أمريكا والخدعة الكبرى في العراق
jawadbashara@yahoo.frهاقد حل عام جديد على العراق والذي من المتوقع والمؤمل انه سيكون عام التحولات الجذرية والاستحقاقات الصعبة والاختبارات العسيرة التي سيتحدد فيها مصير الكثير من السياسيين والقوى السياسية إذا ما جرت الأمور بسلاسة وسارت بصورة طبيعية دون عقبات أو ذرائع أو علميات تزييف أو تلاعبات وشراء ذمم واستغلال للرموز الدينية وغيرها من الأساليب المتبعة حالياً للبقاء في مواقع السلطة. إن أهم اختبار سوف يواجه العراق وحكومته وقواه السياسية وشعبه بجميع مكوناته، هو بلا أدنى شك، مصير الاتفاقية الأمنية وإمكانية تطبيقها كلياً وبصورة حرفية دون خروقات أو التفافات، وهي احتمالات باتت تلوح في الأفق منذ الساعات الأولى لتوقيعها بدءاً من عنوانها حيث يروق للحكومة العراقية تسميتها باتفاقية سحب القوات الأجنبية من العراق فهل هي كذلك حقاً؟
كان المرشح السابق للرئاسة الأمريكية باراك أوباما قد تعهد بسحب قوات بلاده من العراق، في حال فوزه، خلال ستة عشر شهراً، بيد أن الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما لن يتمكن بلا ريب من الإيفاء بوعده الإنتخابي لأنه سيصطدم حتماً بصخرة تعنت جنرالات الجيش الأمريكي واستراتيجية البنتاغون ـ وزارة الدفاع الأمريكية ـ التي لاتلتقي بالضرورة مع استراتيجية ورؤية الرئيس الحديث العهد بخفايا وأسرار وضرورات ودهاليز السلطة التنفيذية الشديدة التعقيد في الولايات المتحدة الأمريكية. فالقادة الميدانيون وعلى رأسهم وزير الدفاع الحالي روبير غيتس لايشاطرون أوباما رؤيته ورغبته لاعتبارات كثيرة وهذا ليس سر ويعلمه القاصي والداني من المراقبين والمهتمين بالشأن السياسي الأمريكي الداخلي. فالانسحاب الموعود لن يكون بهذه السهولة المتصورة رغم كونه أمراً منصوصاً عليه في الاتفاقية المبرمة بين الطرفين العراقي والأمريكي . فالبنتاغون عازم على إبقاء قواته في العراق تحت أي غطاء كان وبأية ذريعة كانت وإلى أمد طويل يتجاوز الموعد الزمني الذي نصت عليه الاتفاقية وهو نهاية سنة 2011 على أقصى حد. فعبارة " الإنسحاب مرهون بالأوضاع الميدانية " تنطوي على دلالات عميقة، ونافذة مشرعة على جميع الاحتمالات والتفسيرات الأمريكية.
فحتى قبل تسلم أوباما للسلطة اضطر لتقديم تنازل كبير وانصاع للضغوط التي مورست عليه لإبقائه روبير غيتس الجمهوري على رأس وزارة الدفاع وهي أهم الوزارات في الولايات المتحدة الأمريكية ، بل يمكن القول أنها السلطة الحقيقية للإمبراطورية الأمريكية. وبالتالي سيكون هناك صراع خفي بين السلطة المدنية المتمثلة بسيد البيت الأبيض الأسود أوباما وسيد البنتاغون الذي يتمتع بصلاحيات واسعة في كل ما يتعلق بالشأن العسكري الأمريكي. فبعد أربع وعشرين ساعة على ظهور نتيجة الاقتراع على الرئاسة في أمريكا في الرابع من نوفمبر الماضي، كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن أن أوباما حوصر من قبل شخصيات متنفذة في حزبه الديموقراطي المنتصر من داخل الكونغرس وخارجه اصطفوا إلى جانب الجمهوريين والعديد من الصحافيين والإعلاميين والمعلقين والمراقبين وجميع العاملين والبيروقراطيين في البنتاغون لإرغامه على الاحتفاظ بغيتس في منصبه لإكمال مهمته في العراق وأفغانستان. وقد اقتنع أوباما بهذا المطلب ووافق عليه بإسم الاستمرارية والانفتاح السياسي والمحافظة على الاستقرار العسكري لكون البلاد متورطة حالياً في حربين وتحتاج للتماسك العسكري في الداخل والخارج والمعروف عن الديموقراطيين ضعفهم وهشاشة مواقفهم فيما يتعلق بمسائل الأمن القومي لذلك وافقوا على فكرة أن يواصل روبير غيتس إدارة دفة السياسة العراقية لأمريكا، رغم معارضة وزير الدفاع لمنطق الإنسحاب الكامل من العراق، وهو يتمتع بدعم وتأييد قيادات الجيش الأمريكي الجوية والبحرية والبرية ومن شأن ذلك أن يمنحه الحرية للمناورة والالتفاف على بنود الاتفاقية الموقعة مع العراق والتنصل عن تطبيق محتواها أو المماطلة والتسويف في تنفيذ بنودها وجعلها حبر على ورق ليس إلا. فالإشراف على الملف العراقي سينتقل من البيت الأبيض إلى البنتاغون بمجرد مغادرة جورج دبليو بوش ومباشرة أوباما مهامه الدستورية لذا من المتوقع أن يواصل البنتاغون كل ما في وسعه للتحايل والالتفاف على إتفاقية " سحب القوات"، كما يحلو للحكومة العراقية تسميتها، حيث سيفرض على هذه الأخيرة ، عبر وسائل متعددة وذرائع وحجج كثيرة، أمر واقع يتمثل بالاحتفاظ بعشرات الآلاف من القوات القتالية داخل العراق وبالقرب من حدوده تكون جاهزة للتدخل في أي وقت وبأسرع مايمكن وفي اقصر فترة زمنية ممكنة. فالقائد الحالي للقوات الأمريكية في العراق الجنرال أوديرنو صرح لمجلة تايمز بأن الانسحاب سوف يحصل ببطء شديد وعلى نحو متعمد كي لايخسر الأمريكيون المكتسبات التي حققوها على الأرض وأن القادة العسكريون سينصحون الرئيس الأمريكي الجديد بإعادة النظر في وعده الانتخابي المتعلق بالعراق القاضي بسحب القوات المقاتلة منه بحدود جدول زمني ثابت ومحدد. كما نشرت صحيفة الواشنطن بوست في 10 نوفمبر تصريحاً لرئيس أركان الجيش الأمريكي الأميرال ميكائيل مولين أنه سيعارض خطة سحب القوات من العراق التي اعتبرها خطرة على الأمن القومي وشاطر زملائه في الجيش فكرة أن خفض القوات يجب أن يتم وفق تقدير وتقويم للظرف الميداني والأوضاع على الأرض، تجدر الإشارة أن أمريكا قادرة على خلق الظروف التي تعتبرها ملائمة لها ، أي أنها يمكن أن تقف سراً وراء العديد من أعمال الفوضى وانعدام الأمن إذا كان ذلك يصب في مصلحتها . من هنا فإن الخلافات ستظهر إن آجلاً أم عاجلاً بين قيادات الجيش الأمريكي والرئيس القادم للولايات المتحدة الأمريكية والسبب هو العراق الذي سيكون الضحية الأولى للخدعة الأمريكية .