أن نكون معاً ... قضية مصيري
خبرة الثلاث سنوات علمتنا أننا صرنا أضعف فئة في زمن كان يُتَوَقّع فيه أن يكون لنا قرارات حاسمة ومُفصلية في تاريخ وواقع البلاد. فلم نكن يوماً ضُعفاء ومُهَمَشين وعُرضة للانكسار مثلما نحن اليوم. ولم يتمكّن عُقلاء القوم من تشكيل تجمّع يُحسب له حساب في المعُدلات السياسية والاقتصادية، بل والحقيقة تُقال، صرنا أُلعوبة بيد هذا وذاك، ولو بشكل غير مُباشر، هذا إن اعترفوا بوجودنا أصلاً. لقد ضيّعنا فرصاً لنكون رقماً مُهماً في العملية السياسية في العراق، وبالتالي ضاعت فرصٌ مُستقبلية، فمصيرنا كمسيحيين صار مجهولاً، أو على أقل تقدير: غامضاً.حالة مسيحينا يُرثى لها، ونشكر الله على أن هناك مَن يمنحنا الآمان في بلاد المهجر شرط أن نتنازل عن خصوصيتنا وهويتنا الحضارية والفكرية. والكل يُقنع نفسه بأنها الضريبة التي علينا دفعها شئنا أم أبينا. ولكن هل فات الأوان لنتجمّع في حوار نضع فيه خلافاتنا الفكرية والحضارية والقومية لنتوحّد من أجل قضية شعبنا؟ هل بالإمكان تدارك الأحداث للجلوس في حلقة نقاش من إجل إجماع حول قضية مركزية يسعى الجميع كلٌ من موقعه ومُنطلقاته ليخدم الأمة بإخلاص وتفانٍ؟ هل بالإمكان الإصغاء إلى هموم شعبنا وتطلعاته البسيطة؟
إنني أدعو وأُرغب يُولدَ من هذا المخاض الصعب الذي تعيشه فئات شعبنا العراقي بشكل عام، والمسيحي بشكل خاص، أن يُولدَ فكرٌ والتزام أصيل بالإنسان العراقي لتُصان كرامته ويُعاد له هويته ودوره الفعّال، ونحن المسيحيون أقدر على مثل هذا الإنجاز من غيرنا. لا أحد ينكر أهمية وجود كيان مسيحي مُتماسك ليحفظ للبلاد التوازن السياسي الآمن. وهنا يأتي دور الجميع: مُستقلون، رؤساء أحزاب، مُثقفون، رؤساء مؤسسات المُجتمع المدني، رجال دين ... ليتناقشوا ويتحاورا في لقاء موّسع جامع تغلبُ فيه مصلحة شعبنا المسيحي العُليا على ما دونها من التطلعات الشخصية أو الحزبية أو الطائفية. لقاء نحاول فيه تقديم أفكار ومقترحات وتوصيات للمرحلة القادمة من مسيرة البلاد، ليكون لنا دورنا المُتميّز في ما يُدعى بـ "العراق الجديد".
علينا أن نُسمِع جميع العراقيين أن العراق للعراقيين جميعا من دون أن نُؤدي الجزية لأي قيصر كان. فلا تجاوزات ولا فرض وصايات، أو تهميش أو استبعاد أو تهجير قسري مُنظم أو نفي إلى دول المهجر بأسلوب أتكيتي رفيع. كُلنا يعرف ويُقِر أن حقوق للمواطنة سُلبَتَ منّا، وبعضنا يستجدي حقوقه منّةّ من فلان وفلان. لقد عانى شعبنا المسيحي لأبشع عمليات التهجير والاستئصال والتهميش والنفي والتطهير العرقي منذ عقود طويلة، وكُلها كانت بمرأى الكبار الذين اكتفوا بخطابات التعاطف الفارغة، فصارت مأسينا أغاني نرقص لها. لقد دفعنا ثمناً باهظاً لنبقى نعيش على أرض الرافدين، ولا أعرف كم كان سيُكلّفنا لو أردنا وجوداً سياسياً وحضوراً مُتميزاً.
نحن بحاجة إلى لقاء عاجل يجمع رؤساء الأحزاب المسيحية والمُستقلون ورؤساء الكنائس من دون امتيازات شرفية وأتكيتية مُسبقة لهذا وذاك، فالكل معني بهذه المرحلة بقضية شعبنا المسيحي. مؤتمر يُناقش أموراً واقعية تخص شعبنا الذي يعيش ظروفاً استثنائية. مُؤتمر يأتي فيه المؤتمرون ليُصغوا لهموم شعبنا الذي نُريده ونحتاجه لا وقت الانتخابات فقط. مُؤتمر يصحوا فيه الجميع على مأساة أُمة سُلبت منها الإنسانية وصارت تدفع هي ثمن أخطاء وعجرفة وظُلمَ الآخرين من دون أن يكون لها ذنب أو سبب. أُمة صارت تُحاسب على الهواء الذي تتنفسه. شعب يموت ببطء، ويستجدي الحياة على أبواب السفارات والقُنصليات. فيكفينا توصيات من مُناضلون لهم الجنسية والوظيفة والضمان الاجتماعي والصحي، ويُريدونا أن نحلم أحلامهم، ونُحقق تطلعاتهم، وننتخبهم.
ليكن المؤتمر الأول تحت شعار: "تعالوا نشوف حالنا". تعالوا نستعرض واقع شعبنا ببساطة وبدون تكلّف وليُعطي لكل إنسان عشرة دقائق ليتحدث في هذا المحور فقط. من دون مُقدمات ولا استعراض للعضلات في الحياة السياسية. تعالوا نشوف حالنا أين وصلنا وأين أُوصلنا "الشُركاء" وإلى أين يُريد الآخر أن ينتهي بنا المطاف. للجميع الحق أن يقول ما يُريد، ولا يُمنع أحدٌ من الكلام. يكفينا مُجاملات وخُطب نضالية، فيا إخوان حالتنا تعيسة وحضارتنا المسيحية في العراق أهلةٌ لتكون تُحفة من التاريخ، ولن تُسعفنا رقصة الخكة، لأنها آخر حيلة لمَن أُوصدت بوجهه كل أبواب الحياة الآمنة. هل أنا مٌتشاءم؟ لا أظن.
ولكن قبل أن يجتمع المؤتمرون بإذن الله، وجَبَ أن نُذكر البعض بأهمية الآتي:
1. تغيير المناهج والأساليب الفكرية والنضالية لأحزابنا السياسية ومنها الخطاب السياسي الذي أكله الدهر منذ 2003. لقد تغيّر الحال والواقع السياسي يا سادة يا كرام، ولكن مازلنا نسمع ذات القصيدة ونفس الخطاب ويعلو صوت الشعارات العتيقة. لنصحوا على الواقع السياسي والاقتصادي الجديد قبل أن يُغافلنا الدهر ويجعلنا في ذاكرة الأيام.
2. أن تُذكّر الكنيسة بأن العماذ المسيحي فتح الباب أمام المؤمنين لينتموا إلى ما هو أوسع من القومية والحزب والطائفة. لقد صاروا للمسيح، وهم على اختلاف قومياتهم وانتماءاتهم الحزبية، إلا أن العماذ المسيحي يجمعهم جسداً واحداً. لنقول للكنيسة وبصراحة: اتركوا العمل السياسي، والخطاب القومي، واسعوا جاهدين ليكون الإنسان مُحترماً في إنسانيته. علموا الإنسان كيف يحترم الآخر المُختلف، وكيف له أن يصل إلى مُصالحة مع ذاته، ومع الآخرين ومع الله. بشروا بمحبة إنجيل يسوع التي تحتضن الجميع ولا تُفرّق بين هذا وذاك. لنكون صريحين مع الكنيسة: يا كنيسة يسوع المسيح لك من المهام الكثير فاتركي السياسة لآخرين. راقبي، انتقدي وصححي المسار إذا ما أخطاءنا تجاه الإنسان، وإذا ما سلبناه حقوقه. السياسة والقضايا القومية مو شغلكم من يوم تكريسكم لخدمة المذبح.
3. أن ندعو رؤساء الكنائس في العراق ليُجمعوا على موقف هام جداً: وهو أن لا يسعوا للقاء المسؤولين في الدولة كُلٌ بمُفرده ووفق برامجه، بل ليكونوا دوماً معاً فهذا يُعطي حضورهم قوّة وأهمية لقضية شعبنا، وسيحسب لنا الآخرون ألف حساب. نتأسف عندما نلحظ أن رؤساء كنائسنا يُحاولون ترتيب أحوال كنائسهم بمعزل عن الآخرين، لنكن صريحين مع أنفسنا: مثل هذه اللقاءات تحط من منزلتهم أمام مَن هو حالة مؤقتة على الساحة السياسية. أنتم يا رؤساء الكنائس باقون، فيما سيسعى المسؤول في الدولة بكل ما اُوتي من قوة أن يُحافظ على مركزه لأربع سنوات. لكم يا رؤساء الكنائس تأييد ودعم كثيرين، فيما يحاول المسؤول في الدولة نيل أصوات الناخبين كل أربع سنوات حتى لو قدّمَ وعود زائفة وأكاذيب للاستهلاك الإعلامي. فهل تلاحظون أبسط الفروقات بينكم وبين السياسي أو المسؤول في الدولة.
4. أن يسعى مثقفونا وأُدباؤنا المسيحيون لاستعادة مآثر الحياة الثقافية المسيحية الرافدينية (إن صحّ هذا التعبير). ثقافة حية التي اشتهرت على امتداد التاريخ بفلكلورياتها وتنوع ثقافاتها. أن يُشار إلى البيئات الحضارية والتراثية المتنوعة الجميلة والمقدسة فهي بحاجة ماسة إلى أيضا للعناية والتطوير لتتحدث صريحاً عن إسهاماتنا في تاريخ هذه البلاد.
5. أن يكون لهذا المؤتمر قابلية الديمومة من خلال إضفاء روح العمل بأساليب نزيهة ونظيفة وشفافة وصريحة في طرح الرأي والنقاش، وننشر روح الإخاء والمحبة والتضامن من أجل القضية المركزية بين المؤتمرين. أن يكون هذا المؤتمر دائماً مستمرا وفاعلا فتسعى اللجان ذات العلاقة والمُنبثقة من المؤتمر لمُتابعة توصياته والتي لابد أن تأتي واقعية تعنى بشؤون المواطن المسيحي العراقي وشجونه اليومية.
إلى جميع المتحاورين هذه دعوة لتُصححوا هذه الأفكار وتٌضيفوا لها ما ترونه هاماً، فهذه كلّه غنى لا يُمكن أن نتنكر له. فهلمَ نُسجلّ كلمتنا للتاريخ.