أمواتنا بلا عناوين يا مستغانمي !!
مع بداية تفتح وعينا على عالم يحد من حريتنا كان اكثر شيء يزعجنا تلك الاستمارات التي تنتقل في المدرسة من طالب الى آخر لملء فراغي ( الاسم الرباعي...... ) و( العنوان الدائم ....) ومعلومات أخرى اكثر ضجرا ..كنا نتوقف عندما نصل الى حقل ( العنوان الدائم ....) لنتخيل سيارات سرية تنتزعنا من أسرة نومنا في قلب الليل لتدخلنا في ليل طويل ..بلا مدارس ولاامهات ولا حتى هواء ..فالعنوان - هناك حينذاك – يفضح أفكارك ولسانك الطويل في المجالس الخاصةالعنوان في البطاقة الشخصية لا يجعلك تذهب للأبعد وإذا ذهبت فإلى أين ؟ ومن ؟ ولماذا ؟
العنوان يحط من شانك كانسان يجعلك مثل دودة تعرف الطريق الى ثقبها في الأرض جيدا ..
ماذا لو كتب احدهم رسالة ودس فيها كلاما يسيل له لعاب الشرطة وبعثه على عنوانك؟
لذلك كنا غالبا ما نبتر العنوان , لم نكن نملك الجرأة على كتابة عنوان مزيف!
والحل الامثل الطارد للفزع ان نسقط رقما من العنوان او رقمين,وبذلك تشيع الطمأنينة في النفوس لحين وصول استمارة أخرى !!
بعد الخروج من الوطن تحررنا من ( عقدة العنوان ) بل صرنا نعلق عناويننا على الواجهات انتظارا للمجهول ..لرسالة ..لصديق قادم من الوطن يحمل لنا شيئا من رائحته ..لطائر يحمل خبرا من الضفة الأخرى...
وكانت تمر المساءات ولا رسالة...ولا صديق ...ولا طائر....
صرنا نغير صناديق البريد مثلما يغير (بريخت )حذاء وطنيا ..بحذاء...
وصارت الرسائل تخطيء التصويب ..أحيانا...
فمثلا وصلتني اكثر من رسالة عندما كنت في صنعاء على عنواني في بغداد ,ذلك لأنني عندما ملأت استمارة ( معجم البابطين للأدباء العرب ) وثبت عنواني بصنعاء فضحك احد الأصدقاء اليمنيين وقال : هل تظن انك ستقيم في صنعاء مااقام عسيب !!؟ رغم ان جبل عسيب لا يقع في اليمن !!
عندها شطبت العنوان وكتبت عنواني ببغداد ..فجاءت الرسائل البريدية عليه , وعندما أطلت المقام في صنعاء حاذرت ان اكرر خطاي السابق عندما طلبت مني مجلة ( الحركة الشعرية ) التي تصدر في المكسيك إدراج عنواني الى جانب نص نشر لي فيها فثبت عنواني بصنعاء وعندما انتقلت الى مسقط وصلتني رسائل عديدة على عنواني بصنعاء ممن اطلع على عنواني في المجلة !!!
..وعندما تاه صديقي الشاعر عدنان الصائغ بين بيروت ومالمو ودمشق انقطع حبل التواصل بيننا , فوجه لي رسالة عبر ( إذاعة لندن ) أبكت الصخر ...
وذات يوم وصلتني رسالة من الصديق القاص عبد الستار ناصر ( يوم كان لا يزال في بغداد ) يقول فيها انه سينتقل الى العاصمة الأردنية عمان وفي ختامها دون ملاحظة أشار فيها الى ان بامكاني الإجابة عن رسالته على عنوان الشاعر كاظم الحجاج الذي كان مقيما في عمان .
وماان شرعت بالكتابة له على ذلك العنوان حتى فوجئت بوصول رسالة من الحجاج بعثها من البصرة بعد ان لم تطب له الإقامة في عمَان ,فغادرها سريعا , لذا كتبت جوابي على رسالة ناصر على عنوانه في بغداد وإذا بي أقرا له مقالا في جريدة (الزمان ) جاء في ذيله ان الكاتب يقيم في عمَان !!!
أصدقاء كثيرون انقطعت بيني وبينهم الرسائل ل(خطأ في العنوان ) فصرت أتابع أخبارهم عن طريق الصحف , وطبعا كل هذا حدث قبل دخولنا عالم البريد الالكتروني الذي سهل التواصل بيننا كثيرا لأنه بلا مكان محدد
هذه التراجيديا المكانية هل عاشها شعب آخر غير الشعب العراقي ؟باستثناء الشعب الفلسطيني الذي ناله من الأذى والشتات مثل نصيبنا منه , ومازلت أتذكر البرامج الإذاعية التي كانت تبث أواخر الستينيات وفيها يحيي الفلسطينيون ذوبهم الذي تفرقوا (أيدي سبأ ) كما يقال ,بين البلدان العربية !تقول المبدعة أحلام مستغانمي على لسان بطل روايتها " فوضى الحواس " " وحدهم الأموات أصبح لهم عنوان ثابت هذه الأيام " وبفضل المجنزرات التي هدمت مقابر أهلنا في وادي السلام خلال زمن الطاغية صدام عندما طارد معارضيه في هذه المقابر, وما تلاه من أحداث جرت في النجف الا شرف في العام الماضي حدثت مواجهة بين الأمريكان وجيش المهدي الذي تحصن بمقبرة السلام التي تعد اكبر مقبرة في العالم فنال القبور ما نالها من الخراب والدمار , فهل يعلم بطل أحلام مستغانمي ان حتى أمواتنا لم يعد لهم عنوان ثابت هذه الأيام !!!؟