Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أيها الفقهاء: كما اختلفتم اتفقوا حقناً لدمائنا؟

-1-
ذكرنا وشرحنا مطولاً في المقالين السابقين، الأسباب التي تمنع الأنظمة العربية من مصالحة السُنَّة والشيعة، تلك المصالحة التاريخية التي ستحلُّ مشاكل كثيرة في العالم العربي. وركزنا في هذين المقالين، على ضرورة فهم أن الخلاف والصراع بين السُنَّة والشيعة صراع سياسي لا ديني. فالسُنَّة لا تعبد – لا سمح الله – إلهاً غير إلى الشيعة وكذلك الشيعة لا تفعل ذلك. ولا الشيعة تنكر نبوة النبي محمد عليه السلام، ولا السُنَّة بالضرورة. ولكن الخلاف السياسي بدأ وفاة الرسول عليه السلام، ومن هو الأجدر والأحق بخلافة الرسول عليه السلام: هل هو أبو بكر صاحبه في الغار، أم أنه علي بن أبي طالب ابن عمه وزوج ابنته وصاحبه في "غدير خم" كما شرحنا في مقالنا السابق؟

ومن هنا، يتبين لنا أن الخلاف السني الشيعي لم يكن خلافاً عقدياً؛ أي على نص أو ركن من نصوص وأركان الإسلام. ولكنه كان على شخص من يخلف الرسول عليه السلام. ثم تطوَّر الخلاف، وتعمَّق سياسياً أيضاً أكثر فأكثر، عندما ألَّفت السيدة عائشة، ما عُرف في ذلك الوقت بـ "حزب عائشة" (السيدة عائشة، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، ومعهم بعض الولاة السابقين كعبد الله بن عامر والي البصرة السابق، وعبد الله الحضرمي والي مكة، ويعلي بن مُنيّة والى اليمن السابق) الذي تكوّن للمطالبة بدم الخليفة عثمان بن عفان، والاصطفاف إلى جانب معاوية والأمويين، مقابل جبهة علي بن أبي طالب. علماً بأن السيدة عائشة كانت غير راضية عن عهد الخليفة عثمان. وهناك بعض الأحاديث التي تُسند إلى السيدة عائشة عن ابن أبي حديد، منها قولها عن الخليفة عثمان: "اقتلوا نعثلاً في كفر" (معنى "نعثل" في تفسير الواقدي هو "التيس الكبير العظيم اللحية") ولكن فقهاء السُنَّة ينفون هذا الحديث لضعف إسناده.

وحارب هذا الحزب في معركة الجمل 656م، وخسر المعركة، وقُتل طلحة والزبير. ولنلاحظ هنا أن زعيمة هذا الحزب - السيدة عائشة – لم تكن تطمع في مال أو جاه، ولكنها كانت تريد لنفسها دوراً سياسياً، وقد حققته. وأن شريكيها الرئيسيين في هذا الحزب (طلحة بين عبيد الله والزبير بن العوام) كانا من كبار أغنياء الصحابة، ولكن كان لهما طموح سياسي في الخلافة. ويقول المفكر التونسي هشام جعيط، إن موقف السيدة عائشة من مقتل عثمان، كان موقفاً سياسياً، لأنه تضمن إنكار شرعية علي بن أبي طالب. ("الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، ص 146).

-2-

إن موقف السيدة عائشة وحزبها من جبهة علي بن أبي طالب، له خلفيات سابقة، وتفسره بعض الأحداث التاريخية المهمة. فطلحة كان يطمع بالخلافة بعد معاوية، وكذلك الزبير بن العوام. ويبين دوافعهما بعض المؤرخين المحللين، وليس الحافظين المكررين.

فخلاف السيدة عائشة مع علي وبيته، بدأ في حياة الرسول عليه السلام. فالسيدة عائشة كانت تظن، أن من أسرَّ للنبي عليه السلام بحادثة "الإفك" وشهَّر بها، كان علي بن أبي طالب. وهي الحادثة التي استنكرها ونفاها القرآن الكريم. وأن السيدة فاطمة ابنة الرسول عليه السلام وزوج علي بن أبي طالب، كانت تُعيّر عائشة بأنها ليست أماً ولا ولاّدة، ولم تنجب أولاداً للرسول. وهذا علمياً غير صحيح. فلا زوجة من أزواج الرسول عليه السلام أنجبت له ولداً، عدا السيدة خديجة. وبعدها أصبح الرسول عليه السلام، لا يُنجب، لا من عائشة، ولا من غيرها من زوجاته الأخريات. ثم اشتد الخلاف بين السيدة عائشة وبين علي بن أبي طالب بعد رحيل الرسول عليه السلام، على إثر تولّي أبي بكر، وليس علياً، الخلافة ومقاطعة علي بن أبي طالب لبيعة أبي بكر مدة ثلاثة شهور لاحقة، كما يجمع معظم مؤرخي تلك الفترة. ثم تفاقم الخلاف بين أبي بكر وبيت علي بن أبي طالب، عندما ذهبت السيدة فاطمة بعد رحيل الرسول عليه السلام لتطالب بنصيبها من تركة أبيها، فكان رد أبي بكر عليها، بأن لا تركة لها، لأنه سمع الرسول عليه السلام يقول: "الأنبياء لا يُورِّثون". ولم يعطها شيئاً. فخرجت غاضبة. وكل هذه الحوادث الشخصية الخاصة أوجدت خلافاً وعدم انسجام بين السيدة عائشة وعلي بن أبي طالب وزوجه السيدة فاطمة. كذلك فإن سرُّ التحالف السياسي بين السيدة عائشة وبين الزبير بن العوام، يكشف عنه زواج الزبير من أسماء (ذات النطاقين) بنت أبي بكر وشقيقة السيدة عائشة. وقد كان الزبير فقيراً فقراً شديداً قبل إسلامه. وبعد إسلامه أصبح من كبار أغنياء الصحابة. وكان يرسل معونات مالية وعينية إلى السيدة عائشة، بعد وفاة الرسول عليه السلام. وترك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وألف فرس، وألف عبد وأمَة كما يقول المؤرخ المسعودي ("مروج الذهب"، ج1، ص544). لذا، فالزبير بن العوام لم يكن يطمح بمال من وراء اشتراكه في قيادة "حزب السيدة عائشة"، ولكنه كان يطمع بالخلافة بعد معاوية له أو لابنه عبد الله. وهذا هو سبب الخلاف بين الأمويين (عبد الملك بن مروان) وبين ابنه عبد الله بن الزبير والي العراق، الذي تحارب مع عبد الملك بن مروان وقُتل.

أما طلحة بن عبيد الله (من العشرة المبشرين بالجنة)، فهو أولاً من قبيلة أبي بكر (تميم). وعندما هاجر إلى المدينة كان خالي الوفاض. وكان زوجاً لابنة أبي بكر الثالثة (أم كلثوم). وقد مات طلحة مليونيراً. وروي عن إسحاق بن يحيى عن جدته سُعْدى بنت عوف (زوجة طلحة الأخرى) قالت: "قُتل طلحة وفي يد خازنه ألف ألف ومائتا ألف درهم (مليون و 200ألف) ، وقوُّمت أصوله وعقاراته بثلاثين ألف ألف (مليون) درهم. وقال المؤرخ الواقدي، أن دخل طلحة اليومي من أراضيه الزراعية وعقاراته، كان يبلغ ألف دينار كل يوم. ("الرياض النضرة"، ص 720).

إذن فحزب السيدة عائشة أو حلفها كان حزباً عائلياً سياسياً منها ومن زوجي أختيها. والعداء بين الأمويين وبين جبهة علي بن أبي طالب، كان نزاعاً سياسياً على الخلافة. وتطوَّر هذا النزاع السياسي بعد ذلك الى الحرب بين قادة حزب عائشة (الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله) وبين الأمويين عندما طمع الزبير بن العوام بالخلافة بعد معاوية، ورفضه مبايعة ابنه يزيد.

-3-

إذن، إن الخلاف المتفاقم اليوم بين السُنَّة والشيعة أصله وفصله خلاف سياسيين، عاشوا قبل قرون طويلة، ولا زلنا نحمل وزر هذا الخلاف حتى الآن، كما لا زلنا منقسمين بسببه، وكأنهم يحكموننا حتى الآن!

وإذن، فإن الخلاف السياسي القديم منذ مئات السنين، تحوّل بفضل فقهاء الطرفين (من السُنَّة والشيعة) إلى خلاف عقائدي على القشور، وليس على البذور، وعلى الظواهر وليس على البواطن، وعلى أحداث تاريخية جرت لا يد لنا فيها، ولا يد حتى لأجيال سابقة فيها. وما كان يجب أن تدفع الأجيال الماضية وجيلنا وجيل آبائنا هذا الثمن الفادح لها.

ولعل المبالغات التي زخر بها تاريخنا القديم بعد الإسلام، وخاصة فيما يتعلق بالأرقام عامة، وهذا الكم الهائل من السباب والشتائم وتزييف الحقائق التاريخية، مبعثه تصدي المؤرخين المتشيعين لكلا الطرفين (السُنَّة والشيعة) لكتابة التاريخ، كما أشار طه حسين في رسالته الجامعية لنيل الدكتوراه من السوربون عام 1917، عن ابن خلدون في كتابة التاريخ ( "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"، ص 40-41).

-4-

وإذا ما اعترفنا وتعرفنا على الخلاف الفقهي بين فقهاء السُنَّة والشيعة - ومنهم من يعتبر هذا الخلاف ظاهرة صحية كمحمد عمارة الذي ينادي بإزالة الألغام الفكرية والتكفيرية بدلاً من إزالة الخلاف الفقهي، الذي يرى عمارة، بأنه لا يمثل المشكلة الحقيقية - فإن هذا الخلاف ينحصر في مسائل ليست بذات أهمية على العقيدة الإسلامية. ولا تقارن بالخلاف الفقهي بين الكاثوليك والبروتستانت في الديانة المسيحية. وينحصر الخلاف الفقهي بين السُنَّة والشيعة في:

1-الاختلاف في أحكام "التكفير" و"التفسيق" للحكام ورؤساء الدولة. والعلاقة بين الحاكم والمحكومين، ومواصفات هذا الحاكم وصلاحياته.

2- تكفير الصحابة، الذين أخَّروا خلافة علي بن أبي طالب، إلى العام الخامس والثلاثين من الهجرة (656م)، وبالمقابل تكفير الشيعة من قبل السُنَّة وإطلاق لقب "الروافض" عليهم من قبل السلفيين والأصوليين المتشددين.

3- آراء الشيعة في توهم التجسيد والتشبيه للذات الإلهية. والغلو العاطفي/الديني للصوفية.

وكما نرى، فإن هذه الخلافات من صنع البشر (الفقهاء) وعلى البشر حلها، لأنها ليست خلافات مقدسة، ولا حلَّ لها إلا بتنفيذها حرفياً، دون تعديل أو تبديل. فعلى فقهاء الطرفين، وهم بشر كالفقهاء الذين اختلفوا في الماضي من الطرفين، أن يجتمعوا ويتنازل كل طرف عن وجهة نظره الخاصة، التي لا علاقة لها بلُب الدين، ولا بمبادئه الأساسية. فلا يشعرنَّ أحد منهما بالغبن، أو بغلبة الآخر عليه، إن كانوا حقاً مسلمين، ويريدون مصلحة الدين وأهله، والتخليّ عن امتيازاتهم السياسية والمالية والاجتماعية، التي يتيحها هذا الاختلاف المزمن والمتوارث.



الحلقتان السابقتان من المقال


الإنجاز الأعظم للمسلمين: توحيد السُنَّة والشيعة -1- - المقالات (د. شاكر النابلسي) 25/12/2009
لو سلكت أوروبا مسلك السُنَّة والشيعة لما توحَّدت ! -2- - المقالات (د. شاكر النابلسي) 30/12/200
Opinions