلك مواجهة أعباء تكاليف إعادة البناء والإعمار وتوفير مستلزمات احتياجات شعب محروم من أبسط مقومات الحياة منذ أكثر من عقدين بسبب سياسات ومغامرات النظام الصدامي السابق العدوانية الطائشة، وتبعات أو تداعيات وعواقب الحصار الاقتصادي، والمقاطعة، والحظر الدولي المفروض على العراق في أعقاب حرب تحرير الكويت سنة 1991.
توجد ثلاث مناطق على الأرض ذات أهمية عالمية تعتمد كلياً في تزودها بالطاقة على استيرادها للنفط والغاز من الخارج وهي البلدين العملاقين بعدد سكانيهما الملياري وهما الصين والهند، والاتحاد الأوروبي الموسع الذي وصل تعداده السكاني إلى 425 مليون نسمة وهو أول قوة اقتصادية وتجارية في العالم، موازية للولايات المتحدة الأمريكية إن لم تفوقها. وهذه المناطق الثلاث لا يمكن أن تتجاهل أو لا تأبه بتمركز إدارات ومقرات الشركات النفطية العالمية والمتعددة الجنسيات في الولايات المتحدة الأمريكية بدلاً من توزعها في أوروبا وآسيا حيث من حق هاتين القارتين أن تضمنان لشركاتهما موطيء قدم لها داخل المناطق المنتجة للنفط وعلى رأسها العراق. فلماذا لا يكون لشركة ألف ـ توتال الفرنسية وجود وحصة في السوق العراقية أسوة بشركة اكسون الأمريكية على سبيل المثال لا الحصر؟ بالرغم من معرفتنا اليقينية أن مصالح شركات النفطية متداخلة ومتشابكة في عقودها ورؤوس أموالها وحصصها وأسهمها التجارية ومعرفتنا اليقينية أيضاً بعلاقة تلك الشركات النفطية العالمية بالسلطات السياسية والحلقات المحيطة بالقوى السياسية الحاكمة كما هو شأن العلاقة التي تربط عائلة بوش بقطاع النفط والشركات النفطية العالمية. فمعركة الطاقة اندلعت وسوف تصبح هي المعركة المركزية في العقد القادم وما بعده حتى عام 2020 وما يليه ويتوقع الخبراء والمختصون بالشؤون النفطية أن يكون سعر النفط في المستقبل المنظور حوالي 100 دولار للبرميل الواحد وأن شحة الطاقة تكبح عملية التنمية الاقتصادية والصناعية في بلد عملاق مثل الصين وهذا ما دفع الحكومة الصينية إلى تعزيز وتسريع مشروعها العملاق لإنشاء سد الوديان الثلاثة كما أورد ذلك ريمي بيرلان في كتابه المهم الموسوم: " الطاقة كعب آخيل للتنمية الصينية" وبيير بوتور في كتابه الموسوم:" أوروبا في أزمة " الصادرين في أواخر عام 2004 . إلى جانب هذه الاستراتيجية طويلة الأمد هناك هم وانشغال استراتيجي أخرى على المديين المتوسط والقريب ويتعلق بجانبين مهمين هما العملة النقدية والأمن في العالم.
Opinions